ميشال حايك الشاعر “مقلق الوجود” ينتدي حوله المطران مطر ومنيف موسى وإيلي صليبي

نظمت دار سائر المشرق ندوة حول كتاب: “القلق الوجودي في شعر ميشال الحايك”، في قاعة جبران خليل جبران في مبنى قدامى الحكمة في الأشرفية، شارك natahlie-1فيها، إضافة إلى المؤلفة الأديبة الدكتورة ناتالي خوري غريب، رئيس أساقفة أبرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر، الإعلامي والأديب إيلي صليبي، الدكتور منيف موسى، أدارتها الدكتورة كريستيان  صليبا صفير.

 استهلت  الدكتورة كريستيان صفير الندوة  بالترحيب بالحضور، لتعرّف بالكتاب الذي اعتبرته الأوّلُ من نوعِهِ في مضمونِه حول شاعرٍ، ربما قد عَرَفه الجميع كاهنًا واعظًا، أستاذًا جامعيًّا،  مُفَكّراً لاهوتيًا ولكنْ قليلٌ من عرفوه شاعرًا. ومن ثمّ تناولت بنبذة عن الشاعر الحايك وحياته في فرنسا حيث اختلط بمُفَكّريها وفلاسفتِها لكنّه ظلّ يحنُّ الى الشرق والى لبنان ثائرًا على طائفية تقتلُه، وباحثًا عن الدور المسيحي في التعددية الدينية في معنى” ايجابي ونقاطِ تلاقٍ إبراهيميةٍ تكتمل بالمفهوم المسيحاني للمحبة والقِيَم الجامعة، وقد شكّل عملـُــه عِمادًا بما سُمِيَّ لاحقًا اللاهوت السِياقي العربي. ومن ثمّ أضاءت على شعره الذي كان مِنْبرًا استطاع إعطاء بُعدٍ إيمانيّ  لمضامين ليتورجية تقليدية كانت قد فقدت قيمتَها الوِجدانية والروحية،  ثم تتالت الكلمات وجاء فيها:

المطران بولس مطر

المطران بولس مطر الذي عايش الراحل الكبير استهلّ كلمته  بقول أفلاطون إنَّ قمَّةَ الفلسفةِ هي الشِّعرُ، مقارنًا بين اللاَّهوتيُّ الأعظمُ تُوما الأكوينيُّ والأب الحايك القامة الفكرية الأمشق في لبنان في الجمع بين إعمال العقل ونسج القصائد، في المحبة الإلهيّة.ومن ثمّ أضاء المطران مطر على حظّه بمرافقة الحايك طوال خمسين ونيّف وتعرَّفه إلى أولى قصائدِهِ ، ومتابعته له في أيَّامِهِ الأخيرةِ عندما خانَهُ الجسدُ رفيقًا وكيف كان يَستعدُّ لِلِقائِهِ العظيمِ مع ابنِها الكلمةِ الأزليِّ الَّذي من أجلِهِ صِيغَت كلُّ كلماتِهِ ومن أجلِ تَمجيدِهِ نُظِمَت كلُّ قصائده. واستكمل المطران كلمته عن القلقُ الوجوديُّ الكبيرُ الَّذي يَشعرُ به المرء، ومن هُنا كان عنوانُ الكتابِ القيِّمِ الَّذي وَضعَتهُ ناتالي الخوري غريب، راسِمَةً فيه قلقَ ميشال الحايك في مُحاكاتِهِ ضمائرَ النَّاسِ وكأنَّه يتكلَّمُ عنهم في ما يقولُ. ولَشدَّ ما كان فَرَحي كبيرًا عندما تنقَّلتُ في كهفِ ذكرياتي الخاصَّةِ عن الكاهنِ الشَّاعِرِ فدخلتُ من جديدٍ إلى كهفِ ذكرياتِهِ ورافقتُهُ كما بالأمسِ في اجتيازِ حواجز الغُربةِ والموتِ وصولاً إلى العبورِ والمعادِ المنشودَين في آخرِ كلِّ مطاف.  ومن ثمّ أكمل المطران بدراسة عن مفهوم الوطن الذي تحوّل في شعر الحايك إلى جرح لا يندمل، لا لغربة عنه، بل لأنّ لوطن متغرّب عن ذاته.،

«اذكريني يا بلادي كلَّما

ماتَ عصفورٌ بعشٍّ مُهمَلِ

واذكريني يا بلادي كلَّما

ماتَت الموجاتُ في الشَّاطئِ الخلِيِّ»

 ومن اختبارِهِ الشَّخصيِّ ينتقلُ المطران مطر إلى كلامِ الحايك عن القلقِ الوجوديِّ العامِّ وإلى الأسئلةِ الكبرى الَّتي تَقضُّ مضاجعَ كلِّ وجدان. وكيف استحضرُ طيفَ أبي نوَّاس شاعرِ الخمرةِ والمجونِ، مع صَحبِهِ الَّذين رامُوا من السُّكرِ موتَ المشاعرِ في القلوبِ، ويُحاكِيه مع الَّذين يَعقدُون مثلهُ الحلقاتِ في هيكلِ الثَّمالةِ حتَّى الصَّباحِ، لِيقولَ:

«وتُداوي الدَّاءَ بالدَّاءِ ومن كاسٍ لكاس

                                                          يثملُ الكلُّ حَوَاليكَ وما تثمل».

فيتهيَّأ إلى حقيقةٍ دامغةٍ يهزُّ بها كيانَهُ،فيُوجِّه إليه التَّنبيهَ الثَّمينَ بِقولِهِ: «عبثًا تقتلُ بالخمرةِ نارَ الأزلِ».

ليختمُ كلامه بالتلميح بأطروحةُ الحايك في كلِّ مُدوَّناتِهِ بأنَّ العربَ والمسلمين هُم أبناءُ إسماعيل بنِ إبراهيم من زوجتِهِ هاجَر، وبأنَّ اليهودَ هُم أبناءُ اسحق بنِ إبراهيم من زوجتِهِ ساره، وبأنَّ العربَ واليهودَ كلاهما أبناءٌ لإبراهيم في اعتقاداتِهم، وأنَّ بين هؤلاءِ وأولئك ثأرٌ دفينٌ منذُ أن طُرِدَت هاجَر إلى الصَّحراءِ لِتَنعمَ ساره وأولادُها بأرضِ الميعادِ. إنَّ هذا الثأرَ لا دواءَ له عند الحايك سوى بالمحبَّةِ النَّابعةِ من قلبِ مسيحٍ أعطى لِلأرضِ سرَّ مُصالحةِ السَّماء. إنَّها الدَّعوةُ المسيحيَّةِ عندَهُ في لَمِّ شَملِ المنطقةِ وأهلِها بِفعلِ إيمانٍ وقوَّةِ رجاءٍ. وهذا يصحُّ أيضًا في قضيَّةِ لبنانَ ولبنانَ القضيَّة. فوطنُنا هو وطنُ التَّلاقي، وطنُ العبورِ إلى المعادِ الإنسانيِّ الأشهى، وطنُ المحبَّةِ المُتجلِّيةِ في حرِّيَّةٍ وحقٍّ يتلاقيان من غيرِ افتراقٍ.في دعوة منه إلى العودة إلى هذه الرُّؤَى الباهرةَ لميشال الحايك وبخاصَّةٍ في هذا الظَّرفِ العصيبِ الَّذي تمرُّ به المنطقةُ بِرُمَّتها، لأنّ ميشال الحايك هو صَنْوُ الأنبياءِ، والنُّبوءَةُ أن تتحقَّقَ، إنَّها منارةُ القلقِ والقَلِقين تهدِيهِم إلى شاطئٍ أمينٍ حيثُ «يَتمَلملُ» الرَّملُ المذيبُ إلى مُواصلةِ المِياهِ.

nathalie-2

 الدكتور منيف موسى

من برعم الكلمة خرجنا: الأب ميشال الحايك وأنا… وإلى مائدتها اجتمعنا. أصخت إليه طويلاً، أيام عافيةٍ، عبر أثير إذاعة لبنان، يوم كان فكره اللاهوتي الفلسفيّ المنوّر الوقّاد، ينهمر رشق بيان، في أماسيّ عظاته، زمن الصوم، وما كنت قد أيفعت بعد. وقد شدّتني الكلمة إلى رحاب قصرها المنيف، فإذا أنا في عرس الأدب والفلسفة واللاهوت، كخادم الهيكل، أشعل الشموع وأحرق البخور على اسم الفصاحة في منارة العقل والوجدان. فأدخل نفسي في كاتدرائيّة العلماء القديّسين، ومعي الكتاب، أقرأ في “سفر الحكمة”: “لأن الله لا يحب أحداً إلاّ من يساكن الحكمة. إنّها أبهى من الشمس وأسمى من كلّ مركزٍ للنجوم وإذا قيست بالنّور تقدّمت عليه، لأنّ النّور يعقبه الليل، أما الحكمة فلا يغلبها الشرّ” (سفر الحكمة9: 28، 29 ،30). وعند السيّد أنتشي بعظة الجبل، وأصلّي: أبانا الذي في السموات…” حتى إذا أخذتني نشوة شطحات مهجوسٍ ببلاغة الكلام، تصادى في خلدي رنيم تأمّلٍ آخى كياني، فمسّ عندي الأيس والليس، وأنا في غمرة التّسآل: “أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”

ولحظة التجلّي فوق “الحرمون” تناهى إلى مسمعي: “أما ابن الإنسان فلا يدري أين يضع رأسه… (الإنجيل)، فقد مضت به الجيئة في أرض التعاسيف، والأديم خواء… ضجر ينيخ كلكله فوق صدر التراب. وآدم منه في ترسيمة الحمأة هيئة من إله. قال: أف! أرمضني قيظ الهاجرة، والأرض يباب. وجهاً من الغيب أتملّى، فالعتمة في رائعة النهار، قبض أعمًى على قنديل أو سراج. والرؤية غشاوة ضلال، كحاطب في السّرى أهيم. أين الرؤيا تطيح الغيب، تحضر إلهاً جالساً على عرش السماوات. والأرض مسرى قدميه… أقبّل التّرب في مصهر الخلق، والإنسان استوى سويّاً، فانزاحت الغمّة عن عينيه فردوساً من نعمة الوجود، ورأسه وضع على صدرها في عري الجمال. هي الشهوة إلى البدع في تجسيد احتراق اللذة إلى الوصال، والوصول. خذ القصبة، يراعةً ابرها، صيّرها ناياً، ودوّن في الرّق مزامير اللّهب إلى العطش، وأنشدها أنغام قدّاس. واعلم أنّ الإنسان قصبةُ مفكّرة هو، والقصب صار مدّاد الشرعة في كتاب الحقّ. وها هو اليوم حاضرٌ، منذ البعد إلى القبل. والعبور ميعاد التّلاقي والتلاقح. وأنا، المغامرة الكبرى، الإنسان، سكنت.. كهف الّذكريات، يا للعري – أكشف فيه وجه الله. عارياً أقف أمامك يا الله. لقد أحببت وعشقت، وفضضت بكارة التعبير. وظلّت عذرتها نقيّة.. قريباً إليك صرت، وأنا في التّيه. ووجهك معي عمود نورٍ ونار، فلا أضلّ، وقد خلعت نعليّ، مقدّسة أرضك، وأنا من ترابها. لكن الغربة يوم نهشني الشكّ غمّت عليّ، حتى كان نور تجلّيك. فإذا أنا عند قمّة الأرز أرفع إليك الصلاة، تباركت الأرض وقد ضاقت بي، فخلعت عنّي رداءها، ووشاحك ائتزرت.. فصرت نورانيّ المادّة والنّفس. والروح منّي قد تجلّى عروساً في العشاء الأخير. من خبزك تناولت وخمرك. فانفتحت عيناي على حقّ ثورتك الربّانيّة، فخرجت من أرض اليباب إلى خضر المرابع، ونهرك عليّ دفّاق، نضجت بالزّوفى فنصعت. بيدي سفر “التّوق والتجلّي”. قمت من حمأة الرّماد فأسفر لي سرّ الجمال سرّ الجمال المستور روعة جلالك، يا الله! وأنت العقل في حكمة الدّهور التي كشفت لي حقيقة الغربة. بين نورٍ وديجور، غريبين كنّا، في أرض الضياع… هات يدك، من فوق الخشبة، صليبك خلاص، قهر جبروت العتاة. لصّ المحبة غدوت، سرقت السلام، أنقذته من أرض الشرّ، أجلسته عن يمينك، وأنا فوق الجبل من أرضك لبنان، أقمت مأدبة اللقاء، وخبزك يشدّد جسد الإنسان. تبارك فتحك الأرض، سماءً غدت للتوّاقين إلى المعرفة. لأن الكلمة صار جسداً وحلّ فينا. فنحن في مصافّ الآلهة الآن، وإلى الغد، إلى اليوم الأبد!

ما ذا القلق هذا؟ وأرض البشر قد مسحها الشّك صحراء. أعطني اليقين، يا ربّ. امنحني العاشقة الرائعة عقلاً وروحاً وجسداً – امرأة الجنس المقدّس – ردّ لي بهجة الشّوق والاحتراق إلى ينابيع شهّاء! ألبسني غمامة من زمانك، يا مسيح! ردائي خليقاً بات. مسحك، ولا زنابق الرّبيع.. في تواجد العارف أشطح إليك، قصائدي صلوات، إنجيل شاعرٍ مجذوب، ترجيعه صدى أجراسٍ في قباب المشرق. وغروبي فجر عيدٍ في دارة السماء. هزمت فصول الجحيم، وعلى باب فردوسي أقيم طقوسي.. طفل المغارة عقل السماء هو وروحها.. وربّ المعرفة. المعرفة اكتمال، وأنت الكمال! وأنا إليك يا الله!

وأنت السّوى. فالعدميّة معك قد امّحت في فعل الألوهة، قهرنا الموت. بالفعل الحياة إليك، في قيامتك العظيمة!

أيّها الغريب! دربك سلكت، أعطني أن أدخل العنصرة الجديدة، يا ربّ، فالعيد جسد، وأقم حارساً على فمي، يا الله، ورقيباً على شفتيّ، فأنطق بالحقّ! هات يدك فنقوم من غربةٍ، ونبرأ من دنس. يا للعقل المبدع يمرغ هاماتنا بأكاليل الغار، فلا قلق بعد، بل غبطة وسلام!

 هكذا قرأت ميشال الحايك، متماهياً بالكتاب، أنبياء وأسفاراً، فكان كموسى في أرض العليقة، أو كيوحنّا في رؤياه، عيناه في دهشٍ وفمه من صلاة، والكهنوت عليه في رتبة “ملكي صادق”. ينشد أورشليم الجديدة، أرضنا السّماويّة، والقلق في سراديب نفسه المتغرّية، مشكاة نورانيّة. فالمصباح يوضع فوق المنارة. هي الكآبة فيه، فإذا هو مسوس بسوداويّة الياس أبو شبكة وإيمانه، ورهبانيك يوسف غصوب وصمته الضاجّ، ويأس صلاح لبكي وتهالكه، وجماليّة سعيد عقل ومثاليته، وغربة فوزي المعلوف ومرارته، وتأنّق أمين نخله وترفه، وعبثية أبي نواس وقدريّته. هي المشيئة يا الله، والخيار وعي في لاوعيه، سبحانك ربّي، والحايك نسج من خيوط لغة باريس سأم (Spleen) بودلير ونزعته، ومرثية رامبو بيان الجحيم إلى المطهر، والمصير في الكينونة والسيرورة يدخل عبره فردوس “العبور والميعاد”، فكان له على الأرض “بعض أيّام السماء”.

وهكذا قرأته في كتاب ناتالي الخوري غريب. فحاكا ميخائيلية الجناحين، فكان هذا الكتاب، ضوء أكاديميّةٍ مترصّنة في ضوء كهنوتيّةٍ قلقةٍ متغرّبة.

وقال الرّجل ما قال: ضاقت به أرض الرّجاء، فابتدع فيها سماءً من قلقه، فكان الرّخاء.

ميشال الحايك أيّها الأب الشاعر الغريب، مباركة رحلتك..

ويا ناتالي، كتابك كتاب مريدةٍ في القلق والشوق والغربة، وكلّنا، نحن المبدعين غرباء، فتحيّاتي إليك، ولكم أقول:

علقوني، على جذوع النّخيل

واكتبوني

أسطورة صوفيّ، في قضيّه

أنا في قلوب العذارى، خفقة عشقٍ

تجمّل في شعري الأبجديّة!

إيلي صليبي

ميشال حايك

صياد ُ البشر ذاك ،

اصطادته ناتالي فاستمرأ الإقامة في شباكها .

أرادوا دفنه حيا ً فأبعدوه ، وما استراح حتى استراح .

وأقامته ناتالي أليعازر جديدا ً ، وفقأت عيون أعداء اللاهوت والشعر .

أعادته الى حيث ضاقت به الأرض ، وقبلها صدور من نبذوه لأنهم كأنهم  لم يعاصروه ، فلم يفهموه .

ميشال حايك

أنت الآن بيننا حضور أقوى من  غياب وحضور .. وليتنا نستحق أن تدخل علينا من ذلك الباب الضيق ، ونقف ونهف لاستقبالك .

قفوا وصفقوا لشاعر الله .

ميشال حايك

كان على شأن معلمه .. ففرّق ولم يجمع ،

وأجرؤ على القول : كان الرسولَ الثالثَ عشر ،

      قامة ً … وصوتاً عاصفاً … وعشقاً ليسوع …

سيدي المطران مطر،

سيدتي ناتالي، صديقي منيف،

ماذا جئنا نقول هنا؟

أرقيماً، أم رثاء، أم نقداً لكتاب .

ما لم يخطر ببال أن الحايك، حيث هو، يقهقه عالياً، وقليلا ما شوهد يبتسم، لحزن كحزن معلمه حتى الموت، وهو يرانا نحاول صب البحر في النهر، وزرع الربيع في الصحراء، وحبس عطر الزهر بقارورة، واختصار التاريخ بقبعة عسكرية وسقوط قلعة في يد فاتح مغرور.

الشعر وحده أعطي مجد السماء.

سيدتي، اخترت الصعوبة، واخترنا ما هو أكثر صعوبة. أنت  قفزت من ضفة نهر جاف إلى ضفة أمنة، ولما التفت إلى ما اجتزت فاض النهر وتجاوز الضفتين، لأنك تجيدين سحر الكلمة. أما نحن فأمامنا البحران، بحر الحايك، وبحرك، وليس إلا ابن المطر يحمل عصا موسى ليشقَّ ويعبر. أما أنا فمراوح في مكاني باحثا عبثاً عن ضفاف للبحر .. ويحي هل للبحور ضفاف؟

وبعد،

ها بين يدي شلال أقلّبه كتاباً،،

وما حيلتي وأنا والنقد على تعارف عابر سبيل بعابر آخر  في أرض الغرباء؟

وسيلتي استجداؤك الصبر، والتحمّل، كما صبرتُ على قلمك وتحملت ظلم  جماله. فالظلم القلمي أشد حفراً في القلب وأكثر تعجيزاً للعقل .

سهّلي علي الأمر واطرديني من هذه القاعة، أو استعملي سلطة الوردة على اليد، واقمعيني وافرضي علي السكوت .

ما دمت لم تحركي ساكنا … ها أنا مسترسل في الكلام المباح .

أستهلّ بشكلية وإشكالية .

الكتاب: القلق الوجودي في شعر ميشال الحايك ..

بغلافيْه الحاضنيْن لمئتيْن وإحدى وعشرين صفحة، مع أخيرييْن بيضاوين كمثل الكتب المقدسة واللاهوتية كلها، نسقٌ أنيق اللون والتنسيق، وحسنُ الطباعة والإخراج.

أما الإشكالية فهي في تجنب المؤلفة، من قريب وبعيد، التطرق الى ما كان ليخفى ولا يخفيه الحايك نفسه في الحلقات الضيقة من لفيف الأصدقاء، من تعرضه لحملة عليه، ولاسيما من خاصته، لاستبعاده وإبعاده. وهذا جرح حمله إلى حيث القديسون يستريحون، ملتزماً الطاعة، ولكن أنين الألم في قلمه يبطن الوجع من طعن في الظهر والخاصرة وأما الصدر فتجنبوه لأنه يحتم مواجهة غيرَ مجدية، فضَّل الحايك أن يُشيح عنها .

المؤلفة :

ناتالي الخوري غريب،

وهي هنا في القاعة عطر كلمة أنثوية لم تجرفها موضة عمليات التجميل،  وهي هنا الة حفر في العقول برأس قلم ، وحركة عصيان وشغب على سلطة اللغة المجترة، وطغيان ِالنثر على الشعر.

نتالي اختارت أن تكون جان دارك ألف مرة على ان تكون مارلين مونرو ولو لربع مرة ، وهي تدخل محارق محاكم التفتيش لتنقذ كتابا من النار، ولو علق طرف ثوبها الجميل بلهيب الحرائق. هذه الناتالي لو لم تكن منذورة للشهادة على الورق لكانت كالكثيرات والكثيرين ممّن يراهنون على الثقافة وكأنها لعبة ورق .

ناتالي ، ربما وقعت في شباك ميشال الحايك ، كما وقعتُ فاصطادني للمسيح، أيّام كان صوتاً صارخاً هادراً وقامة تجاور قامات الرسل الأوائل، وهو يعتلي عتبة مذبح كاتدرائية مار جريس المحروسة باللابس الظفر، لا ليعظ بل ليعصف .. لا ليفسّر المفسّر بل ليخترق جدران الكنيسة ويفتح فيها كوة ليتسلل إليها نور الشمس، ومنها إلى العالم نور المسيح .

الوجود عند الحايك ..

كما التقطته مراصد المؤلفة، تبعد الحايك عن فلسفة الوجودية وعبثية البحث عن خالق ما،، في الأديان كلها. فتراه ينقب عن العدم وما قبله وما بعده. وتراقبه وتحصي عليه أنفاسه، وتزج أنفها في حميمية مفرداته، وتجمع أدلة في ضواحي أبياته، حتى تستسلم لها مسام جسد شعره وترضخ لعملية تشريح بالكامل .

ضبطته المؤلفة يرتكب فلسفة غير مسبوقة، من خلال شعره، مجيباً عن تساؤلات العلم في أيهما سبق الآخر، العدم أم الوجود؟

نتيجة التحليل في مختبر ناتالي الخوري غريب :

إنَّ الحايك وضع العالم الهيولي قبل العدم . ويُستدل ــ والكلام للمؤلفة ــ على نظرة الحايك الى النشأة ، بان العالم الهيولي / وهو المادة الموجودة التي تجوهرت بها الاجسام / سابق للعدم .

ليفهم السامع : الهيولة جوهر وليست جسما . وهذا الجوهر قابل ليكون صورة للاجسام  /  وقابل للتنوع والتغير /  ومادة طينية لتوارد الصور عليها وهي اصول ابتداء التراكيب الكونية .

فلولا وجود العالم الهيولي ، يضيف التحليل “الناتالي” لما كان وجود العدم التالي له . من هنا كانت فلسفة هذا العلم الهيولي تسيطر على أنموذج التفكير لدى الشاعر ميشال الحايك .

واللافت في البيان التحليلي: وضع المؤلفة إصبعها بالذات على دلالات حسية ربما غابت عن نقاد كثيرين ، تثبت أن الحايك ولج في نظريته إلى العدم من اضمحلال العالم الهيولي لأنه لم يكن إلى أبدية معينة بل كان الى عدم . وسلطت أضواءها على قرية مهجورة يسكنها أكواخ ترابيون ، أي نحن المهاجرين في نهاية الأمر من دون إرادتنا .

أوف ..

خذوا نفساً عميقاً .

ما يريده ميشال الحايك ببساطة واختصار أن يبرر الفراغ الذي كان قبل العدم . وهنا اختلفُ معه نصف اختلاف. ولن أفصح. رأيي يمكن الرجوع إليه في كتابي “عودة النبي” .. فالندوة لهذا الكتاب وليس لذاك .

أيتها البارعة في حياكة الحايك من جديد ،،،

ترين إلى قلق وجودي في شعر ميشال حايك وهذا عنوان سفرك، وهو يصنف بين الأسفار، فيما أرى أن قلقا آخر قض مضجع قصائده . وهو غاية الحايك في إقلاق الوجود . وإلاَّ لما كان شاعرا .

مذهل هو … ومذهلة أنتِ .

قلقٌ مقلقٌ هو ، وأنتِ الألق المقلق للقارئ الوثني .

ولأن الموضوع كتابُك في الشاعر .. وليس الشاعر نفسه، أسمح لنفسي بأن أمرر بقلم الرصاص أسطراً تحت أسطر خلاصاتك الأربع، واستنتاجات بحثك. لا لشيء، إلا للعودة إليها كلما استرجعت الحايك في صومعتي أو في مجالس خاصتي. فهي اختصارات، كما الزهرة تختصر الربيع وكما القطرة تختصر العطور.

وسأحاول اختصار المختصر بقليل الكلام ، لأن كثيره يورطني في جدلية ليس هنا مكانها ولا الساعة زمانها .

رأيتِ إلى الشاعر يحاول جاهداً تمثل العالم الهيولاني من العدم الأول ليعبر به إلى طبيعة الحياة الاولى . ثم انتقل إلى الخطيئة الاولى التي أودت إلى ترك النعيم والفردوس في ذلك العدم الأول نزولا  إلى الأرض من أجل التطهر. وبعدما دفع آدم وحواؤه ثمن الخطيئة بحلول اللعنة عليهما وطردهما من النعيم ،، جاء زمن الحنين إلى ما قبل الخطيئة والتحسر على العدم الأول .

إلى أن تصلي ، سيدتي، إلى فلسفة الغربة في أشعار الحايك. والصراع بين الموت وحب البقاء.

وتضيفين بدقة أن الشاعر يوضح العلاقة الجدلية في طبيعة انفصال الروح عن الجسد، ووجود التوأمة بين الموت والروح . هذه التوأمة المبنية على أساس الرغبة في الانجذاب إلى مثل تلك الطبيعة الوجودية التي يتحقق وجودها الكلي في آفاق وأمداء معينة، ما جعل الشاعر ــ تقولين ــ يشعر باليأس والإحباط والأسى، فلا يرى مناصاً إلا بالموت الذي هو خلاصة حتمية قد لا تكون نهائية بل بداية لمسيرة أخرى .. وفي خلاصة أخرى ترين الشاعر يلوذ بقيامة المسيح من الموت إعداماً نهائياً ًللموت .

كم بذلت ِ سيدتي من الوقت والجهد والبحث، واللهاث وراء الشاعر في تنقله السريع بين الأكواخ الترابية وجنة عدن والمسيح المخلص، وسواها من الغربة، والحنين، والإحباط وقرع الأجراس.

هل أكتفي .. أم أكمل ؟

شو .. ؟

أنا في بحيرة من الحيرة. أمامي أنتم، وفي جواري مطران مشبع باللاهوت، ودكتور حبيب شاعر وأديب، وناقدة حتى أعماق بطون الكتب، وهي ضاربة ضارية على وتر العزف بالكلمات. أجدني كلما فتحت صفحة من الكتاب أفتح على نفسي شهية التهام صفحاته. فما حيلتي ووسيلتي للتحرر من شباك الحايك وناتالي، ومن الحرج أمامكم وأمام عمالقة في زمن الأقزام؟؟؟

وختاماً، وخارج الموضوع، أودُّ أن أعترف بأنني كنتُ من السذاجة إلى درجة الاعتقاد بأن للسماء مفاتيح معلقة على أحزمة بطون البوابين. لكنني صرت أؤمن بأن  للسماء مفتاحاً واحداً هو المسيح. واعترف بأنني كنت أحب الأب ميشال الحايك لاهوتيا ً يضارع بولس ، واغسطينوس، ودي شاردان، وسواهم من أمراء الكنيسة والفكر اللاهوتي، فصرت بفضل هذا الكتاب بالذات أوقن  بأن داوود لم يعد شاعر الله الأوحد ، بل صار الله يجلس بين شاعريْن: داوود . ..وميشال الحايك .

ناتالي خوري غريب

والله لم يلهني عن الشعر لاه لولا الله”، “بهذه الكلماتِ، قطع الأبُ الحايك صلاتِه بالشعر من  دون أن تنقطعَ لهُ صلةُ رحمٍ بكلمةِ الله، ليرتقيَ بالقصيدةِ من التساؤلاتِ الوجوديةِ وقلقِ المصيرِ، إلى ترانيمَ وتسابيحَ إلهيّةٍ، تبحث عن الحقيقةِ المتجلّيةِ في الله وحكمتِه في خلقِه وسرِّ حبّه الكبير للإنسان، فتفجّر قلقُه قصائدَ مصابيحَ أضاءت الوعيَ الوجوديَّ على كينونة الحياة في الوجدان الإنساني، فتاهت عناصره في بحار الروح المنجذبة إلى الملكوت الأعلى، لتستولي على كلّيته استيلاءً  ماهويًّا، بل إنّها تتماهى فيه، في عمق السكون الوجودي، لأنّ الوجود امتزج في نفسه الدائبة عن التفتيش فحلّق في سموات من النورانيّة الفيّاضة.

وها نحن إلى شعره نرنو، نذكر، ومعه ندعو، إلى امتلاءٍ بعد تجويف، لشعرٍ عَبَثَ فيه تقليدٌ وتزييف، لشاعر بدأ في سنّ اليفاع بـ “كهف الذكريات”، حيث ناداه علويُّ صوتٍ، ربانيّ صداه، فخطّ قصّة عبوره وما سيكون عليه توقُ ميعاد، شعرًا وفكرًا وعشقًا إلهيًّا، فأرسل قصائده إلى الغربة والموت، وعندما شعر بأنّ به الأرضَ ضاقت،  بالسماء وُعِد،  فعاش ضيفًا ينتظر عبورًا إلى أصليّ موطن. مهاجرَا كوخه الترابي، ليعود روحًا مجرّدةً من الكثائف الطبيعيّة، عابرًا إلى عالمٍ لا يسكُنه إلا القدّيسون الأبرار. فكان الموعد الذي ماطله الزمان لتحقيقه باستمرار عيشه، موعدٌ انتظره واشتهاه: أشار إلى ذلك في كهف الذكريات:

أشهى مواعيدِ الهوى موعدٌ       منتظَرٌ يقسو ويَستبعدُ

فخلِّ لي الّليلَ انتظارًا فلا         يدنو الرّجا منّي ولا أرقُدُ

حتّى إذا عهدُ العهودِ انتهى       والعمر لم يبق به فَرقَدُ

تحلّ أشواقي وغاياتها              في بلدِ السّحر الذي أنشدُ(كهف الذكريات ص 50)

لم يكن الحايك إنسانًا عاديًّا أو كاهنًا عاديًّا، بشهادة الأقربين والأبعدين، بل كان مرآة عاكسة للوجدان الإلهي، فأتت قصائدُه معجمًا إيمانيًّا، يدعو الى الفضيلة الروحانية باللطف الكهنوتي، ثائرًا على الموروث، داعيًا إلى تأسيس البنى الاجتماعيّة الإيمانيّة التي ترفع مجد الإنسان، شعرًا ونثرًا.

فيا أبتِ الجليل:

ها كنيستك تفتقدك، وها أجراسها تبكي  حزنَ غيابك،

وتشتاق حجارتُها حرارةَ إيمانك،

 وتتوق أدراجُها إلى لهفة قدومك،

يعطّر بخورُها ذكرى قداستك،

ويردّد منبرُها صدى عظاتك،

ويرنّم مؤمنوها بهجة أناشيدك،

لكنّ صورتَك ستبقى أيقونةً بجانب مختاريها الأبرار،

 

أبتِ الجليل،

وانتَ الحاضر أبدًا في قلوبنا والعقول، تشاركنا صلواتنا وآمالنا وآلامنا،

سنذكرك في كلّ “وليمة”.

سنذكرك كلّما نادتنا أجراس القيامة المبشّرة بفرح الخلاص.

ومن الأب الحايك، إلى المنتدين الكرام المتكلّمين عنه،

أشكر صاحبَ السيادة  رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر، السامي الاحترام، على جليلِ قولٍ وسموِّ بيان، يعجِنه بخمير الحق والنور، وهو خادم الربّ الأمين الذي  أُعطي نعمة الأمانة، فأَنعَمَ …

كما أشكر الأستاذ  إيلي صليبي على شهادته، وهو الإعلامي العَلَم العَلِم، الصدّاح بنفيس الكَلِم،   فجاءت قالاتُه ابريزًا متكلّلًا  بمهيب صوت، يوشي جبين شاشاتِنا وإعلامنا وأدبنا.

وأشكر أيضًا الشاعر الدكتور منيف موسى، حلّاج الوطن الأسمر، الذي يكتب بلغة الوحي الآتي من وراء هذا الكون، وهو الحصيف نقدًا، واللطيف روحًا وعبارة، والشفيف لغة، وقد تتلمذت عليه أكاديميّا..، وكان خيرَ موجّهٍ وأستاذٍ وصديق.

كذلك أشكر الصديقة الدكتورة كريستيان على إدارتها الندوة، وهي المتخصّصة في علم النفس الاجتماعي، على تمرّسٍ في العمل الاجتماعي والثقافي، ونشاط ضمن لواء”معًا نعيد البناء”، حوارًا ثقافيا وتلاقيا حضاريًا إخوانيًا.

والشكر أيضًا للأستاذ الأديب أمين زيدان، وقد وشّى كتابي بمقدِّمةٍ تاجٍ متوهِّجٍ فكرًا وجمالٍا، وهو مبتكر أسلوب أدبي وجمالي ويشكّلُ مدرسة متفرّدة في الكتابة الأدبيةِ نحاول أن نحاكي خطاها.

وفي الختام اسمحوا لي أن أشكر أيضًا دارَ سائر المشرق، ومؤسسَها الإعلامي الأستاذ أنطوان سعد،  لحثيث سعيٍ  في نشر هذا الكتاب، وهو الذي آمن بالكلمة رسالةً، وبنشرها همًّا تربويًّا ووطنيًّا وحضاريًا، فلا يألو جهدًا لتثبيت دوره الفاعل كنُخبوي في سبيل كلّ ما يُسهم في نهضة هذا الشرق. فلا يكتفي بالنظر على تفنّن قولٍ، بل وصف حال لها جاهدًا يسعى إلى إيجاد حلول، قولًا وكتابة ونشرًا .

اترك رد