بوح ربيعٍ سِتِّينيّ… في الصيف الهنديّ (*) لهنري زغيب

بقلم: د. ناتالي الخوري غريب

هو شَعُّ ربيعٍ طلٍّ، من شرفة فجرٍ هلَّ، شرقة صيفٍ شهق لها العمرُ، فكانت “نجمة العمر”التي حوّلت خريفَ شاعرٍ على”مشارف الستّين” ديمومة “ربيع لا يعرف photo(1)الهَرَمَ”، ثمرته آيات حبٍّ ضُمّ في دفّتي هذا الديوان الجديد -“ربيع الصيف الهندي” للشاعر والأديب “هنري زغيب” الصادر عن دار الساقي بيروت-لندن 2010″-الواقع في 111صفحة.

فكان هذا الديوانُ شرنقةً لفّتها خيوطُ الحبّ، وغزلتها حرارةُ الشوقِ، وأنضجها “تصالب شعاعين”، فطارت فراشات ربيعيّة حوّمت في فضاء الشعر وألقه، شهادةَ حبٍّ وبوحَ ميثاق، خطّته نبضاتُ حبّهما، “عمرًا من الأمنيات” نحو الأفق المترامي….

وكان هذا الديوان، إعلانًا لبداية زمنٍ جديد، وعمرٍ جديد، ودنيا جديدة….

وإعلانًا لخاتمة أحزانٍ وفراغٍ، وإقفالا لأبواب ماضٍ أليم،

هو يقظةُ وعيٍ، وذوق نضجٍ، على مفترقٍ بين الماضي والحاضر،

لشاعرٍ، من هوّة الخيبات آتٍ، يجرّ وراءه أخطاءه وخطاياه،

 لشاعرٍ، من تيه الصحارى آتٍ، من وجع غربةٍ أثقلته فبات “يحذر المِزَقَا ويخاف النَزَقَا”.

وآتٍ من لسع “سياط السِّوى” و”سموم عيونهم” على قلبٍ “قضّته براثنُ العمرِ”،

فنادى حبيبةً استجابت، كتبها قصيدة أنارت عمرَه، فكانت “نجمة عمره”.

بين الشاعر والرجل

وإذا أردنا التعريفَ بهذا الديوان، فهو يقع في أربعة أقسام، يشكّل القسمُ الأوّل بيانَ الشاعر في التعريف بهذه القصائد في تسع صفحات من حيث ظروف ولادتها، وهاجس العمر الذي يقضّ مضجعه على مشارف الستين، واعترافاته بالحبّ الذي حوّل حياته، اعتراف بالمصالحة التي تمّت بين الشاعر والرجل بفعل حبٍّ زلزل كيانه، اعتراف، فصل فيه الشاعر بين شعر الغزل المقنّع، وشعر الحبِّ الصافي الذي يخلع الأقنعة، في حوار مع الذات يدعو فيه إلى تصالح جسد الحياة بجسد اللغة.

 وفي عملية إحصائية بسيطة لهذا البيان-الاعتراف، نرى أنّ البطل فيه هو الزمن أو بالحريِّ الخوف منه، بحيث نرصد ما يزيد على المئة كلمة متكرّرة عن الزمن والضمائر التي تعود إليه: العمر- مرحلة فاصلة من عمري-الستون- وعي الزمن الهارب- الحاضر- المستقبل- الماضي- صحوة العمر- غسق العمر- يتصالح الزمن في أبعاده- انصراف العمر- صباح عمرٍ. الخريف- الغروب- صبح دائم- الربيع الدئم- متأخّر- يرحل- غدي – ربيع الصيف الهندي…

نلاحظ أنّ كلّ النعوت أو الإضافات المتعلّقة بالزمن الماضي، تنمّ عن خيبة وخوف وألم وأخطاء وخطايا وسياط وهدر وقضم، أمّا  الجمل المتعلّقة بالزمن الحاضر، فهي جمل استفهامية فيها من التردّد والخوف من ارتياد المجهول، وإتقان دراسة الاستعداد والجهوزيّة لما يمكن أن يكون، فالحاضر هنا متمثّل بمرحلة الستين، هذه المرحلة التي يعتبرها الشاعر فاصلة في عمره مرحلة حسم الخيارات:أأختار؟- أأدخل؟ أأقفل عائدًا؟ أما زال عندي عمر؟…

أما زمن المستقبل، فترافقه مفردات التغيّر والتجدّد ووداع السنين المالحة والاستقالة منها. إنه زمن تخطي التردد والدّخول إلى زمن جديد، إلى ربيع يطول، تزيّنه نجمة عمره، فالنجمة ُ دليلُ ربيع دائم لا يعرف الغروب. إنه إقفال لكلّ الزمن الماضي أملًا بصبح دائم…

حبّ ربيعي

  أما القسم الثاني، فهو القصيدة الطويلة التي توّج الديوانُ اسمَه بها “ربيع الصيف الهندي”، والصيف الهندي موسم شائع في أميركا الشمالية يأتي غالبًا في أواخر أيلول، ولا يعيش سوى بضعة أيّام وينقضي، ومدلوله “تجديد يأتي مفاجئًا أو…متأخِّرًا”، وهذه القصيدة هي فتحٌ لمجال جديد في زمن القصائد، فيحدد زمان القصيدة العام 2023- والمكان ذات شاطئ، وبذلك أراد الشاعر أن يطمئنّ إلى صواب قراره في الدخول إلى ربيع جديد، فيستبق في رؤياه الزمن الآتي ويخطّه كما يريد أن يكون، أي أراد استبقاء حبّه حبًّا ربيعيًّا، فكتب ديمومة ولهِهِ وهِيامِهِ، مستبقًا خمسة عشر عامًا، ليعلن على الملأ صواب خياره، ومن ثمّ يعود تدريجًا إلى الوراء ليذكر ماضيًا جميلا، وكأني به أراد أن يكتب ماضي الأيام اللاحقة، فاستبق الزمن  ليرجع إلى اللحظة الحاضرة في جمالها، محاولا كتابة خلودها. فالحبّ في هذه القصيدة متجدد ولها وهيامًا ليبلغ الخريف وهو في ربيع، أراد في هذه القصيدة أن يتحدّى الزمن والعمر في لعبة الفصول، حبّه لنجمة عمره بما فيه من قدرة تحويليّة على تخليد لحظة السعادة بقوّة الحبِّ الصافي وذوق نضجه، فوعي الحبّ عند الشاعر أروع من الحبّ .

أمّا المكان الذي حدّده الشاعر”ذات شاطئ ” فهو فعليًا رمز إلى دفق الحب وسعته، إلى المدى والأفق المترامي الذي لا يمكن أن يحدّ حبيبين به، فيصبح الحبيبان أكبر من المكان، يطالان الأفق بامتداد آمالهما يخصّبان الوقت عمرًا فيمضيان معًا إلى آخر العمر، يقول في ختام القصيدة:

أيا ذاك “صيف الهنود

بدأناكَ لكن سَتُكمِلُ وحدَك

لأنّ حبيبي سيكمل بعدك

هرمنا من الأمسِ

لكنّنا بِصِبا العمر في غدنا نحلم

نذوق خريف الحياة معًا،ربيعًا من الحبِّ لا يهرمُ

غدًا يا حبيبي،متى نهرُم !/

إنّه تصوير لإرادة حبيبين  في المضي سويّةً إلى آخر العمر، على طريق رسماها بحبّهما وأملهما… إنّها إرادة المصالحة بين الحاضر والمستقبل، فأراد الزمنَ كما عند برغسون “الزمن بمعنى الديمومة DUREE وليس TEMPS أي دفعة سيّالة أو مجرى متحرّكًا، وهو الزمان الحقيقي الذي أراد الشاعر الاعتراف به ورسمه لديمومته كما يشاء.

فالحاضر أي”الآن” نهاية الماضي وبداية المستقبل، به ينفصل أحدهما عن الآخر، فهو فاصل بينهما بهذا الاعتبار، وواصل بينهما باعتبار أنّه حدٌّ مشترك، وحبيبة الشاعر أو نجمة عمره، هي الحاضر بكلّ قوته وحضوره،هي المرحلة الفاصلة بين الـ”ما قبل” والـ”ما بعد”، هي القدرة التحويلية من الحزن والفراغ والأسى إلى العبق الذي يغمر الغمر، هي من يحولَّ الخريفَ ربيعًا، والمحدودَ افقًا، والثنائيّةَ واحديّةً.

hanri-zgeyb   RABIH

 فصل من حياة

 والقسم الثالث من الديوان هو الثنائيات التي قسّمها الشاعر في سبعة أبواب، والثنائيات محاولة في “كبسلة القصيدة” كما يقول الشاعر،أرادها إيجازًا وإلماحًا مشغولة على تقنيّة فنيّة. أمَّا ما يربط فيما بينها هو الزمن بين ماضٍ يئن من لوعة أليمة، وحاضرٍ يعده بالفجر الآتي ربيعًا لا يعرف الهرم.

ففي كلّ ثنائيّة حالة أو حدث، مناسبة أو مزاج فصل من حياتهما معًا، تتوحّد في زمن واحد..

وفي كلّ ثنائيّة ثنائيّات، وإذا حاولنا تتبّع ظاهرة  ثنائيّة الضمائر التي يتقن الشاعر فنّها، في مختلف أبواب قصائده السبع، تراه في الباب الأوّل “الزمن وأنا” وقد وعى نفسه يخاطبها، فيستخدم ضمير المتكلم مستترًا ومن ثمّ متّصلًا (أراني)= أنا أرى نفسي” والضميران في أصلهما متوحّدان في ذاته ويعودان إليه ليدرك الخطوة التي يقوم بها. فهو الفاعل والمفعول معًا. ومنها: أحملني – خطوتي- ثم ثنائية ضمائر المتكلم مستترًا ومنفصلا مع  ضمير الغائب التي تعود إلى الزمن: والخوف منه:أما الـ”أنتِ” هنا، فحاضرة مستعدّة للتدخل في فعل الخلاص بانتظار أمر الشاعر وطلبه:

يقضّنيي العمرُ

تبدو لي براثنه

خوفي ليغدرني من سقط مرتفعِ

أكاد أغرقُ

في خوفي

وفي لججي تجتاحني!!!

فابسطي كفيّكِ واندفعي.

وفي باب السّوى “ثنائية ضمائر تقوم على المتناقضات، بين “أنا” الشاعر والـ”هم” التي تعود إلى الناس التي جلدته بسياطه وسموم أعينها، والثنائية الضديّة في أفعالهم مقابل أفعال الشاعر: تماهوا/ارتحلوا/- بادلوني/عقوقًا- حاقدون/وعي  الحقد… والـ”أنتِ”حاضرة مستمعة عن ماضي الشاعر بانتظار إشارة من منه للتدخّل:

لا تعذُليهم:

تماهوا فيَّ

وارتَحَلوا

وبَادلوني عُقُوقًا ليسَ ينْكَفِئُ

كَفَاهم حِقْدَهمُ

أنّهم واعونَ حقدهمُ

وَاَنَّهم

من جُذى حُبّيهِمِ

دَفِئوا

وفي موقع آخر : رَاَيتِ أن أصْعُبَ

استهوَلتِ أن غرفوا من معجني

واستباحوا منّي المؤنا……….

وفي الباب الثالث تحت عنوان”بعضٌ من حبّنا”بعض حكايات تجمع التقاءهما وانشدادهما لبعضهما بالـ”كيف”ووعي الـ”كيف”وإدراكه. وثنائية الأنا والأنتِ موجودة، لكنّ الضمير الضيف هو صمير الغائب الذي يعود إلى السماء وجنّة النعيم التي أدخلته إيّاها الحبيبة فيقول في إحداها:

بَلى أُحِبُّ!!!وهَا استاهَلتُ نِعمَتَها هذي السَّماءَ

كم لي أُمَنيّهَا

طوباكِ

أدْخَلْتِنيها!!!

أَنتِ نِعمَتُهَا

إِيْ

فَلْنَعْهَا معًا

لِلْعُمرِ نَبْنيهَا(ص69)

وفي الباب الرابع ضمائر الأنا والأنتِ حاضرة والضمير الضيف هو الشعر والكتابة، فتتماهى الحبيبة في الكتابة والشعر، فهي نبضه والشعر سكناها، فشعره على قدر ما تناداها استجابت  فبدت وكأنّها هي التي كتبت، وهنا مرحلة مفصليّة في الانتهاء من التكلّم على الما قبل وآلامه،هوسيطرة حضور الآن ومفعوله في الشعر والكتابة وابتداع الزمن الجديد:

أعودُ إلى الشِّعرِ؟

أم هوَ عادَ إليَّ لأنّكِ أنتِ به؟

لأجلي خلّيكِ نَبضًا لهُ

وَحينَ يلوحُ لكِ

انتَبِهي!

كذلك الباب الخامس”منكِ” والسادس”إليكِ” لا وجود إلا لضمائر الأنا والأنتِ مع وصف عبء غياب  وروعة لقاء في تَكَوْكُبِ ليلٍ وبهاء ربيع وبرق كيانٍ، فيحتويها وتحتويه لتنبض القصائد ضوعًا وبوحًا وفوحًا أزاهير حبٍّ ربيعيّة تملأ الفضاء،لأنّ الشاعر هنا يحب ويذوق نضج حبّه ويعيه ما يعطيه فرحًا مضاعفًا.

حتى يصل في مجموعة الثنائيات الأخيرة بعنوان “أنتِ وأنا” إلى استخدام ضمير المتكلم في الجمع “نا” لينتقل من الثنائية إلى الواحديّة بعد وعي هذا الحبّ،فيقول:

 هذي أتيتِ!!!

تَتَوْأمنا

يشدُّ بنَا اللقاء

حنينٌ غابرُ العَبَقِ

كأَنْ وُلِدنَا معًا

في قلبِ شرنَقَةٍ

أنتِ الـ”أنَا”!

وأنَا؟

ما من “أنا”يَ بَقيْ.

 في هذه الحالة من ترقي الحبّ وسموّه بعد الاستنارة به، فنيت أنا الشاعر في من يحبّ، فنى عن نفسه، فناءً تليه متعةُ البقاء في من يحبّ. وبذلك يصل الشاعر إلى أقصى حالات الحبّ الممكنة، في ارتقاء تسلسلي تصاعدي رصدناه من خلال حركة الضمائر ومدلولاتها، فيتصالح مع نفسه، ويقفل أبواب ماضيه الحزينة، ليبدأ زمنًا جديدًا، يقطف وحبيبته منه دنياهما الجديدة، فيختم بالتوأمة بينه وبينها كارتداد لما بدأه في قصيدته الطويلة “ربيع الصيف الهندي”، تصالب شعاعين، وتوأمة عاشقين حوّلا الحياة ربيعًا دائمًا.

صوت وصورة

القسم الرابع، هو القرص المدمج/ وهو محاولة أولى في إلكترونيّة القصيدة، إنّها محاولة في إيصال الصوت والصورة  تأكيدًا على صدق صوته العاشق، وتاليًا تأكيدًا  أنّ صنعة الشعر لا تقلّ أهميّة عن انسكابه ملهمًا في الكلمات.

جديد هذا القرص المدمج أنّه محاولة أولى في تسهيل تفكيك القصيدة وتاليًا تحليلها، فنجد الثنائية وقد تلوّنت بألوان أربعة، اللون الأوّل لكلّ الحروف التي يربط فيما بينها تنسيقًا صوتيًّا يجعلنا نجد الرويّ والإيقاع الداخلي للقصيدة، ومن ثم اللون الآخر للكلمات التي تشكّل الثنائيات الضديّة والتي تصبّ في خدمة المعنى التي تهدف الثنائيّة إيصاله،واللون الثالث للثنائيات المتقابلة أو الكلمة المفتاح، أمّا اللون الأخير، فطبعًا هو الذي تكتب به جميع حروف القصيدة.

يترافق مع قراءة القصيدة بصوت الشاعر، موسيقى راقية تتناغم مع القصيدة بوحًا وحبًّا وربيعًا، كذلك الرسومات واللوحات التي تتتالى في مشهديّة تتناغم مع الصورة والصوت واللون، أما الكلمات بعد أن يسلّط الضوء على إيقاعها وثنائياتها الضديّة والمتقابلة، فتراها تتراقص على صدى صوت الشاعر، فتتمايل خصورها على السطور ANIMATIONS، وكأنّ الحبّ تجسّد فعلا في الكلمات فتراهنّ وكأنّهن عاشقات تحوّمن حول ربيع طال انتظاره، ليحتفلن به.

 نتمنّى أن تُعمّم هذه التجربة على الكثير من القصائد التراثية والحديثة لما فيها من متعة للمستمع والمشاهد، إذا صحّ القول، مع الإفادة من طريقة التحليل ورصد الكلمات المفاتيح ومواطن الإيقاع والروي، وبخاصة حين عرضها على شاشات كبيرة لطلاب المدارس والجامعات، وقد أستطيع القول من تجربة شخصية مع طلابي لهذا النموذج من القصائد في طريقة عرضها ومشهديتها، إنّها طريقة نموذجية في تدريس القصائد وتحليلها وتفكيكها، لما فيها متعة وفائدة مع تصالح كلّي بين الشعر والتكنولوجيا، أو قل روحنة التكنولوجيا .

وفي ختام هذه المقالة، أحبّ أن أستشهد بقول للباحث والفيلسوف الحيّ “سيّد حسين نصر” في كتابه THE GARDEN OF TRUTH (فردوس الحق) عن جدوى الكتابة عن الحبّ بأنّها توقظ بعض الوعي في عقل القارئ ما يجعله مهيّأً لاختبار الحبّ بدرجة معيّنة،… فتتأجّجُ نارُ الحبّ عبر الكلمات الملائمة إذا كان جوهر النفس مهيَّأ للاحتراق بنار الحب… والحبّ هو الحياة، وأن تكون قد أحببت حقًّا، هو أن تكون قد حَييتَ حقًّا، من هذا الباب كان هذا الديوان شهادة حبٍّ ربيعي تجاوز صيف الهنود من مرحليّته إلى ديمومته، فنقلنا الشاعر من مفهوم الزمان بما “هو الوقت كثيره وقليله”، إلى الزمان كما في أساطير اليونانيين إله يُنضِجُ الأشياءَ ويوصلها إلى نهايتها.

(*) جريدة الأنوار، السبت 16 نيسان 2011، السنة 51، العدد 7722

كلام الصور

1- ناتالي الخوري غريب

2- هنري زغيب

3- غلاف الكتاب

اترك رد

%d