إيمان سلامة
صيدا… بوابة الجنوب ووريثة صيدون الفينيقية التي نشرت الأبجدية في بلاد اليونان، هذا ما ذكره مؤرخوها واعتبروه دوراً حضارياً مهماً، بالإضافة إلى اكتشاف مادة الصباغ الأرجواني آنذاك في بحرها، ذلك أن وقوعها على ساحل البحر المتوسط في جنوب لبنان، على مسافة 45 كيلومترا باتجاه الجنوب الغربي من بيروت، جعلها صلة وصل بين المدينتين والعالم، ويأتي ترتيبها الثالث في المدن اللبنانية واكبرها في محافظة الجنوب.
أجمع علماء التاريخ أنها أقدم مدن العالم شهرة بتاريخها والشاهد على ذلك مرفأها وقلعتها وأماكنها الأثرية.
تسمياتها وتاريخها
تسميات كثيرة اطلقت على هذه المدينة منها “صيدون” باللاتينية واليونانية و”صيدو” بالعبرانية، والاسم مشتق من كثرة السمك في شواطئها، إذ عمل اهلها الأقدمون في صيد السمك، وكما ذكر الكاتب الفرنسي جاك نانتي في كتابه “تاريخ لبنان” (ص- 22) أن اول مدينة أنشأها الفينيقيون هي صيدا حوالي سنة 2800 ق.م، وأسسها ابن كنعان البكر صيدون وسميت باسمه، كذلك أورد الشيخ احمد عارف الزين في مؤلفه “تاريخ صيدا” أن صيدا من أقدم مدن العالم، وأخذ اسمها من بكر كنعان حفيد نوح (2218 ق.م او قبل ذلك)، وعرفت في أيام يشوع بن نون بأم المدن الفينقية.
تاريخها
عرفت هذه المدينة تاريخياً في الألف الأول ق.م، ونعمت بالازدهار أواخر الالف الثاني، وكانت تقسم إلى قسمين، كما تدل نقوش معبد آشمون:
– صيدا الكبرى او البحرية واشتهرت كمركز للصناعة والتجارة وتقوم المدينة الحالية مكانها.
– وصيدا الصغرى وكانت تقع في الضاحية على سفوح المرتفعات المحيطة بالمدينة.
ويذكر ان مجيء الفينيقيين الى بلادنا يعود الى الالف الثالث ق.م، فقد اثبتت عمليات التنقيب التي بدأت عام 1914 على يد الفرنسيين واستمرت حتى منتصف الستينات، أن اليونان أول من اطلق تسمية “الفينيقيون او الفنيقيين” على سكان الساحل السوري الأوسط والجنوب، وكما كانت “فينيقي” تعني عند اليونان اللون الاحمر، فقد استعملوها للدلالة على الساحل اللبناني وسكانه.
عرفت صيدا مراحل تاريخية بدأها الرومان ثم البيزنطيون فالأمويون والعباسيون والفاطميون والصليبيون والعثمانيون وغيرهم. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وزوال الحكم العثماني وبعدما كانت صيدا معزولة عن باقي الكيان اللبناني بفعل إرادة حاكميها حينها، أعيدت إلى الوطن أوضمها إلى الجمهورية اللبنانية، فعرفت منذ ذلك الوقت بعاصمة لبنان الجنوبي.
بعد ذلك واجهت مرحلة الاحتلال الغربي أي حقبة الانتداب الفرنسي والبريطاني التي استمرت، حسب ما تشير كتب التاريخ، حوالى 23 سنة، ليكون 22 نوفمبر 1943 تاريخ استقلال لبنان وهزيمة الجيوش الاجنبية وخروجها من أراضيه.
ثم رزحت تحت الاحتلال الاسرائيلي (1982) الذي دام نحو 20 عاماً، ليأتي 25 أيار 2000 تاريخا لتحرير لبنان باسره من هذا الاحتلال، بفعل صمود شعبه واهله في وجهه وانهزامه أمام إرادتهم بالبقاء وحب الوطن.
الحضارات ودلالاتها
بدأت عمليات التنقيب عام 1914 على يد الفرنسيين، وبقيت حتى منتصف الستينيات، ثم عادت لتنشط عام 1998 بتمويل المتحف البريطاني، مما ساهم في التعرف إلى تاريخ صيدا وحقباتها المتلاحقة، كما أوضح مشرفو البعثة البريطانية على أعمال التنقيب والبحث، وأشاروا إلى أنه، من خلال التعرف إلى الطبقات الأرضية، يمكن تسمية مراحل التاريخ الذي عاصرته مدينة صيدا عبر توزيعها وفق ما يلي:
ست طبقات من الصخر وصعوداً، ترقى إلى الالف الثالث قبل الميلاد، وتسمى بالعصر البرونزي القديم.
ثماني طبقات سميت بالعصر البرونزي المتوسط والجديد، وترقى إلى الألف الثاني قبل الميلاد.
خمس طبقات وتعرف بعصر الحديد أو الفينيقي الفارسي وتعود إلى الألف الاول قبل الميلاد.
أظهرت عمليات الحفر طبقات إسلامية ورومانية، وما زال البحث جار ولو عبر خطوات بطيئة لكشف مزيد من الأدوات والأواني الذهبية والفضية، القمح، الشعير، الفخار، أعتدة حربية مدفونة، وما إلى ذلك من أشياء تدل استعمالاتها على أصحابها والحقبات التي كانوا موجودين فيها.
اقتصاد صيدا
اعتمدت صيدا، بالدرجة الأولى، على زراعة الحمضيات كالبرتقال والحامض والموز، وساعد في ذلك وجودها على سهل ساحلي خصب التربة وغزير المياه وكثير الأشجار، كذلك عرفت زراعة القطن استمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر.
تجارتها
تميزت صيدا عن بقية المدن بأن الحضارات والشعوب التي وطأتها وسكنت فيها جعلت ساحلها البحري مقصداً تجارياً تعج فيه مختلف ملل العالم من اعجمي وعربي وفارسي وتركي وغيرهم. أضف إلى ذلك تجارة الأخشاب وصناعة السفن واستخراج الصباغ الأرجواني لطلاء الاقمشة.
صناعاتها
الصيدونيون اول من صنع الزجاج خاصة الشفاف منه، وانشأوا معامل لصناعته على طول الخط البحري وصولا إلى مدينة الصرفند المشهود لها بجودة الصنع عالمياً آنذاك، وتميزت بـ: صنع الأواني الخزفية، الحفر، النقش، صب الذهب والفضة، المصنوعات المعدنية. كذلك هم اول من عني بتبليط الشوارع، وجعلوا لصناعة السفن شهرة واسعة وصلت إلى أهم المدن وراء البحار، وفي متاحف أوروبا معروضات كثيرة لصناعات زجاجية صيدونية ملونة وجميلة.
عائلاتها واصولها
اختلفت أصول سكان صيدا وجنسياتهم، ففي الزمن القديم ومع ازدياد حركة التواصل التجاري بين المدينة والعالم على اختلاف لغاته وأديانه، استقرّ كثر منهم في صيدا كموطن أبدي له، وإذا بحثنا عن أصل هذه العائلات لوجدنا مثلا ان عسيران عائلة جذورها إيرانية، حسب ما اورد الباحث الدكتور طلال المجذوب، الديماسي جذورها تعود إلى مدينة الدماس في سوريا.
أما الاسكندراني فنسبة إلى الاسكندرية العاصمة المصرية، آل المصري وسعد الى الجذور المصرية ذاتها، واما آل البزري فاصولها مغربية وتلفظ البذرة، ويعود تاريخها إلى مئتي سنة أو أكثر، الزنتوت والمجذوب أيضاً ينتسبون إلى الجذور ذاتها، إلا أن المجذوب أقدمها وترجع إلى اربعمائة سنة.
كذلك عائلة قطب، يعود أصل الكلمة إلى المراتب الصوفية الخمسة، وتعني المرتبة الاولى التي يصل إليها الإنسان المتصوف، أي المتديّن من ناحية أدائه الديني وسلوكه في الحياة.
عائلة الكيلاني، جذورها إيرانية وأصلها الغيلاني او الجيلاني، ولكن اخطاء تسجيل الاسماء العائلية واردة في كل زمان ومكان فتتغير الأحرف كتابياً.
اليوم، مع ترسخ جذور هذه العائلات، دخل جيل آخر يتلازم اسمه مع نوع المهنة والحرفة التي يعمل فيها، على سبيل المثال صانع الجواهر، غدت صفة مهنته اسما له الجوهري، كذلك الحكواتي (يروي الحكايات في المقهى القديم)، الزعتري (بائع الزعتر)، البني (بائع البن)… فضلا عن الأسماء التي تحمل صفة قدح أو ذم مثلا: أبو عقدة، أبو ظهر، أبو زينب، أبوالشامات… ونسبة لاداة او نبات او حيوان او شيء كالابريق والكشتبان والبصل وغيرها.
هذه مدينة صيدا، يختلف سكانها بجنسياتهم وأديانهم وآرائهم، إلا أنهم متفقون على أنها الأرض التي يحبون، ويسعون دائماً أن تكون رائدة المدن الطليعية.