د.علي حجازي
بعد تلك الجولة القصيرة برفقة حفيدي في سيارتي التي شارف وقودها على النفاد، عدتُ خالي الوفاض لا ألوي على شيء سوى الخيبات المرَّة ، وما أكثرها في هذا البلد! فطوابير الذلّ الطويلة أمام محطات الوقود والأفران والصيدليات والمطاحن وغيرها أدخلت إلى روحي مشاعر النقمة، فجلستُ افكَّر. قل كنتُ ساهمَ الطرف، الأفكار تتقطّع في ذهني المشوش تقطّعَ الحبال والأوصال في هذا الوطن الغارق في أزماته المتراكمة على مدار الدقائق والساعات، وفي هذا الزمن الذي ألغتْ فيه الكورونا أسباب التواصل والتراحم والتوادّ، فالسلام لم يعد مصافحةً، والقبل التي كنّا نتبادلُها ألغيت من قاموس التعبير عن الشوق والمحبّة.
كانت حدقتا حفيدي ابن السنوات التسع مصوّبتين إلى وجهي المحتقن، إلى خطوط الطول والعرض المرتسمة عليه، والتي حفرت عميقاً فيه وسأل:
-جدّي ما بك أأنت بخير؟ إنّني أرى الحزن في عينيك، بمَ تفكّر الآن؟
-أفكِّر في الكتابة التي أضحت عديمة الفائدة ، وغير مجدية في بلد تبلّدت فيه مشاعر ساكنيه حتى بات واحدهم شبيه ضفدع أٌلقوا به في قدر ماء فوق نار ، الحرارة ترتفع وهو متمسِّك بحبال الصبر ، ولا يتّخذ قراراً بالقفز والنجاة من موت محتّم، كان عليه الإسراع في معالجة الأمر ، في الانقلاب على واقع سيء ومصير محكوم بالموت.
حتى الكتابة لم تعد مفيدة، ولا توفِّر لنا حلاً، قل أصبحت تسجيلاً لواقع مشفّ في وجعه ، تقرؤه الأجيال القادمة فتشتم وتسبّ وتلعن و…
-ونحن متى نشتم ونسبّ ونلعن ؟
ابتسمت ابتسامة مغتصبة وأردفت:
-متى تعود خائباً لا تلوي على تأمين حاجة من حاجاتك اليومية.
-عندما لا تجد رغيف خبز ، وعلبة دواء ، وحليباً لطفلك وحفيدك المولود حديثاً.
-وعندما تعلم أنّ بدل ساعة المراقب، مراقب القمار في الكازينو تفوق بدل ساعة الأستاذ الجامعي بعشرة أضعاف، ولعلمك أنّ الأستاذ الجامعي الذي أمضى ثلاثة عقود من عمره في سبيل الحصول على أعلى شهادة جامعيّة يحضّر ويشتري المصادر والمراجع اللازمة للمادَّةِ التي يُدرّسها ، بعد تكبّده عناء السفر، ومشقة الانتقال إلى الجامعة بسيارته في ظلّ هذا الارتفاع الجنوني للمحروقات، فضلاً عن الانقطاع المتواصل لها كما ترى.
-عندما تبصر أطباء ومهندسين وممرضات وممرضين وأساتذة جامعيين مودَّعين مغادرين إلى بلاد لم تُنفق على تعليمهم وتربيتهم قرشاً واحداً، ومع ذلك فهي تفوز بهم وبمؤهلاتهم ، وبما يملكون من معارف وخبرات.
-عندما تعلم بموت الأستاذ بشار عباس الذي أصيب بسكتة قلبيّة بعد خروجه من المراقبة في ثانوية الغبيري الرسميّة. هذا الشهيد الذي أحسّ، من دون شك، بالآلام الصدريّة التي تواكب الذبحة عادةً، غير أنّه فضل إنجاز مهمّته التربويّة والإنسانيّة فكانت الكارثة.
-عندما تبصر أساتذة أنجزوا مهمّة المراقبة في الامتحانات الرسميّة، أو الانتخابات النيابيّة واقفين طابوراً، ساعات طويلة، بقصد قبض المبلغ الزهيد المخصَّص لهم بدل أتعابهم. والذي يدفعه لهم موظّف كان تلميذاً في المدرسة التي يدرّسون فيها، بل في المدرسة التي درسّته فيها الأدبية الأستاذة رائدة التي ساءها تجاهله لها، فبعد دفع المبلغ لها قال:
اللي بعدا (بعدها) فرشقته بنظرة عاتبة وخرجت تشتم هذا الزمن الحقير .
-عندما تقرأ وصيّة الشاعر الأديب الأستاذ مصطفى التي نشرها على صفحته يعلن فيها:
“لا تزوروا قبري الذي لا يحوي سوى رميم عظامي، بل تذكّروا كتاباتي ومواقفي … وهو ينعى نفسه بعد قصيدة كتبها أو قصة نشرها منتقداً المسؤولين الذين اوصلونا إلى هذه الحال التي لا يرثى لها
-وعندما تبصر سيف السلطان يكسر قلم هذا الأديب وذاك الشاعر، ويريق دم محابرهم
وعندما وعندما…
-جدّي اتسمح لي بورقة وقلم ؟
-بالطبع، لك ما تريد يا حبيبي، ولكن ما حاجتك إلى الورقة والقلم؟
-أريد كتابة قصّة
-أأنت ترغب في ذلك!
-نعم
بعد وقت قصير غادر حفيدي المكتب، وهو يغطي عينيه الجميلتين بكفيّه الواعدتين .
أسرعت إلى الورقة، وقبل قراءة ما فيها أبصرت دموعاً نديّة لم تستطع الورقة امتصاصها، فأطلقت تنهيدةً طويلةً لم أشأ له أن يسمعها، وهمست:
“أتبكي الآن يا حبيبي، قد يهون العمر أمام دموع طفل يافع” قلت ذلك وشرعت أقرأ ما كتبه، ولكم كانت دهشتي كبيرة عندما وقعت على لغته الجميلة، وجمله المترابطة، وأفكاره الجديدة، كلّ هذا البهاء في هذه القصّة جعلني أبصر قطرات من دمع شفيف مرتسم على أهدابي.
لا شكّ في أنكم ترغبون في معرفة ما كتب حفيدي؟
-لا لن أقرأ لكم كلّ ما خطّته أنامل طفل أبصر توّاً مشاهد يشيب لقساوتها الأطفال. حفيدي حبّر بدموع نديّة أوجاع جدّه الخائف ، نعم، أنا الآن خائف، فلا تندهشوا من صراحتي، لأنني أقتدي بقول الرسول الأكرم (ص): أولادكم “مجبنةٌ مبخلة” وهو، حماه الله، شجاع لأنّ دموعه حفرت على ورقة لن أعطيها لأيّ واحد منكم، بل سأحتفظ بها أيقونة نادرة. لقد سجّل أسماءً وكنى وألقاباً. لقد سمّى اللصوص بأسمائهم، وما لفتني أنّه يعرف اسم المتحكم بالمال والرقاب، وأسماء عصابة جمعية المصارف ورئيسها، وأسماء القائمين على كارتيلات النفط والغاز والدواء وحليب الأطفال والطحين .
يا إلهي من أين له كلّ هذه المعلومات ؟إنّه يخاطبهم بكلام مباشر:يا لصوص ألا تشبعون ؟
لا أخفي عليكم إنّني أخاف على حفيدي، أخاف عليه من جرأته، من سواطير الأزلام والمنتفعين والتابعين، أخاف عليه من الزعران.
توقّفت قليلاً وشرعت أفكّر في أمر هؤلاء المسؤولين الواردة أسماؤهم في هذه القصّة المغرقة في واقعيتها وقلت هامساً: “إن لم يسارع هؤلاء إلى معالجة هذه الأوضاع المتفاقمة، والتي أضحت لا تطاق قد يذهبون سحقاً تحت أقدام هذا الجيل الشجاع جيل حفيدي الذي حفر أسماءهم وألقابهم في صميم جيناته الوراثية ، لينقلها مشفوعة باللعنات التي صبّها عليهم وعلى أولادهم وأحفادهم والذراري كما صبّها على هذا الزمن وعلى الساكتين عن سرقات موصوفة ، وجرائم وصفقات مشبوهة يندى لها الجبين إلى أبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده.
“يا الله هو يجرؤ على قول ما لا أقدر على البوح به أنا الآن، ذا لأنني أخاف عليه، خوف جدّي على أبي وخوف أبي عليّ من بطش الأزلام المتحكمين آنذاك.
أغمضت عيني ورحت استعيد أيام الشباب الأوّل، حيث كنّا نكتب شعارات على الجدران، ونسمّي المسؤولين واللصوص بالأسماء. ما الذي جرى لنا نحن الآن؟ أيتوجب علينا أن نعود أطفالاًً لنسمّيهم بأسمائهم ؟
يا الله ما أجمل الطفولة (همست)
بل ما أجمل توقيع حفيدي في خاتمة القصّة
( الأديب الشريف )
غادرت المكتب الذي وضع عليه قصَّتَه وتوجّهت إليه، احتضنته بشوق كبير، وزرعت قبلة في جبينه العالي وقلت له:
حبيبي، اللعن والشتم والسب حرام في الدين
نظر إليّ وقال:
-أحلال ما يفعله هؤلاء اللصوص الناهبون في حاضرنا ومستقبلنا؟
قبّلته ثانية وثالثة وقلت له:
لك ما تشاء فلا تبدّل في قصتك حرفا يا حبيبي الأديب الشريف والجريء، لك قبلاتي مع دعائي إلى الله أن يحميك ، ويكتب لك السلامة والنجاة والتوفيق والنجاح ، بإذن الله، بإذن الله يا حبيبي
قبريخا في 4/ 7/ 2022
قصة رائعة، وسيظل قلمك سيفاً مسلّطاً على الظلم، دمت بحفظ الله ورعايته🙏