الأديب إيلي مارون خليل
غالبًا ما يُخالِجُني شُعورٌ صاخبٌ بعدم جدوى الكتابة! شعور لا يلازمني، فحسب، بل يرتديني، أو قلْ يتقمّصُني، يُلِحّ في السّؤال ـ التّساؤل: لماذا تكتب؟ ماذا تكتب؟ لمَن تكتب؟ وما الفائدة ممّا تكتب؟
لا أخفيكم! كثيرًا ما أقصدُ التّوَقّف، فأعجز!
ولن أقول: لأنّ الكتابة قدَري، أو حياتي، أو متنفَّسي، أو ما شابه! فقط أعودُ فأكتب، ولا أعرفُ ماذا، ولا لماذا، ولا لمَن. ولا أتساءل: ما الجَدوى ؟ ولِمَ التّساؤل؟ هل أكون أعرف؟ هل أصبح أعرف؟ هل يُمكن للسّؤال أن يُفيد؟ فقد يكون تَزجيةً للوقت. قد يكون للتّسلية. لامتحان القدرة على التّفكير، التّخَيُّل، العيش، الحياة… أو لأنّني ابن الأملِ، إلّم أقلِ الرّجاء!
ألجَدوى؟ حين تأتي بإفادة. هل يمكن أن يكون للكتابة فائدة؟ لِمَ لا يزال العالَم في تَخَلُّف؟ لِمَ لا تزال الدّولُ والممالك تتنازع، تتحارب، تحاول الهيمنة، بعضها على بعض؟ لمَ لا تزال ناقصة القِيَم؟ لمَ لا تزال السّياسة بلا قِيَم!؟
والتّساؤل؟ حين يتبدّى لك جوابٌ ما. أأنت واثق من أنّك واجدٌ جوابًا؟ لا؟ فلِمَ تتساءل، إذًا؟ ألتّساؤل دليل وعْيٍ، تقولُ في ذاتك؟ دليل الوعي أن تحيا مُحِبًّا، مسؤولا، طاهرًا. فهل!؟
وتزجيةُ الوقت لا تُشعِرُك بثقله. فلا تنتبه له. وتاليًا تستمرّ خفيفًا كظلّ، منتعِشًا كغيمة، حائرًا كفراشة.
ألتّسليةُ؟ تقتل الوقتَ، فلا تشعر بمَللٍ. وإلّم تشعر بملل، تظلّ فرِحًا، إلى حدّ ما. والفرح، ولو ناقصًا، يستمرّ أفضل من حالة حزن تامّ.
تقول: وقد يكون لامتحان القدرة على التّفكير؟ وماذا يُفيد: فكرُك؟ وبمَ يُمكن أن يُفيد الآخر؟ أيّ آخر!؟ للتّخَيُّل؟ وهذا، ما فائدتُه؟ تصويرُ العالمِ أكثر جمالا؟ وبمَ يُفيد الجمال، حين النّاسُ بلا أحاسيس. بلا شُفوفيّة؟ للعيش، للحياة؟ ألعيش عمليّة بيولوجيّة، لا حاجة فيها للتّفكير! ألحياة؟ أقلّيّة يُمارِسونها. فما المَرجوّ!؟
والأمل؟ في أن يكونَ الكونُ أكثرَ رُقيًّا، والنّاسُ أصفى نوايا، أنقى نفسًا، أصفى ضميرًا، أصدقَ حبًّا، أعزَّ كرامةً، أقْصى أبْعادًا، أبعدَ مُسامحةً!…
فماذا أكتب، إذًا، ولماذا، ولمَن!؟
هل تُصَدِّقون بأنّي أعرف؟ فعلا: إنّي لا أعرفُ!
لكن، يتراءى لي، أو أحِبُّ أن أظنّ بأنّي أكتبُ لنفسي! فالـ”أنا”، في اللّاوعيِ، غلاّبة!
فحين أبدأ، ولا أنتبه كيف ولماذا ومتى وماذا… لا يكون في بالي إلاّ صُوَرٌ، وفي روحي أحاسيسُ، وفي فكري فِكَرٌ، وفي قلبي اشتعال، وفي وِجداني ضَباب… ولا يكون أحدٌ من النّاس! حتّى في شِعر الحبِّ؟ تسألون! حتّى في شِعر الحبّ! تُضيفون: وفي القصّة أو الرّواية أو المقالة، أو… أقاطع تساؤلَكم، أجيب، وبجرأة صريحة: حتّى في القصّة والرّواية والمقالة وكلّ نوعٍ أدبيّ! فحين أبدأ، قلت: أكونُ فارغًا من كلّ آخر، من كلِّ آخر محدَّد. ألنّرجسيّةُ تَصهرُنا، تعملُ فينا على تَرَقّينا. كلُّ كتابة جديدة، محاولةٌ لتخَطّي كتابة سبقتْ. وإلاّ فلمَ هي؟ وما المعنى؟ وما الدّور؟ وما القيمة؟
تسألون: ولمَ تنشرُ، وفي غير دار نشر، وفي غير صحيفة، وتُقيم الأمسيات، وتشارك في ندوات ومِهرجانات … طالما أنّك لا تكتب لأحد!؟
ألإجابة بسيطةٌ، صريحةٌ، ساذجة: للانتشار! أليس حبُّ الانتشار، دلالةً إلى النّرجسيّة… الإيجابيّة!؟
وعليه، أيّها الأصدقاء، أوَليس مَن يكتب لنفسه، يكون يكتب للجميع!؟ أوَليست ذاتي، هي ذاتُكِ وذاتُكَ وذاتُكما وذاتُكنّ وذاتُكم وذاتُنا؟ أوَليستْ ذاتُنا كونًا أصغر، على مذهب أهل التّصَوُّف!؟ أوَليستْ ذاتُ الأديبِ كلَّ ذاتٍ أُخرى؟ إذًا، فحين أكتب لإرضاء ذاتي، ألا أكون أكتبُ لإرضاء أيّ ذات أخرى، هنا وهناك وهنالك، وفي أيّ هنا وأيّ هناك وأيّ هنالك ؟ وتاليًا، وأخيرًا: أوَليس الإنسانُ المفرَدُ، إنسانًا جَماعيًّا، إنسانًا في صيغة الجَمع!؟
إذًا، أغبيٌّ، أنا، أم أنا صَبور!؟