بنصغير عبد اللطيف
وأنا أقرأ لشربل داغر دائما تقفز أمامي إشكالية تركيب اللغة ،إنه شاعر مسكون باللغة اللغة احتلته احتلالا كاملا حتى أنه أصبح لغة خطابا كلمات اللغة طاوعته حتى أنه استطاع تأسيس حقول دلالية خطابية ،طاوعته حتى أنه أسس خطابا لغويا يستدعي فلاسفة اللغة واللسانيين للإجتماع وتأسيس نظريات جديدة عن لغة التواصل في الشعر ،شربل داغر قلب الموازين والمعادلات في تركيب اللغة وبناء الصور ،ألف بين الكلمات بطريقة مختلفة تستفز القارئ دائما للبحث المضني عن المعنى.
قرأت قصيدة “غيمتي” لأحاول الخروج منها ،بنسق دلالي فوجدتني أتجول في حقل صور ،دلالية هو خرج من نطاق المفاهيم الدلالية ليؤسس معنا ،يضعه بين يدي القارئ ليضع ذلك القارئ أمام قصيدة تدلك على مصطلح في مطلعها معروف وله معنى الذي هو الغيمة ،ثم يستعمل ذاكرة المصطلح في بناء نسق متتابع من الأحاسيس المرهفة جدا هو لم يفرغ المصطلح تماما من معناه بل طوعه لخدمة إيصال رسالته التي هي عبارة عن أحوال نفسية وأحاسيس مشبعة بالمعاناة التي تثقل كاهله فيحاول حطها عن كثفيه ووضعها في أحضان القارئ،إنها رسالة الشعر عند شربل داغر ألا وهي صناعة قصيدة تسنسخ الشاعر فالقصيدة نسخة من الشاعر،وهذا الشاعر الذي هو شربل داغر لم يستطع إلا أن يركب نسقا لغويا جديدا يستطيع به أن يعرض تأثره بالكون وبالكائنات بطريقة شعرية يسخر فيها المصطلح ويطوعه لأغراض قصيدته
(لي غيمة…
لي غيمة لم أنجح في تتبعها…
فيها وسادتي، عَتَبتي، وطرفُ الطاولة الذي يتجدد فوقه عصير تفاحتي.)
إنها غيمة والغيمة موقعها هو السماء والشاعر لم يستطع تتبعها لأن الغيمة تظهر من الأرض وهي تتحرك يدفعها الريح،ثم يحول الغيمة إلى وسادة ،ثم إلى عتبة ،ثم إلى طرف طاولته ثم يبسط الرسالة للقارئ ليقول أن الطاولة يتجدد فوقها عصير تفاحة المهم أنه عصير وهذا العصير ليس بالضرورة مرا ربما يكون حلوا ،لأن تجربة شربل داغر في الشعر هي ليست عقدة نفسية عصابية بل هي تعمق في تأمل الكون بمكوناته بما فيها المكونات الجمالية فالشاعر لا يعاني ،بطريقة الصدمةالتي تتولد عنها القصيدة إنه فقط يتأمل كونا معقد البناء والقصيدة نتاج لتأمله،تأمل في فلسفة بناء الكون
(فكيف امشي، أو انام، او استرسل في قعدتي، من دونها، وهي حَمَلتني، من دون أن أقوى على جرّها ورائي مثل عربتي الخشبية في صغري، ولا على رفعها مثل نشيدي الأخير…)
القصيدة سكنته وهو يقول كيف سأستطيع المشي من دونها هو لا يستطيع أن يفارقها،وكيف يستطيع أن يقعد مستقيما من دون قصيدته ،انظروا معي كيف تحولت الغيمة إلى قصيدة،وهي حملتني هو متوحد بها حملته،فكيف يستطيع جرها،كما كان يجر عربته الخشبية في طفولته،ولا على رفعها مثل نشيدي الأخير هي استعارة جميلة جدا إذ أن آخر نشيد نحفظه ونحن أطفال يبقى معنا حياتنا كلها نسترجعه متى شئنا حتي أننا نحفظه لأطفالنا
(غيمتي تنساني، وأتفقدها.
لم أفز بها في مسابقة، ولا وقعتُ عليها بعد طولِ مراقبةٍ في زاوية عزلتي…
صوتي، إذ يندس، أو يُمسِّد الخفيفَ في تعاليه.)
ثم يقول،غيمتي وهي قصيدته تنساه أحيانا لا يجد القصيدة،فيتفقدها يبحث عنها لأن القصيدة إما تداهم الشاعر وإما يبحث عنها،وهو اختار أن يشبه القصيدة بغيمة والغيمة تحمل مطرا ماء وتتفرغ منه ليروي الأرض ،(لم أفز بها في مسابقة) ،تطويع للمصطلح (ولا وقعت عليها بعد طول مراقبة) هي غير مكتسبة هو لم يبحث عليها ولا فاز بها (في زاوية عزلتي )هي لم تكن نتيجة لاعتزاله في خلوته. يقول إنها صوته إذ يندس ،هي صوته المندس في داخله (أو يمسد الخفيف في تعاليه )يمسد يمسح على شيء الخفيف في تعاليه يعني ،أنه يتأمل الموجودات في بساطتها ثم في امتدادها في التعقيد. إنها مجرد قراءة تحتمل الصواب والخطأ لشاعر استعصى عل الفهم.
القصيدة عند شربل داغرالشاعر الكبير,طرحت العديد من علامات الإستفهام في مجال الشعر المسترسل,تناوله نقاد كبار أحترهم جميعا وبدون اسثناء,إلا أن مقاربتي لقصيدته كواحد من طلبته تحليلية بالدرجة الأولى أحاول في دراستي الوقوف على المعنى ومحاصرته ,فضاء هذا العالم الفذ بحر من العلوم وفتح للكثير من التساؤلات شكرا جزيلا بروفسور