العلاقات العربية ـ العثمانية من خلال مجلة “المنار” (1908-1913)

د. أندريه نصّار

شهدت العلاقات العثمانية العربية مرحلة فريدة من نوعها إبّان الحكم العثماني الذي استمر نحو 400 سنة على بعض الأراضي العربية. وقد أسس العرب والأتراك علاقتهما، andre-almanarقبل الفترة العثمانية وبعدها، كأعضاء في دول مختلفة، لكنّهم كانوا رعايا دولة واحدة. وقد ناضلوا كأعضاء في دولة واحدة والدين نفسه، من أجل القضية نفسها ضد الأعداء الخارجيين.

ومنذ أن ورث العثمانيون التراث الإسلامي وعملوا على تعزيزه، كان من الضروري بالنسبة إليهم تعلّم اللغة العربية واستخدام المصادر العربية لنشر الإسلام في المناطق التي افتتحوها حديثاً. وقد كتب عدد من العلماء ورجال الدولة العثمانية أعمالهم باللغة العربية، لكنّ الموقف نفسه لم يكن مناسباً للعرب، على الأقلّ في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني. فخلال ذلك الوقت، كان هنالك عدد متزايد من العرب المتعلمين للتركية من أجل الاندماج في نظام الدولة العثمانية، واتخاذ مناصب مهمة في البيروقراطية العثمانية. وتأثرت العلاقات العربية ـ العثمانية بأحد العوامل المهمة، فلم ينظر العثمانيون إلى الأقاليم العربية بعين إمبريالية، بل عدّت المقاطعات العربية كجزء أساسي من الدولة. وكان العامل الأهم من ذلك، المدن المقدّسة في الإسلام مثل مكة المكرّمة والمدينة المنورة والقدس، إذ أولى العثمانيون أمن الأراضي العربية لبلاد الشام والحجاز ورفاهيتها اهتماماً خاصاً، وهذا ما مهّد الطريق لعلاقات جيّدة بين الأتراك والعرب. وحتى بدء التغلغل الأوروبي وأثره في تطور الأوضاع في الأراضي العربية وظهور النزعة القومية، يمكن القول إنّ العلاقات العثمانية العربية كانت مبنية على التعاون وعلى أساس المصالح المتبادلة.

rashid rida

رشيد رضا

بعد ذلك تغيرت طبيعة تلك العلاقة، وانحرفت باتجاه الاستبداد مع السلطان عبد الحميد، ما استدعى ردة فعل إصلاحية تمثلت بعدد من الإصلاحيين، بغية تقويم الانحراف، وإعادة العلاقة العربية العثمانية إلى مسارها الصحيح، من بينهم رشيد رضا (1865-1935) مؤسس مجلة “المنار” في مصر.
إصدار المنار

أصدر رشيد رضا “المنار” في مصر في آذار 1898 كجريدة أسبوعيّة من ثمان صفحات، وفي السنة الثانية تحوّلت إلى مجلة شهريّة تنشر، إلى جانب ما ينشره رشيد رضا، بدون توقيع، مقالات للكتّاب الإصلاحيين في مصر وعلى رأسهم محمّد عبده وتلامذته. وكان رضا من تلامذة عبده ومريديه “وأكثرهم مجاهرة بنصرته وإذاعة لآرائه”.. وذكر أنه أصدر “المنار” لكي تخلف “العروة الوثقى” وتنشر رسائلها وخصوصاً ما يتعلق بالجامعة الإسلامية. نالت المجلة صيتًا كبيرًا، وتبنّت معالجة الأمور بحماسة الخصم للاتحاديين، لكنّ صاحبها كان مخلصًا للسلطنة وللرابطة العثمانية وللإسلام، على الرغم من بعض تطرّفه أحيانًا، ولا سيّما حين كان الأمر يتعلّق باللغة العربية. وقد بلغ من إخلاصه للسلطنة ومن نزاهته، دفاعه في الأعداد الأولى من “المنار” عن الدولة وانتقاد أعدائها، والدعوة إلى إصلاح إدارتها، وإقدامه على نقد برامج الأحزاب العربية، بعدما تبيّن له أنّ فيها ظلمًا بحقوق السلطنة. جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان” لتحقيق غايتين له هما: بناء دولة إسلاميّة نموذجيّة وإقامة جامعة إسلاميّة.

سارت “المنار” حتى 1905، تاريخ وفاة الشيخ محمّد عبده، في وجهة “الإصلاح الدينيّ والتربويّ” دون السياسيّ الذي كان يشدّد عليه عبده، ولم تدخل في موضوعات السياسة المباشرة، لا السياسة العثمانيّة ولا الإنكليزيّة. لكنّ رضا غيّر من وجهة مجلته بعد 1905، لكي تصبح أكثر اهتمامًا بالإصلاح السياسيّ، ومحاربة الاستبداد الفردي والدعوة إلى حكم الشورى والدستور، وبدأ بكتابة مقالات عن الاستبداد، والسياسة الحميدية، وحكم الشورى، وطرق إصلاح الدولة العثمانية. وسعى لمحاولة بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية، ونظام سياسي إسلامي دستوري يلتزم مبادئ الشورى والعدل والحرية، يشارك فيه الشعب في الحياة السياسية، ويلتزم فيه السلطان استشارة زعماء الشعب وممثليه وتخضع الحكومة لمساءلتهم. بعبارة أخرى، رأى رضا أن النظام السياسي الفاسد في الدولة العثمانية هو الأولى بالإصلاح.

جمعية الشورى العثمانية

sultan

السلطان عبد الحميد

لجأ رشيد رضا قبل الانقلاب العثماني سنة 1908 إلى استخدام وسائل الإعلام وقيادة أنشطة سرّية لإنجاز الإصلاح. فقد خصّص مساحة متزايدة من “المنار” لمناقشة قضايا الإصلاح السياسي في السلطنة. وأنشأ مع غيره من الرعايا العثمانيين في مصر منظّمة سرّية هي “جمعية الشورى العثمانية” سنة 1906 تولّى رئاستها، وضمّت ممثلين عن معظم الجماعات العرقية والدينية في السلطنة، ‏وكانت نشطة في الدعوة إلى إصلاح الدولة العثمانية في مصر وبعض الولايات العثمانية وبعض الدول الغربية. وكان رضا من دعاة جعل الشورى أساس الحكم في الأقطار الإسلاميّة. وقد تحقّق جزئيًا الهدف الإصلاحي الأكثر اعتدالاً الذي كانت تسعى إليه “جمعية الشورى العثمانية” حين أجبر السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 على إعادة العمل بالدستور العثماني الذي كان قد عطّله قبل ثلاثة عقود من الزمان. فقد أجبرته “جمعيّة الاتحاد والترقي” ذات التوجّه الغربي والإيديولوجيا القوميّة التركيّة على إحداث ذلك التغيير، “التي أسقطت سلطة الاستبداد في المملكة العثمانية وأدالت منها سلطة دستورية شورية”.

بعد نجاح الحركة الانقلابية في تموز 1908 بقيادة “جمعية الاتحاد والترقي”، وإرغامها السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بدستور سنة 1876، الذي حوّل الحكم إلى الوزارة ومجلس الأمة، وأخذها على نفسها “أن تكفل الدستور الذي كانت قابلة ولادته وأمّه ومرضعه إلى أن يبلغ أشده ويستوي”، وتحافظ عليه وتحمي مجلس الأمة، أمر السلطان بإجراء انتخابات جديدة، ودعا مجلس المبعوثان إلى الاجتماع. ولم يكن العرب أقلّ من غيرهم ترحيباً واستبشاراً بهذا الحدث السعيد. فقد أصبحوا جميعهم عثمانيين متساوين في الحقوق والواجبات، ووضعوا ثقتهم وآمالهم في “جمعيّة الاتحاد والترقّي” التي ألقيت مقاليد الأمور بين يديها، لقيادة الأمّة العثمانية في طريق الإصلاح والتقدّم.
أشاد رشيد رضا، بعد مرور شهر أو أكثر على إعادة العمل بالدستور، بما تقوم به جمعيّة الاتحاد والترقّي، في ظلّ رقابة أوروبية مشدّدة، وسيرها على الطريقة المثلى في تقوية استعداد الأمّة للحكم الدستوريّ، ومقت الاستبداد. وشكرت “المنار” لرجال “الاتحاد والترقي”، ولرجال الإصلاح الذين وقفوا حياتهم، وخاطروا بأرواحهم في سبيل استرجاع الحرية. ورأت أن ما قامت به الجمعية كان سبباً في إحياء شعب بأسره.

زيارة لبنان

عدّل رشيد رضا بعض أساليبه في العمل على إقامة دولة إسلاميّة عثمانية نموذجية. فبينما استمرّ في استخدام مجلّته كمنبر للدعوة إلى الإصلاح السياسي، زار للمرة الأولى منذ وصوله إلى مصر وطنه لبنان، حيث ألقى عدّة خطب حاثًا أهالي الشام على دعم الحكومة العثمانية الجديدة والمشاركة في الإصلاح السياسيّ، والاتفاق والاتحاد، مبيّنًا مزايا الدستور وفوائده، وما يجب على الأمّة من العمل للتقدّم في عهده. وعلق آمالاً كبيرة على كل ما من شأنه تحقيق اتحاد الترك بالعرب في الدولة. لذلك كان ينفّر الناس من “جمعية الإخاء العربي” التي أسّسها بعض العرب عقب الانقلاب، ثم ألغيت، لأن الرأي العام العربي، وفق رضا، لم يأخذ بيدها، لأنه لم يكن يحب أن يعمل عملاً ما في الدولة باسم العرب، “ذلك بأن رأينا أنّ بقاء الدولة يتوقف على اتحاد الترك بالعرب فيها”. وكان يدعو إلى الاتحاد بالترك والإخلاص لهم “لأن مصلحتنا ومصلحتهم في ذلك، على أنّنا أحوج إليهم منهم إلينا. فمن يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدو لنا ولهم […] ويجب أن يكون الأساس الذي نبني عليه في حاضرنا ومستقبلنا الإخلاص لدولتنا والاتحاد بالترك وسائر العناصر العثمانية ما دامت هذه العناصر متحدة بالدولة مخلصة لها وأن نكون من أشد الأعوان لجمعية الاتحاد والترقي على بث روح الدستور في جميع الطبقات ورقباء على الحكومة في سيرها وأعمالها حتى ترسخ فيها الديمقراطية وتسير بعد اجتماع المبعوثان على الأصول الدستورية”.

زعماء_جمعية_الاتحاد_والترقي

زعماء_جمعية_الاتحاد_والترقي

ما لبث أن دبّ الخلاف بين عبد الحميد والاتحاديين أدّى إلى خلع السلطان المذكور سنة 1909، وتتصيب أخيه محمّد رشاد سلطاناً باسم محمّد الخامس، وسيطرة الاتحاديين على السلطة، ثم انحرافهم عن المبادئ التي نادى بها دستور 1908 من حرّية وعدالة ومساواة وإخاء، وجنوحهم نحو تطبيق الدستور والقوانين الصادرة عنهم، وفرض نهجهم السياسي والإداري الخاص بالسلطنة. وكان هذا النهج يقوم على تثبيت أسس الحكم والدولة على غلبة “العصبية التركية”، وتشكيل هذه العصبية إيديولوجيا على مفاهيم غريبة للقومية. وكانت القوى العسكرية التركية التي أحبطت محاولة ردة السلطان عبد الحميد سنة 1909، تحمل مشروع سلطة جديدة ترتكز على قوى اجتماعية جديدة نمت في إطار العلاقات التوسعية الغربية وفي حضن الثقافة الغربية وإيديولوجياتها القومية العنصرية السائدة آنذاك، وكانت سياسة إبعاد العناصر غير التركية عن أجهزة الحكم و”التتريك” من نتائج انعطاف سياسة “الاتحاد الترقي”، والتحوّل في تركيب السلطة العسكرية الجديدة التي بدأت تسيطر على أجهزة الحكم والإدارة منذ 1910.

مشروعان عظيمان

لم يكن رشيد رضاً سعيد الحظّ في التعاون مع العثمانيين على الرغم من تغيّر نظام الحكم العثماني بعد انقلاب 1908، فقد قصد الآستانة وأمضى فيها عاماً كاملاً (1909-1910) يناقش مشروعين عظيمين في رأيه، والتقى كبار المسؤولين في الحكومة العثمانية الجديدة و”جمعية الاتحاد والترقي”، وشيخ الإسلام (مفتي الديار) وبعض الكبراء والعلماء، وبعض أعضاء مجلس الأمة العمومي من الأعيان والمبعوثين.

قضى المشروع الأوّل بإنشاء “مدرسة الدعوة والإرشاد” في العاصمة، وهو معهد ديني علمي للتربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، والجمع بين هذه التربية والتعليم الإسلامي الذي يكون وسيلة لسعادة الدنيا والآخرة، وتقوية الملة والدولة، وتعزيز دولة الخلافة وتأييدها، بجعل عاصمتها ينبوعًا للإسلام، وكعبة معنوية لطلاب علومه وآدابه، وتخريج العلماء الذين يقدرون على الدفاع عن الدين في عهد الحرية والدستور، وتخريج الدعاة إلى الخير والمرشدين للأمّة الذين يقومون بما فرضه الله على المسلمين من الدعوة والإرشاد، وحرّمه عليهم من التفرق، وإرسال المرشدين إلى البلاد التي فشا فيها الجهل وكثر الشغب (كاليمن والعراق والأناضول)، للوعظ والإرشاد والترغيب في البرّ والتعاون بين جميع أهل الوطن، والإخلاص للدولة العلية في السر والعلن، وتعليم أحكام الدين بأسلوب يكون في منتهى السهولة، مع مبادئ حفظ الصحة والثروة، فيطهر هؤلاء الوعاظ بتأثير الدين من الثورات والقلاقل، ويؤلفون بين جميع الطوائف والعناصر، ما يعجز عن بعضه من لا تأثير لهم إلا في الظواهر، كأصحاب الجرائد والحكام والعساكر. واقترح رضا أن تنشئ هذا المعهد الإسلامي جمعية من محبي الإصلاح العلماء الصلحاء، وأن تساعدهم الحكومة بما يمكن من الأوقاف الخيرية، وإعفاء طلاب العلم من الخدمة العسكرية، ودفع مرتبات شهرية للوعاظ.

Abdo

محمّد عبده

علق رضا أهمية كبرى على تحقيق هذا المشروع، إلى درجة أنّه وصفه بـ”المشروع الأعظم” والمقصد الأوّل من الرحلة، بل من الحياة كلّها، ويسهم تنفيذه في تقوية الرابطة والأخوّة بين العرب والترك، وبين غيرهم من المسلمين كالأرناؤوط والكرد، بل يؤلّف بين المسلمين وغيرهم من الملل كما يقتضي الإسلام، لأنّ كل ما كان يتصوّره ويدركه من إصلاح حال المسلمين محصور فيه، لذلك كان جلّ السعي أو كله لهذا المشروع.

أما المشروع الثاني فهو سدّ الثغرة بين العرب والترك التي أحدثتها سياسة التتريك في عهد السلطان عبد الحميد. وقد أشار رضا في أوّل مقالة كتبها عن الانقلاب العثماني عند حدوثه إلى العقبات التي يُخْشَى أن تعوق سير الدستور، ومنها تعصُّب العناصر العثمانية لجنسياتها، فصحّ ما توقعه، إذ قام كل عنصر يسعى لتقوية عنصره وتدوين لغاته، وترقية أجناسه، وأسّسوا لهم أندية وجمعيات في العاصمة. ودعا بعض أصحاب الجرائد التركية في الآستانة إلى الجنسيّة التركية وحفظ السيادة للعنصر التركي، والتنفير من العرب، ودعوة الترك إلى الاستغناء عن اللغة العربية، وتطهير التركية من الألفاظ العربية، وترجمة القرآن إلى اللغة التركية، فتألم العرب من هذه الأقوال، وزادهم تألمًا أفعال أخطأت فيها الحكومة، بيّنها رضا في مقالات “العرب والترك” التي نشرها في جرائد الآستانة التركية والعربية. وكثر الحديث في هذه المسألة، وتناولتها أقلام الكتّاب والشعراء، فخاف أن يعمّ انتشارها بين الناس، فيصعب إزالة سوء التفاهم، وتتعسّر الرغبة في الاتحاد. فكان أوّل سعيه في الآستانة موجَّهًا إلى إزالة سوء التفاهم بين العنصرين، وكلّم في ذلك كبار المسؤولين العثمانيين فاعترفوا بأنّ الحكومة والجمعية أخطأتا في بعض تلك الأمور، وأن لا سوء نية وسيتداركون ذلك بالفعل. وقد اتهم بعض النابتة العربية رضا بمصانعة الترك أو الحكومة، ثم تبين لهم أنه مخلص فيما يوافقهم وفيما يخالفهم فيه، فأقنعهم بما اقتنع به بعد طول اختبار الآستانة ورجالها، وهو أن العرب والترك عنصران يكوِّنان حقيقة واحدة، كالعنصرين المكوِّنين لحقيقة الماء أو الهواء، وأنّ الإسلام قد ألّف بينهما هذا التأليف، وزادته مصلحة بقاء هذه الدولة بهما، والخطر عليها من تفرقهما، وأنّ الذين تحاملوا على العرب واللغة العربية من المتفرنجين مختلفو الأصول، وأنه لا يجوز لأحد من العرب أن يجعل ذنبهم ذنبًا للعنصر التركي، ولا أن يحمل سعي الترك لترقية شعبهم منافيًا لأخوة العرب، ما دام خاليًا من العصبية الجنسية، كما لا يجوز لطلاب ترقية العرب أن يقصدوا بذلك إلا التمهيد للاتحاد بالترك، والقيام معهم بتأييد الدولة وإعزازها. وقد وافقه على رأيه هذا العقلاء من الترك والعرب في العاصمة وإن كان يوجد فيها من المتعصبين المبغضين للعرب الذين يسترون بغضهم بأماديح النفاق وتحريف كلامه في التوفيق والتأليف عن مواضعه؛ لينفروا “إخواننا الترك منا. وقد تداركت الحكومة بعض خطئها بإلغاء ما كانت أمرت به من وجوب جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية باللغة التركية، وعدم قبول ما يقدم إلى الحكومة من شكوى وغيرها باللغة العربية، كانت شرعت في هذا وذاك، ثم علمت بتعذره وبسوء أثره فمنعته، ثم إنها عينت في مدارسها الإعدادية عشرة معلمين للغة العربية.

السلطان محمد الخامس

السلطان محمد الخامس

رأى رضا في المشروع الثاني خدمة للدولة العلية من حيث هي حكومة الدستور القائم على أساس العدل والمساواة ولعنصري الأمّة العثمانية الكبيرين العرب والترك. فقد سعى لإزالة ما وقع من سوء التفاهم بين العرب والترك، وتبديد مخاوف الساسة الترك القديمة من قيام العرب بتكوين دولة عربية أو خلافة عربية في جزيرتهم، مبينًا أن قروناً قد مرّت ولم تظهر من زعمائهم الدعوة إلى ذلك، حتى في الأزمنة الأخيرة التي كاد اليأس من الدولة يستولي فيها عليهم. فأيّة حجة لهم على استمرار هذا الخوف والحذر، وبناء الأعمال عليه، وكثرة الكلام فيه؟ وقال رضا إنّ جميع من يعرفهم من عقلاء العرب متفقون معه على وجوب تدارك ما قوي من سوء التفاهم. وحين جاء إلى الآستانة رأى كثيرًا من عقلاء الترك يميلون إلى هذا، ولكنّ العقلاء من الفريقين يرتابون في سياسة بعض الزعماء في العاصمة. وبلغ من سوء ظنّ العرب بالترك أن قال لرشيد رضا غير واحد من أذكيائهم وأهل الرأي فيهم بمصر والآستانة: إنّ وزراء الدولة ورجال “جمعية الاتحاد والترقي” لا يقدرون مشروعيه الإصلاحيين حق قدرهما، ولا يعرفون له قيمة إخلاصه وغيرته فيهما لأنه عربي. لكن ما رأه رضا من عناية بعض الوزراء ولا سيّما رئيسهم الصدر الأعظم، وعناية كبراء رجال الجمعية، وما سمعه من الوعود المؤكدة، دفعه إلى ذكر ذلك لبعض الظانين ظن السوء فقالوا له: “إنّ الأعمال بالخواتيم، وسترى هل أنت المخطئ أم نحن المصيبون، وإني لأرجو أن تطيش هذه الأوهام بما أنتظر من محاسن الأعمال ، وعلى الله الاتكال في تصديق الآمال”.

خيبة أمل

في الواقع، خابت آمال رشيد رضا، إذ كانت الحكومة العثمانية الجديدة ملتزمة المبادئ القومية التركيّة بشدّة ولم تعر مقترحاته حول الإصلاح الإسلامي آذاناً صاغية. فقد كانت سياساتها تقوم على إعلاء العنصر التركيّ والحطّ من شأن العناصر العثمانية الأخرى، وتمادت في سياسة تتريك الشعوب العثمانية غير التركية، واتخذت في هذا الشأن خطوات غير مسبوقة، ‏مثل إعلان اللغة التركية لغة رسمية وحيدة في جميع أرجاء السلطنة العثمانية وفي مجالات الحياة العامّة من تعليم وإعلام وقضاء وغير ذلك. كما سعت لتمتين روابط الدولة العثمانية بالشعوب التركية في وسط آسيا غير الخاضعة للسيادة العثمانية، بغية إقامة جامعة طورانية تضمّ جميع الأتراك. وفي المقابل، أهملت مصالح الشعوب العثمانية غير التركية، ولم تكترث للأخطار التي كانوا يتعرّضون لها من الخارج. ولعلّ أوضح مثال على ذلك هو انسحاب الوحدات العسكرية العثمانية من ليبيا من دون قتال يذكر فور غزو الإيطاليين لها عام 1911.

مقاومة الحكومة العثمانية

قاوم رشيد رضا بشدّة سياسات الحكومة العثمانيّة الجديدة التي تميّز بين الرعايا العثمانيين، ‏وهاجم بعنف “جمعية الاتحاد والترقي” التي تحكم البلاد، إذ رأى أنّ تلك السياسات تهدّد وحدة الدولة العثمانية المتعدّدة الأعراق، ودان على وجه الخصوص السياسات المعادية للعرب واللغة العربية التي زرعت العداوة والبغضاء بين أكبر شعبين عثمانيين وأهمّهما، ‏أي العرب والترك. ووصل به الأمر إلى حدّ تحميل الدولة العثمانية مسؤولية ضعف اللغة العربية بجهلها لا تعمّداً منها إذ لم تكن دولة علم ولا حضارة بل دولة حرب وقوة، وقاد حملة لإحياء اللغة العربية وآدابها. لذا كان عليه أن يختار بين هدفين لحركته الإصلاحية السياسية في تلك المرحلة: الأول هو إقامة نظام سياسي إسلامي بإصلاح الحكومة العثمانية المركزية، ‏والثاني هو حماية الدولة العثمانية من انهيار متوقع بإصلاح هيكل الدولة ذاته، وقد اختار رضا الهدف الثاني الذي تمثل بتبنّيه فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها الأفغاني وكانت ذروة مشروعه السياسي، بينما مثلت مرحلة وسطى في مشروع رشيد رضا الإصلاحي السياسي. وبينما كانت فكرة الجامعة الإسلامية عند الأفغاني أكثر شمولاً من حيث الهدف والمضمون، فإنّ فكرة رشيد رضا حولها كانت أكثر واقعية وقابلية للتطبيق نظراً إلى ظروف العالم الإسلامي في عصره.العروة الوثقى

 أراد الأفغاني من دعوته إلى الجامعة الإسلامية “توحيد كلمة الإسلام وجمع شتات المسلمين في سائر أقطار العالم في حوزة دولة واحدة إسلامية تحت ظل الخلافة العظمى”، ساعياً لمعالجة ثلاثة انقسامات رئيسية بين المسلمين. أولاً إلى ردم الهوّة بين السنّة والشيعة. ثانياً ردم الهوّة بين الجماعات القومية المسلمة المختلفة. وهاجم السياسة العثمانية الرسمية التي تقضي بتتريك جميع الشعوب العثمانية غير التركية. بل دعا جميع المسلمين ـ ‏ولا سيما العثمانيين منهم. إلى استخدام لغة واحدة هي اللغة العربية، عازياً هذه الفكرة إلى السلطانين العثمانيين محمد الفاتح وسليم الأول على الرغم من فشلهما في تحقيقها. ولا بدّ من ملاحظة أنّ دافع الأفغاني الوحيد وراء تشجيع استخدام اللغة العربية هو علاقتها الفريدة بالإسلام. وثالثاً ‏فإنّ دعوة الأفغاني إلى الجامعة الإسلامية هدفت إلى ردم الهوة السياسية بين الدول الإسلامية المستقلة. لكنه كان واقعياً بدرجة كافية للتحقق من الصعوبة البالغة لإخضاع جميع الدول الإسلامية لحكومة واحدة وحاكم واحد. لذلك قدم بديلين خلاقين لتوحيد الدول الإسلامية المستقلة. فقد اقترح أولاً إقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي أو الكومنولث تتمتع الدول المنضمة إليه بالاستقلال في إدارة شؤونها الداخلية. كما اقترح إقامة جامعة إسلامية على أساس التزام جميع الدول الإسلامية المنضمة إليها القيم ذاتها والشريعة المستمدة من القرآن والسنّة.

يشير هذا الاقتراح إلى أنّ وحدة المسلمين كانت أولى عند الأفغاني من وجود خلافة إسلامية قوية. وقد جذبت فكرة الدولة الإسلامية الفيدرالية كوسيلة لإقامة جامعة إسلامية الشيخ محمد رشيد رضا. فقد رأى رضا أنّ لا بد من أن تصبح الدولة العثمانية وطناً ‏لجميع الشعوب المنضوية تحت لوائها بغضّ النظر عن أعراقها ودينها، ومن ثم يصبح لدى رعاياها هوية وطنية عثمانية لا تتعلق بشخص حاكمها، وتتمتع جميع شعوبها بحقوق وواجبات متساوية. وهذا لا يحول دون أن تظلّ الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وأن يظلّ السلطان العثماني خليفة لجميع المسلمين عثمانيين وغير عثمانيين. ولا يتنافى ذلك مع إقامة النظام السياسي العثماني على أساس المبادئ الإسلامية في الحكم. إنّ فكرة الجامعة العثمانية كانت تعني صبغ الهوية العثمانية بالصبغة الوطنية والمساواة بين جميع الشعوب العثمانية من دون أن تصبح الدولة العثمانية دولة قومية تهتم برعاياها فقط أو علمانية لاتلتزم الإسلام. لكنّ الهدف الرئيسي لفكرة رشيد رضا عن الجامعة الإسلامية كان إصلاح علاقة العرب والترك في إطار الدولة العثمانية. وربّما يعود ذلك إلى عدة أسباب، منها أنّه كان عثماني الوجهة سياسياً، إذ كان يعدّ الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلاميّة، على الرغم من انتقاده حكامها لعدم التزامهم المبادئ الإسلامية في الحكم. ولم ينسَ رضا أبداً‏ هويّته الأصلية، وهي أنّه سوري عربي عثماني. فعلى الرغم من أنّه أمضى معظم حياته في مصر التي كانت قد خرجت فعلياً من أيدي العثمانيين، فإنّ انخراطه في الحياة السياسية العثمانية والعربية والسورية فاق بكثير انخراطه في الحياة السياسية المصرية. كما كان رضا أشدّ تأثراً بأستاذه محمد عبده من أستاذه الأفغاني بشأن الموقف من الاستعمار. فعلى الرغم من كرهه الاستعمار فقد كان متردّداً في مهاجمته أو التدخّل في الشؤون السياسية للبلاد الإسلامية المستعمرة في تلك الفترة، بما فيها مصر، في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية واحدة من قليل من الدول الإسلامية التي حافظت على استقلالها. وكان رشيد رضا واقعياً ‏بحيث تحقق من أنّ ظروف العالم الإسلامي في عصره كانت أسوأ من ظروفه حين دعا الأفغاني إلى إقامة جامعة إسلامية تضم جميع الدول الإسلامية المستقلة.

دعوة إلى اللامركزية

istanbul-mosque

مسجد في اسطنبول

وبما أنّ رضا فقد الأمل تماماً‏ في إصلاح الحكومة المركزية العثمانية الفاسدة، فقد دعا إلى العمل على إقامة جامعة عثمانية على أساس لا مركزية الحكومة والإدارة العثمانيتين. وكان هدفه الملحّ تمكين الشعوب العثمانية غير التركية من الاعتماد على ذواتها واحترام ثقافاتها والدفاع عن أراضيها ضد خطر التدخل الأجنبي المتزايد، وتوحيد الشعوب العثمانية ومنع تشطير الدولة نتيجة الأفكار والحركات القومية المختلفة التي كان يشتد عودها بين أبناء تلك الشعوب ولا سيما غير التركية منها التي عانت سياسة التتريك، فأصبحت ترى الدولة العثمانية تجسيداً ‏للاحتلال التركي لبلادها.

دعا رشيد رضا إلى اللامركزية في مجلته “المنار”، كما شارك في تأسيس حزب اللامركزية الإدارية العثماني في القاهرة، وكانت تقوده نخبة من المهاجرين السوريين في مصر، وانتخب رئيساً ‏ للجنة الحزب العليا. وعلى الرغم من أن الحزب أطلق على دعوته “اللامركزية الإدارية”، فإنه كان يدعو حقيقة إلى نوع من الفيدرالية الديمقراطية. كما دعا إلى أن تقتصر سلطات الحكومة العثمانية المركزية على الشؤون الخارجية وشؤون الدفاع والمواصلات، وتخويل الحكومات المحلية في الولايات العثمانية الصلاحيات الأخرى كافة. كما أكد أن الأمة هي مصدر السلطات، وتالياً فإن الشعب يجب أن ينتخب ممثليه في الجمعية الوطنية المركزية والمجالس النيابية الإقليمية، وأن تلك المجالس المنتخبة يجب أن تمكن من مراقبة أعمال الحكومات المركزية والمحلية كل بحسب نطاق اختصاصاته.

نجح حزب اللامركزية الإدارية العثماني ظاهرياً في تحقيق جانب من الإصلاح السياسيّ. فنتيجة لا مبالاة الحكومة العثمانية تجاه دعوات العرب العثمانيين إلى الإصلاح السياسي، شارك الحزب في تنظيم ورعاية المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس عام 1913. وعرض المؤتمر بجلاء مطالب العرب العثمانيين وخصوصًا اللامركزية الإداريّة، كما أظهر قوّة الحزب وحسن تنظيمه والدعم الذي يتمتع به بين العرب العثمانيين. ونجح الحزب في دفع الحكومة العثمانية إلى التفاوض مع ممثلين عنه وعن رئاسة المؤتمر، إذ وعدت الحكومة بالقيام بإصلاحات سياسية وإدارية واسعة النطاق، وأصدرت بذلك منشورًا ‏ باسم السلطان، كما عرضت مناصب رسميّة في الحكومة المركزية على بعض من تفاوضت معهم. إلا أنّ ذلك النجاح لم يكن إلاّ سرابًا، فقد ماطلت الحكومة وسوّفت، ولم تنجز شيئاً يذكر من وعودها، بل تمادت في سياساتها القومية والعنصرية التركية.

صبّ محمد رشيد رضا جام غضبه على “جمعية الاتحاد والترقي” سنة 1913، ونعتهم بأنّهم “خابوا وفشلوا في كلّ شيء، واعترف بعضهم ببعض خطأهم وادّعوا أنهم رجعوا عن بعضه، وأنهم سيرجعون عن بعض آخر، ولكنّهم لم يفوا بوعد، ولا رجعوا عن سوء قصد، ولا اعتبروا بالحوادث، ولا تأدبّوا بالكوارث، بل ازدادوا كذبًا وخداعًا، وهذا من الغرور الذي قلّما يوجد في البشر له نظير، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، بل أعمالهم اليوم هي عنوان أعمالهم بالأمس”.

*******

بالاشتراك مع aleph- lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

اترك رد