الروائية هدى عيد
يبدو أنه قد تمّ تدجين حتّى ذاكرتنا الجماعية في هذا العالم العربي. فمشاهد العنف السائد على الساحتين العامة والخاصة، منذ مدة زمنية يتعذر إحصاؤها، تظهر صعوبةَ إمكانية استعادة صور مشرقة استطاعت هذه الذاكرة تخزينها في الآونة الأخيرة. لقد رأى الفيلسوف ريتشارد سيمون أنّ “أحداثاً مثيرة نوعية تحدث آثاراً متميزة وفريدة على شكل بصمة وانطباع يكون نسخة حقيقية عن الحدث أو المثير الفعليّ، وتصبح هذه البصمات والانطباعات مخزّنة على شكل سجّل بيولوجي ثابت لكل مثير وحدث من الأحداث الحقيقية”.
لذلك تتبدّى صعوبة امكانية تجاوز المشاهد القاتمة المختزنة في ذاكرتنا، وليس ثمة داعٍ طبعاً لبسط السجل الذهبي للحروب المتواصلة التي اضطرمت نيرانها في النصف الثاني من القرن الماضي – على سبيل المثال لا الحصر- ولا زالت على توهجها حتى الآن، بدءاً بحربنا اللبنانية العتيدة، مروراً بحربي العراق وسوريا ووصولاً إلى حرب غزة في هذه الأيام…
يقف الإنسان العادي – إذا وُجدَ بيننا من هو كذلك – ذاهلاً وسط هذه المشهدية التي لا تريد أن تنتهي، فكلما أراد التوقف، بغية الاستجمام مثلاً، وهذا حقٌّ إنساني على فكرة، وجدَ المشهد قد انفجر من جديد أمامه، في موضع آخر “من هذا التابوت المدّد حتى شواطئ الأطلسي”، كما وصفه الشاعر محمد الماغوط في يوم من الأيام، فيعاود التموضع أمام شاشات التلفزة، أو يروح يتسقط بين الثانية وأختها خبراً عاجلا لا يستطيع الانتظار… وعندما يهادنه المحيط الخارجيّ يتراقص أمامه المشهد الداخلي بحقائبه الملأى بملفات ساخنة تغلي على الدوام كملفّ الكهرباء مثلا، وهي أزمة أزلية فيما يبدو، أو أزمة المياه المستجدة التي تستدعي منا معركة ربما مع الطبيعة التي بخلت علينا في هذا العام، وأزمة تصحيح الامتحانات ورهن مصائر الطلاب، ومعركة الرواتب التي لم تفلح حتى الآن في فتح ثغرة في عواطف وقلوب أصحاب الرأسمال السياسي في هذا البلد، وأزمة ازدحام السير الخانق التي تستهتر بوقت وبأعصاب الإنسان… وسوى ذلك مما يستعصي على الإحصاء.
لقد عرف تاريخ البشرية الملاحم والبطولات التي مجّدها شعراؤه، والتي على قسوتها وألامها كانت تغرس في إنسانها الإحساس بالفخر وبالامتياز،أمّا إنساننا الذي نُعاينه فيظهرُ محروثاً بمحراث القهر، مزروعاً بنبات الخيبة، إلاّ من رحمَ ربي ممن أتيحت له فرصُ النهب وركوب الأمواج… تخزن ذاكرتنا الجماعية في كل يوم مشاهد لا تحصى عن الحروب والألام، وتعجز عن إعداد حقيقيّ لمشاهد الحياة! يَسكنُ العنفيّ أبصارَنا وأسماعنا، ويتغلغل كسُمّ بطيء إلى ذاكراتنا وأرواحنا فلا يترك فيها إلاّ الضباب… قد يُقالُ إنّ هذا الكلام كلامٌ انهزاميٌّ، وإنّ المعارك تحتاجُ الصبر ولا تعرف التهادن ولا الاستقطاع، لكن ماذا عن الإنسان الساقط في وحول الواقع، الباحث عن نوافذ الضوء من مستنقع الأزمات. أزمات لا يسعى أحدٌ إلى كسر أطواقها، بل الكلّ يكرّسها ويعمّق الخسارات، وكأنما الوقت بات لا يُجيّرُ إلاّ لفعل الهدر، وكأنما الأعمار لا تُسفح إلاّ في اللآجدوى والعبث… ستسجلّ ذاكرتنا الجماعية أنّا أبناء الازدواجية الأقسى: فنحن أبناء عصر العلم والتكنولوجيا والحداثة والأضواء.. ونحن في المقابل أبناء التردي الإنسانيّ والخُلقي وأولاد تجارة الدينيّ والقيميّ… فعوضاً عن السعي إلى فعل الترقي والحرية والإبداع، تُكرَّس في كلّ يوم تبعيتنا ويتأكد تدجيننا وفعل الانفصام بينَ ما نريدُ أن نحيا وبين ما يُقدّمُ لنا في كلّ يوم من أطباق على مائدة الحياة !
***********
بالاشترا; مع aleph- lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com