بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو(*)
تتناول هذه الورقة مسألة عدم اندماج مسلمين لبنانيين في مجتمعاتهم في الولايات المتحدة وأستراليا، انطلاقاً من خلفياتهم الدينية وثقافاتهم ورفضهم المجتمع العلماني. على العكس من ذلك، لم يشكل اندماج مسلمين هاجروا إلى أوروبا، على سبيل المثال، وكانوا من الطلاب أو الطبقة البرجوازية المتعلمة والميسورة وعلى احتكاك بالثقافة والمجتمع الغربيين، أية إشكالية حقيقية أمام اندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة أو التأقلم معها.
الاندماج، في ما يتعلق بموضوعنا، هو عملية متبادلة ما بين مجتمع المهجر الذي يتبنى سلسلة من الإجراءات لتسهيل عملية ضم أعضاء جدد إليه، ومدى استعداد هؤلاء الأعضاء الجدد لعملية الاندماج وتقبلهم ثقافته وقيمه وتكيفهم مع بيئتهم الجديدة. ولا تنجح عملية الدمج ما لم تكن شاملة ومتكاملة، وتشمل اللغة، والإقامة، والعمل، والانفتاح على الآخر، والأسرة، والحوار المستمر، وضمان الحريات السياسية والديمقراطية والمساواة أمام القانون بين مكونات المجتمع (بولعوالي 2005).
إننا نطرح فرضية مزدوجة: إن عدم التوليف بين هوية إسلامية وبين مجتمع غربي علماني، جعل المسلم اللبناني لا يندمج في مجتمع المهجر، سواء أكان سنّياً أو شيعياً، وإن عدم المساواة الاجتماعية وعدم الانخراط في لغة البلد وفي النشاط الاقتصادي يؤديان بدورهما إلى عدم الاندماج.
الهجرة الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأستراليا
خلال حرب لبنان، لم تقتصر الهجرة على المسيحيين وحدهم ولا على الأفراد، بل اتخذت طابعاً جماعياً؛ فتوجهت الهجرة الإسلامية بداية إلى بلدان الخليج العربية، لأنها كانت تعني البقاء ضمن مجتمع إسلامي وثقافة إسلامية. أما الانخراط في مجتمعات أميركا وأستراليا، فكان تذكرة سفر من دون عودة، وانسلاخاً عن ثقافة إسلامية والتعرض لقيم وسلوكيات غربية.
بعد اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982، وحروب الميليشيات، مصحوبة بانتهاء الطفرة النفطية في بلدان الخليج، بدأت شرائح مختلفة من المسلمين بالتوجه إلى الولايات المتحدة وأستراليا (لبكي 1987، 61). وقد بلغت الهجرة اللبنانية بين العامين 1975 و1990 قرابة 900 ألف نسمة. ومنذ منتصف التسعينيات، عادت أرقامها إلى الارتفاع، وحلت كندا في المرتبة الأولى تلتها الولايات المتحدة (أسعد 2009). وبلغ عدد المسلمين المهاجرين إلى الولايات المتحدة في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم حوالى 35% من مجمل المهاجرين (سنّو، 2، 2008، 1275). فقصد شيعة جنوبيون ضاحية شرقي ديربورن Dearborn)) في ديترويت (Detroit) ليلتحقوا بمن سبقهم من أقربائهم، فيما أتى إليها السنّة من قرى بعلبك والبقاع الغربي وغيرها. وعلى خطٍ موازٍ، قصد سنّة وعلويون من شمال لبنان أستراليا، واستوطنوا ولايتي نيو ساوث ويلز (New South Wales) وفكتوريا (Victoria) وعاصمتها ملبورن (Melbourne) تحديداً (سنّو 2008، 2، 1302)، فيما ذهب عدد كبير من الشيعة إلى سيدني (طبر 2005، 23، 24). وبلغ عدد المسيحيين في أستراليا حتي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي حوالى 65% من مجموع المهاجرين اللبنانيين، لكن نسبهم تراجعت بشكل كبير في التسعينيات مع تدفق المسلمين إلى تلك القارة، ومعظمهم من الطبقات الاجتماعية الفقيرة والعمال والحرفيين الذين تلقوا تعليماً متواضعاً، وأرادوا الهجرة لأسباب سياسية أو أمنية.
المهاجرون المسلمون: ثقافاتهم وموروثاتهم
خلال حرب لبنان، تأثر العديد من الشبان المسلمين في شمال لبنان وجنوبه وفي غرب بيروت وضاحيتها الجنوبية بالتيارات الإسلامية المتشددة التي طرحت مفاهيم راوحت ما بين الأصولية المعتدلة التي تريد النهوض بالمجتمع الإسلامي ومواجهة تحديات الحضارة الغربية (الجماعة الإسلامية في سطور)، والأصولية المتشددة التي نادت بتفوق الإسلام، حضارة ومجتمعاً، وعملت على جعله منهجاً وسلوكاً وحياة سياسية وفكرية يومية، وصولاً إلى المواجهة مع العدو الاستعماري، الغرب وإسرائيل (سنّو 2008، 1، 616-623). وقد آمن المتشددون بموت الحضارة الغربية الملحدة وتفكك مجتمعاتها وبانتصار الإسلام. أعلن بعضهم عن النية في إقامة دولة إسلامية في لبنان، فيما حلم آخرون بخلافة إسلامية .(Donohue, II, 1985, 60) وصاحب انتشار الأصولية بناء المصليات والحسينيات وإقامة احتفالات عاشوراء والمولد النبوي الشريف بشكلٍ لم يحصل من قبل، فيما انتشر الحجاب السنّي والحجاب الشيعي والشادور الإيراني، وجرى أقفال الملاهي ومحال بيع المشروبات أو نسفها، ورفض كل ما له علاقة بنظم الغرب وقيمه، من علمنة واختلاط ومساكنة وأولاد غير شرعيين (الحمد 2011).
إن مشروع إقامة إمارة أو دولة إسلامية سنّية في شمال لبنان أو شيعية على مساحته وعلى تخوم سورية خلال السبعينيات والثمانينيات، جعل النظام السوري يتصدى لها، ما اضطر عدد كبير من أتباع هذه التيارات إلى مغادرة لبنان إلى أميركا وأستراليا أو إلى دول اسكندنافية (الحسين، طرابلس). فحمل هؤلاء معهم ثقافة أصولية تكفّر مجتمعاً علمانياً عملت قياداتهم على تغذية أفكارهم حول أنه جزء من منظومة استعمارية صليبية تستهدف الإسلام. وفي خطبه أيام الجمعة، كان الشيخ سعيد شعبان، رئيس حركة التوحيد الإسلامي” يشحن سامعيه بدعوة المسيحيين إلى اعتناق الإسلام”، وأنه “لا يحق للمسلمين تسليم زمام أمورهم إلى كافر أو ضال… ولا يجوز أن يحكم المسلمين رجل لا يؤمن بالله، ولا يُطبق شريعته. ولا يحق للمسلمين الرضوخ لحكم الكافر…” (ربّاط، التكوين التاريخي، 2، حاشية ص 918-919).
لقد اعتبر مفتي أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي (مصري الجنسية) أن التفسخ الأخلاقي والاجتماعي والقوانين الإباحية الغربية وتدريس الجنس في المدارس، تمثل تهديداً للأجيال الإسلامية في أستراليا، في ثقافتها ودينها وفي لغتها العربية. وهذا ما جعل الجالية الإسلامية السنّية تؤسس مدارسها بدوام كامل لحماية الأجيال (حوار 2008). ومن جهته، حدد العلامة محمد حسين فضل الله، الشروط التي يجب على المسلم أن يحافظ عليها في بلاد الاغتراب لمنع اندماجه في مجتمعه الجديد. فاعتبر أن المجتمع الغربي مضلل، وعلى المسلمين التمسك بدينهم وبقيمهم، عبر التقوقع اليومي على بعضهم البعض، كي لا يذوبوا في مجتمعات الغرب. ومن آليات ذلك، تأسيس مراكز للدعوة والعبادة والمصليات ومدارس ونوادٍ تحتضن حتى الهوايات الرياضية والكشفية، كي تستطيع أن تحتضن الكبار في ثقافتها وعباداتها، والصغار في تعليمها وتربيتها وعباداتها، بل حتى في لهوها، كي لا تضطر أن تلهو لهو الآخرين (فضل الله، 2000، 103). وانتقد فضل الله قوانين الأسرة في الغرب، التي لا تجيز للأهل استخدام القوة في تربية أولادهم. وطالب الرجل المسلم أن يضغط على زوجته كي تستر جسدها من رأسها إلى أسفل قدميها، وأن تُحجّب الفتاة من عمر 10 سنوات. صحيح أنه يطالب المسلمين في بلاد الاغتراب بأن يكونوا أمناء على ممتلكات غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ونظامهم (فضل الله 2000، 194-197، 202)، إلا أنه يذكر في أماكن أخرى من كتابه، أنه يجوز الكذب على السلطات في بلاد الاغتراب إذا كان ذلك لمصلحة الإسلام، ومخالفة القوانين التي تتنافى مع عادات المسلمين وتقاليدهم (فضل الله 2000، 208). ومعنى هذا أن تكون إقامة المسلم في بلد الاغتراب وجوداً جسدياً للضرورة، فيما تبقى روحه وثقافته إسلاميتين. ويجيز فضل الله أن ينظر المسلم إلى إمرأة عارية، ولكن “من دون لذة وشهوة تماماً”، من دون أن يوضح كيفية ذلك (فضل الله 2000، 225).
دور جمعيات المهجر في تغذية الهوية الإسلامية
أدى المسجد والجمعية الإسلامية دوراً في التماسك الاجتماعي من أجل تعزيز الهوية الإسلامية وتحصين المهاجرين ضد مغريات المجتمعين الأميركي والأسترالي ومنع اندماجهم فيهما. فقامت الجمعيات الإسلامية بعملية مضادة لأي توليف بين الهوية الدينية والهوية الأميركية أو الأُسترالية، وذلك عبر إبقاء للمهاجرين المسلمين ضمن ثقافة إسلامية (Humphrey 1998, 41). فأسس المسلمون، سنّة وشيعة، المراكز والمساجد في مدن الولايات المتحدة وأستراليا وتتبعها المدارس لتعليم اللغة العربية (Batrounney 1998, 428-433)؛ سويدان 2004).
وتعزز وضع هذه الجمعيات، في أن اللبنانيين في تلك المدن فضلوا الانتماء إلى مؤسساتهم الدينية، التي عملت كحلقة اتصال بينهم وبين دوائر الخدمات في القارتين، من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب والمنافع. ولاحظ أحد الباحثين أن الحكومة الأسترالية فضلت التعامل مع الجمعيات الدينية اللبنانية وليس مع تلك العلمانية، لاعتقادها أنها بذلك تضبط عملية الإشراف على الجالية اللبنانية عندها (Ata 1998, 480-1). ولاحظ باحث آخر أن “الوطن” بالنسبة إلى اللبناني في أستراليا أضحى الطائفة، فهو ينتمي إلى طائفته ويصف نفسه بها، وهذا الانتماء هو الذي يحدّد موقفه من “الآخر”. وينطبق هذا على الولايات المتحدة. إن نسبة 50% من المسلمين في أميركا يصفون أنفسهم من خلال دينهم، قبل أن يروا أميركا في هويتهم (Johnson 2011).
وبعد نمو الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط وفي لبنان، متأثرة بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، تحوّل الدين إلى شيء أساسي بالنسبة إلى شيعة ديربورن، من خلال فرض الحجاب على النساء الداخلات إلى المراكز الإسلامية ومنع الاختلاط، حتى مصافحة المرأة للرجل بوساطة اليد (بيضون 1989، 8، 28). وسرعان ما تفشت هذه السلوكيات وأصابت الكثيرين. وفي الوقت نفسه، انتشرت الكراهية للولايات المتحدة وسياستها العدائية تجاه إيران الإسلامية. فأصبح مسلمون لبنانيون لا يرون في أميركا أو أستراليا هويتهم، بل في إسلامهم.
المسلمون في مجتمعاتهم الجديدة: إقامة لا اندماج
فيما كان المهاجرون اللبنانيون إلى أميركا وأستراليا من الرعيلين الأول والثاني أكثر اندماجاً وتأقلماً مع مجتمعاتهم، رفض مسلمون من موجة حرب لبنان الاندماج، وقدّموا نماذج وأدواراً اجتماعية متعددة. فنجد من بينهم المنقطع عن الدراسة، والعاطل عن العمل، والمجرم، ومروج المخدرات، والتاجر الناجح ورجل الأعمال والفنان والأكاديمي. إن عدم اندماج المسلمين في مجتمعاتهم الجديدة، لأسباب دينية – ثقافية، جرى تسويغه بأن التمسك بالإسلام يساعد على مقاومة الضغوط التي تفرضها الثقافة الغربية والمحيط الاجتماعي الغربي على الأُسرة الإسلامية. وفي كثير من الأحيان، كان إظهار التديّن لتأكيد الانتماء إلى غير هوية المجتمع العلماني، وبالتالي ضمان بقاء المسلمين مختلفين عن “الآخرين” منفصلين عن مجتمعاتهم.
كان المسلم الأصولي وحتى المتديّن ما أن يصل إلى ديربورن وسيدني وملبورن، حتى يستقبله المسجد والمركز الإسلامي والجمعية الإسلامية والمدرسة الإسلامية. فتلتحق كل جماعة بأتباع مذهبها وتتقوقع معها لتحصل منها على الدعم، وهو ما فعله المسيحيون أيضاً مع أبناء عقيدتهم (Naff 1998, 163). وفي ظل جهل اللغة وثقافة البلاد أو توافر العمل على الفور أو على المدى الطويل، يصبح المهاجر المسلم أكثر تبعية للمركز أو المسجد الإسلامي والتصاقاً بهما أو بأقاربه التابعين للمركز. فتشتد عنده نزعة الأصولية أو النقمة على المجمتع. من هنا، كان مسلم المهجر أمام خيارات ثلاثة: إما ترك بلد المهجر ما أن تصبح بناته في سن المراهقة، أو أن يعزل نفسه عن محيطه العلماني ويبقى في جلباب ثقافة وهوية إسلاميتين ترفضان “الآخر”، أو أن يبقى حيث هو مع أسرته يحاول التسوية بين ما استحضره من لبنان من موروثات وثقافة إسلامية وبين المجتمع العلماني. وعاش بعض هؤلاء في حالة من التمزق بين الانتماء إلى بلد مجتمع المهجر أو إلى هوية إسلامية، وعجز كثير منهم عن إيجاد تسوية بين الانتماءين على المستوى النفسي والاجتماعي والقيمي، فوقع أبناؤهم في انفصام في الهوية[1]. على عكس ذلك، لم يشعر المسيحي بالغربة في مجتمعه الجديد، فتمكن، بشكل عام، من الاندماج في بيئته الجديدة لأسباب تتعلق بالدين والثقافة ومؤهلاته العلمية وقدراته الاقتصادية.
لقد تمّيزت مرحلة الثمانينيات بهجرة أُسر لبنانية ممتدّة بكاملها (Aswad 1998, 168,182). أما من جهة الفئات العمرية لشيعة ديربورن حتى عام 1994، فبلغت نسبة الذين تقل أعمارهم عن 24 سنة 62.2%، فيما نسبة 81.3% من مجموعهم كانت تحت الـ 55 سنة، بمعنى إمكان انخراطهم في سوق العمل (جابر 1999، 752-753). وهنا تكمن الخطورة في أن الفئات العمرية تحت سن 24 كان عليها إما أن تعزل نفسها عن مجتمعها الغربي العلماني وتبقى برعاية الأهل وثقافة المسجد، أو تقع في انفصام شخصية بين هوية إسلامية في المنزل والمركز الإسلامي وبين مجتمع علماني.
أما من رفض الاندماج، فعبر عن ذلك في سلوكياته اليومية، من خلال لباس المرأة الجنوبية في المدرسة وعلى الطرقات العامة، وفي حضور الدروس الدينية في المساجد، وعدم الإقبال على تعلّم اللغة الإنكليزية، وانتشار صور الشخصيات والقيادات الدينية في المنازل، والعمل غير الشرعي، والتهرب قصداً من دفع الضرائب واستفتاء علماء دين حول جواز قبض الإعانات الحكومية والبقاء من دون عمل، أو حتى الغش في الامتحانات (جابر 1999، 802-803).
كان بإمكان الشاب اللبناني الخروج مع فتاة أميركية أو أسترالية، في حين حُظر ذلك على الفتاة اللبنانية المسلمة. وهذا ينطبق على مشاركتها في بعض الألعاب الرياضية، كالسباحة وحضور دروس مدرسية عن الحياة الجنسية، حتى الجلوس إلى جانب الذكور من الطلاب على مقعد واحد. وبداعي الخوف على بناتهم، كان الأهل يصرون على تحجيبهن وأن يتم
تزويجهن في سن مبكرة كعاملين أساسيين لتحصينهن وردعهن عن الانحراف. كان “شرف البنت” هو أهم ما حمله هؤلاء معهم إلى المجتمع الأسترالي العلماني وحافظوا عليه. من هنا،
كان يحدث صدام داخل الأُسرة اللبنانية المسلمة، بين الأهل الذين يريدون أن يبقى أولادهم في “جلباب” ثقافة القرية وتقاليدها، وبين الأبناء والبنات، الذين يتعرضون في كل يوم إلى إغراءات الخارج وتأثيره فيهم. وقد اشتكى الأهل من القوانين التي تعطي المرأة اللبنانية حقوقاً مساوية للمرأة الغربية أو التي تمنعهم من معاقبة أولادهم، وتفقدهم بالتالي الضبط والسيطرة على سولكياتهم، فيخسرون بذلك أفضل ما في تقاليدهم (طبر، 2005، 52، 53؛ جابر 1999، 749-750؛ Aswad 1998, 182-183)، وهو ما تسبب بنقمة إسلامية على سلطات المهجر.
إن تدخل الأهل في كثير من الأحيان في اختيار الشريك الآخر لأبنائهم أو بناتهم من أعضاء الجالية، أو استحضار زوج أو زوجة لهم/لهن من المسائل الشائعة في المهجر للحفاظ على الهوية الإسلامية. لذا، قلّ وجود الفتاة المسلمة العانس. فلعبت الجنسية ورقة رابحة في يدها. فهي إن لم تتزوج من شاب لبناني من مذهبها مقيم في المهجر، كان أهلها “يستوردون” قريباً لها مقيم من لبنان طامح للحصول على جنسية البلد الذي تقيم فيه (حرفوش 3، 154-155). أن نسبة 84.5% من مجموع الأُسر اللبنانية التي أتت إلى الولايات المتحدة، أقدمت على الهجرة عبر أواصر القرابة المباشرة مع مهاجرين سبقوهم إلى القارة، أو عبر حالات الزواج وهذا ما ساعد على إحياء وشائج القرابة العائلية وانتاج علاقات قرابة جديدة في المهجر (جابر 1999، 748-749).
إن اعتقاد اللبنانيين المسلمين الوافدين أن “إقامتهم” في المهجر موقتة، جعلهم لا يبذلون جهداً في الاندماج بمجتمعاتهم الجديدة، وظلوا يتعاطون مع قضايا لبنان وكأنهم لا يزالون يعيشون فيه (سلمان 2002). وعلى العموم، لم تستطع أميركا بكل ضوضاء “ثقافتها” وحياتها المجتمعية الصاخبة، أن تُحدث كسراً حاداً في عرى التضامن العائلي بين اللبنانيين وقرابة الدم والزيجات على الطريقة اللبنانية والانتماء والقروي، حتى العصبية الطائفية أو المذهبية أو الثقافية.
إن الانخراط في سوق العمل وتعلم لغة البلاد، هما أيضاً من أولويات الاندماج. فمن خلالهما يستطيع المهاجر أن يتعرف إلى الآخر وثقافته ويسهم في أن يكون مواطناً ناشطاً في مجتمعه، ما يجعله يؤدي دوراً فاعلاً في عملية اندماجه الاجتماعي. وهذا ما عكف عليه لبنانيو الموجات المهاجرة قبل العام 1975. ومنذ الموجة الثالثة إلى أُستراليا، ارتفعت نسب العاطلين اللبنانيين عن العمل، فبلغت 43% للذكور ما بين 15 سنة و34 سنة في العام 1996، و50% لدى الإناث في شهر تشرين الثاني من العام 1996. وهناك حوالى 60% من المسلمين السنّة يعيشون على المساعدات الحكومية الأُسترالية وتعويضات حوادث العمل، في مقابل 32% للموارنة (طبر 2005، 105، 117؛ (Australias’s 2007. ولما كانت الإعانات الاجتماعية لا تكفي لسد حاجات الأسر اللبنانية (جابر، 1983، 19)، كان عليها الالتصاق بالمركز الإسلامي أو بالمسجد لتحسين دخلها والتماشي مع ثقافة كل منهما الدينية (سنّو 2008، 2، 1295). وتشير الإحصاءات أن نسبة كبيرة من المسلمين كانوا لا يلمون باللغة الإنكليزية ويستخدمون العربية في المنزل لانتفاء الحاجة إليها في “مجتمع إسلامي” منعزل عن محيطه العلماني ويحافظ في الوقت نفسه على قيمه وعاداته. وفي بعض الأحيان، كانوا يؤدون عملهم عبر استخدام الإشارات والحركات.
الرفض المضاد للهوية الإسلامية: عنصرية أم دفاعاً عن مجتمع وقيم؟
صحيح أنه ليس هناك معلومات متوافرة حول أعداد اللبنانيين الذين يرفضون الاندماج في مجتمعهم الأميركي أو الأسترالي على أساس المعاناة من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، ومن البطالة، ومن عنصرية رجال الشرطة وتحامل وسائل الإعلام عليهم من جهة (طبر 2005، 123-124، 141-189)، ومن جهة أخرى حول أعداد الذين يرفضون الاندماج على أساس هويتهم الإسلامية. من هنا، يضع أوستراليون، منذ أحداث سيدني في العام 1998 وبالي في العام 2002، كل المسلمين في سلة واحدة ويتهمونهم برفض الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة وبالسعي إلى فرض شريعتهم وقيمهم الإسلامية على الحياة العامة، عبر شنهم حرباً دينية على مجتمعاتهم الجديدة، وأن لا تعايش بين الديمقراطية وحقوق الإنسان وبين الإسلام.
حتى الاندماج الاقتصادي لم يتحقق بالكامل، ذلك أن العطالة عن العمل وعدم الإلمام باللغة الإنكليزية، وهما محددان لمستوى الدخل ومؤشران على مدى الاندماج (طبر، اللبنانيون 114). وفي مطلع الألفية الثالثة، تكلم أستراليون بصوت مرتفع بأن المسلمين اللبنانيين من موجة الهجرة الثالثة هم أكثر الموجودين في السجون بعد الفيتناميين في العام 1997 (طبر 2005، 68؛ Australia’s 2007). حتى أن الكثير من حوادث الاغتصاب تُعزى إلى مسلمين لبنانيين. إن وضع مفتي أستراليا اللوم على فتيات أستراليات لإقدام مسلمين لبنانيين على اغتصاب بعضهن بأنهن “يحركن بلباسهن غير المحتشم غرائز الرجال المسلمين”، قوبل بموجة احتجاج عارمة في البلاد(Michaels, One Year) ، وهذا ما جعل رئيس وزراء أستراليا جان هوارد (John Howard) يقول: “إن المسلمين الذين يريدون أن يعيشوا تحت ظل الشريعة عليهم مغادرة البلاد، ومن يريد البقاء عليه أن يتأقلم مع الثقافة ومعتقدات البلد وتعلم لغتنا” (Prime 2008). ووصل الأمر بالبعض إلى حد المطالبة بطرد المسلمين من البلاد، الذين يستبحون الشوارع أثناء صلاة الجمعة، وهدم مساجدهم ومراكزهم. (Muslims n.d.).
وفي ديربورن، لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً منذ أحداث 2001. قبل السبعينيات، تجنب إمام مسجد ديربورن الشيعي لبس العمامة في الأماكن العامة، واستعمل الإنكليزية في المسجد الذي أوجده، وحوله إلى خلية اجتماعية تضم الجنسين. ومنذ وفود موجات الهجرة من حرب لبنان، بدأ الشيعة يبتعدون عن “الأمركة”. وقد أزعجت الممارسات الإسلامية السكان الأصليين، وبخاصة مسألة الدعوة إلى الصلاة خمس مرات يومياً عبر مذياع المسجد، ما حمل السلطات الأميركية على منع آذان الفجر والإبقاء على بقية فترات الأذان الأخرى. من جهة أخرى، أظهر أميركيون حنقاً وعداء تجاه لبنانيين عاطلون عن العمل يعيشون على حساب مؤسسات الإعانة، وفي أن بعضهم انخراط (في لبنان) في أعمال إرهابية (Aswad 1998, 167, 177-80). وذكرت صحيفة أميركية بأن ديربورن تحت حكم الشريعة، من خلال ارتداء الحجاب وعدم أكل لحم الخنزيز أو شرب الخمر وعدم بيعهما، والدعوة إلى الجهاد وصلاة الجمعة في الشوارع. ورأى آخرون أن المدينة تكاد تنسى الفصل بين الكنيسة والدولة وتتحول إلى ربط بين الدولة والمسجد. وقد ارتفعت الحملة المضادة للمسلمين منذ عام 2008. واستهدفت تفجيرات وحرائق مفتعلة للمساجد، وسجلت جرائم الكراهية ضد المسلمين ارتفاعاً بنسبة 50% في العام 2010 (Denvir 2012).
استنتاج
ربما من المستحيل، التوليف بين هوية إسلامية ترفض “الآخر”، بعقيدته وقيمه وثقافته، وتصر على دور الدين في الحياتين السياسية والعامة، وبين مجتمع غربي جعل العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان أساساً لبناء نظام ومجتمع. إن تماهي الثقافة الغربية باللادين وبالهوية الأميركية أو الأسترالية أو الأوروبية التي فكت ارتباطها بالدين، جعلت المجتمعات الغربية تصطدم يومياً بالحضور الاسلامي الكثيف في المساجد والساحات وعلى الطرقات وفي المطاعم والمدارس زعبر آذان المساجد، وتفاجئ أن الدين قد عاد إليها من بوابة الاسلام. فتشتد مشاعر الكراهية والرفض والعنصرية لكل ما هو إسلامي. وكلما غالى الغربيون بمشاعرهم هذه تحت تأثير “الإرهاب الإسلامي” وتحديداً منذ أحداث 2001، كلما وجد المتطرفون الاسلاميون في ذلك استفزازاً لهم (السماك 2011). وربما هذا هو أحد أسباب ارتفاع معدلات الجريمة بين الأحداث اللبنانيين المسلمين في أستراليا. صحيح أن بعض حالات التعصب والعنصرية التي ظهرت ضد المسلمين غير محقة (طبر 2005، الفصل 2)، لكن أميركا وأُستراليا قدمتا الملجأ والأمن وحرية الرأي والتعبير وفرص العمل والدراسة والإعانات الحكومية للمسلمين المهاجرين أو الفارين من بلادهم، كما سمحت لهم ببناء المساجد والمراكز الإسلامية بسخاء، إلا أنه ذلك لم يؤد كله إلى بناء جسور للتلاقي، وحتم الصدام بين مجتمع علماني يدافع عن ثقافته وقيمه وديمقراطيته، و”مجتمع” إسلامي لا يرى وجوده في المهجر إلا على أساس هوية إسلامية وإيديولوجية دينية سياسية.
◊◊◊
1-مقابلة مع س. ط. (دكتور في العلوم الإنسانية) المقيم في مدينة ملبورن، الذي أبلغني أنّه مضطرّ للبقاء في أوستراليا، ويحاول جاهداً إعطاء ابنتيه تربية إسلاميّة وإبعادهما، قدر المستطاع، عن حياة المجتمع الأوسترالي، 12 تموز 1998.
(*) محاضرة ألقاها الباحث والمؤرخ الدكتور عبدالرؤوف سنو في مؤتمر: الحضور اللبناني في العالم (2)في جامعة الروح القدس – الكسليك (14-15 آذار 2013)
بيبليوغرافيا
– أسعد، نغم. “11 مليون مهاجر لبناني في جميع القارات والأصقاع”، جريدة اللواء، 29/2/2009.
– بولعوالي، التجاني. ” اندماج المسلمين في الغرب بين الإمكان واللا إمكان”، الحوار المتمدن، عدد 1193، 2005/ 5 / 10. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=37045
– بيضون، أحمد. بيضون، بنت جبيل ميشيغان، بيروت 1989.
– جابر، عون. “الجالية اللبنانيّة _ديربورن): مميزاتها، خصائصها، وعلاقاتها ببرنامج ثنائيّة اللغة”، ماجستير جامعة واين ستايت- ديترويت)، كلية التربية 1983، ص 16، 23.
– جابر، منذر. الشريط الحدودي المحتل. مسالك الاحتلال، مسارات المواجهة، مصائر الأهالي، بيروت 1999.
– الجماعة الإسلامية. بيانات ومواقف. http://www.al-jamaa.org/pageother.php?catsmktba=15
– حرفوش، نبيل فارس. الحضور اللبناني في العالم، ج3: 1985-1988، بيروت لات.
– حسين، محمد. “طرابلس بعد توضيح الرئيس ميقاتي لكلامه حول الإمارة الإسلامية. من جند الله إلى التوحيد ففتح الإسلام فالحديث عن إمارة طرابلس الممتدة إلى طرطوس محاولات عدة في البال وحلم لا يزال يدغدغ مخيّلة الكثيرين”، جريدة اللواء، 27/12/2012.
– الحمد، خباب. “الغرب … نظرة جديدة للاختلاط”. إسلام وب، 17/3/2011.
http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=164001
– حوار مع مفتي أستراليا (تاج الدين الهلالي). موقع: منتديات نور أسلامنا، 10/9/2008. http://www.nourislamna.com/vb/t5826.html
– ربّاط، إدمون، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ج2، ترجمة حسن قبيسي، بيروت 2002.
– سلمان، هنادي. “من هم عرب أميركا؟. تفاصيل مختارة من رسم يحتوي مشاهد كثيرة”، جريدة السفير، 15/1/2002.
– السماك، محمد. “حول الوجود المسيحي في المشرق”. جريدة المستقبل، 3/10/2011.
– سنّو، عبد الرؤوف. حرب لبنان 1975-1990. تفكك الدولة وتصدع المجتمع، المجلد الأول: مفارقات السياسة والنزاعات المسلحة والتسوية؛ مجلد 2: التحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية والمعرفة، بيروت 2008.
– سنّو، عبد الرؤوف. “الآخر” المسيحي الأوروبي في التأريخ العربي الإسلامي: صور من الرفض وحدود التعلم
نماذج من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة”. مداخلة: مؤتمر برلين للمسلمين التقدميين – تنظيم مؤسسة فريدريش أبرت – برلين 21- 23/10/2010.
– سويدان، منال. “اللبنانيون المسلمون المهاجرون إلى أستراليا كأنهم في حرب للحصول على الجنسية وجمع المال وإنجاب البنين”. جريدة البلد، 22/6/2004.
– فضل الله، محمد حسين. تحديات المهجر بين الأصالة والمعاصرة، إعداد وتنسيق مصطفى الشوكي، بيروت 2000.
– لبكي، بطرس. “أثر الهجرة والحروب في تنمية لبنان”. المنبر، 20 (1987).
– مسرّة، أنطوان. “الاغتراب اللبناني: إعادة إنتاج نزاعيّة أو …”. جريدة النهار 10/8/2002.
– مقابلة مع س. ط. المقيم في مدينة ملبورن، 12 تموز 1998.
– مقابلة مع شارل الشرتوني في برنامج “الشاطر يحكي”. المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال بتاريخ 4/4/2001.
– Aswad, Barbara C. “The Lebanese Muslim Community in Dearborn, Michigan: Albert Hourani/Nadim (eds.), The Lebanese in the World: A Century of Emigration, I.B. Tauris & Co Ltd, London 1992.
– Ata, Abe. ”The Lebanese in Melbourne: Ethnicity, Inter-ethnic Activities and Attitudes to Australia. Albert Hourani/Nadim Shehadi (eds.), The Lebanese in the World. A Century of Emigration, I.B. Tauris &Co Ltd, London 1992.
– Australias’s Lebanon Problem, Lebanese Chess, July 5, 2007.
http://lebanesechess.blogspot.com/2007/07/australias-lebanon-problem.html
– Denvir, Daniel. Dearborn: “Where Americans Come to Hate Muslims”, 5/9/2012.
– Donohue, John J. “The Influence of Political Conflict on Religious Life in Lebanon: Politization or Depolitization of Religious Institutions”. Culture, religion, politque et la reconstruc-tion du Liban,: Colloque international 1985 “Le Mouvement Culturel Antelias” Liban, Tome II.
– Humphrey, Michael. Islam, Multiculturalism and Transnationalism. From the Lebanese Diaspora . The Centre of Lebanese Studies Association with I.B. Tauris Publishers, London/New York 1998.
– Johnson, Toni. “Muslims in the United States”, September 19, 2011, Council on Foreign Relations. http://www.cfr.org/united-states/muslims-united-states/p25927
– Muslims in Australia .Islamic Criminals, Terrorists and Rapists. Hotheads
http://www.hotheads.com.au/muslims%20in%20australia.htlm
– Naff, Alixa. “Immigration into the United States: 1880 to the Present”. Albert Hourani/Nadim Shehadi (eds.) The Lebanese in the World: A Century of Emigration, London 1992.
– “Prime Minister Howard – Muslims Out Of Australia”. Hoax-Slyer, July 2008. http://www.hoax-slayer.com/howard-muslim-speech.shtml