هل يُنقذ العِرفان العالَم الساعي إلى تدمير نفسه؟ مؤتمر دولي بين بيروت وطهران سعياً إلى السلام

DSC05632يتابع “المجمع الثقافيّ العربيّ” (أكاديميّة بَيْن عربيّة) نضاله، منذ ربع قرن، في سبيل إيجاد صحوة معرفيّة و “إنسانيّة” تُفضي إلى تكامل عربيّ وتضامن عربيّ، ثقافيّ وإجتماعيّ وإقتصاديّ، وإلى تعاون مع جارتَي المشرق العربيّ، تركيا ولاسيّما إيران ذات الشراكة الكاملة مع ديار العرب في المجال الثقافي وسواه.

إلاّ أنَّ مجمع العرب الثقافيّ انبرى هذا العام لتخصيص مؤتمر دوليّ يتناول الانهيار الإرهابي والتطرّف الدينيّ والمذهبيّ والعرقيّ القائم في الشرق الأوسط والمتسرطن في أنحاء العالم. لذلك، عقد – بالاشتراك مع الهيئة العلميّة الإيرانيّة للعرفان الإسلاميّ (انجمن ايراني علمى عرفان اسلامي) – في طهران مؤتمراً دولياً عنوانه: العرفان الإسلاميّ المسيحيّ بين المبدأ والواقع.

مبادرة البروفسور فكتور الكك

تضافرت محاور المؤتمر حول السؤال المحوريّ للمؤتمر: هل يمكن لتعاليم العِرفان والتصوُّف الإسلاميّ والمسيحيّ أن تُنقذ العالم المتهاوي إلى قاع الدمار بالتطرّف والتعصّب من كلّ لون؟

تمحورت المحاضرات التي أُلقيت بالعربيَّة والفارسيّة حول هذا السؤال الكبير، متنوِّعة في مقارباتها، هادفةً إلى التقريب بين الأديان والطوائف والمذاهب والثقافات والحضارات، من منطلق العِرفان، أي بلوغ المعرفة القصوى الجامعة بين معرفة الله وأسرار الكون والخليقة.

كان لمبادرة البروفسور فكتور الكِك، الأمين العام للمجمع الثقافي العربيّ وأُستاذ الحضارات ولاسيما الحضارة العربية الإسلامية في الجامعات اللبنانيّة، وجامعة طهران وجامعات أوروبية وأميركية خلال حياته الأكاديمية، اقتراح موضوع العرفان موضوعاً يداوي واقع الحال، صدىً لدى الشريك الإيرانيّ فالتقيا على الموجة نفسها.

هكذا نهضت الدكتورة فاطمة طباطبائي بمهمة التحضير للمؤتمر، مستعينة بأعضاء هيئة العرفان الإيرانية. وكان من المفترض أن يُعقد المؤتمر في بيروت. إلاّ أنّ الاضطراب الأمنيّ الذي أصاب لبنان بسبب الحروب الدائرة في الشرق الأوسط حال دون ذلك، فدعي الجميع إلى إيران وعُقد المؤتمر في طهران. يذكر أنَّ مؤتمراً بهذا الموضوع ليس شعبيّاً، بل من المفترض أن يكون نخبوياً يُعلن نتائجه للناس كافّة بعدئذ. إلاّ أنّ المؤتمرين فوجئوا بحضور حافل ضاقت به القاعة الكبرى التي احتضنت المؤتمر، وهي تتسع لنحو ألف شخص!

وجوه العرفان

عالجت المواضيع التي تناولها المؤتمرون مختلف وجوه العرفان، النظريّ منه والعمليّ:

افتتحت الدكتورة فاطمة طباطبائي أعمال المؤتمر مرحّبة بالمحاضرين والحاضرين، وموضحة أنّ الهدف من إقامة مؤتمر العرفان تبادل الآراء والأفكار بين المتخصّصين في العرفان من أرجاء العالم، لاسيّما بين الجامعييّن الإيرانيين واللبنانيين.

أضافت: “شباب اليوم في حاجة إلى هدف سامٍ يرتفع بهم إلى ما فوق الحياة اليومية الرتيبة ويكسبهم معنويات، فتغدو حياتهم ذات معنى ومغزى، ويرفعهم إلى سدّة السموّ الروحاني. فضلاً عن أن تعاليم العرفان فعلت في مجتمعات كثيرة وأحلّت بين الأفراد والجماعات روح التسامح والتفاهم والعيش معاً بسلام”.

أما البروفسور فكتور الكك فتناول: “العرفان الإسلامي رسول السلام بين الشعوب والأمم”، موضحاً النزعة الإنسانية التي يقوم عليها العرفان الإسلاميّ والتي لا تفرّق بين الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق، فتحلّ الوئام بين البشر. “ولا غرو، فالعرفان يقول بالأصل الواحد للأديان وأنّ بعض الاختلاف في ما بينها يعود إلى أسباب النزول وظروفه، وأنّ الحقيقة واحدة لا يتفرّد بها دين دون آخر، عملاً بالحديث البنويّ القائل: “الطرق إلى الله في عدد أنفاس الخلائق” الذي اعتمده أهل العرفان”.KIK honoring Tabtabai

إنطلاقاً من ذلك، خلص البروفسور فكتور الكك إلى القول إنّ العرفان الإسلاميّ كالعرفان المسيحيّ هو دعوة إلى الذات الإنسانيّة بالسعي إلى بلوغ مرتبة “الإنسان الكامل” المتحرّر من العلائق الدنيويّة ومن وساوس النفس الأمّارة بالسوء، ومن التفرقة الدينيّة والعرقية عاملاً على معرفة سرّ وجوده المُفضي به إلى معرفة الله أي مرتبة العرفان. هذه النظرة وهذا المسلك يؤديّان بالإنسان المتسامي إلى إحلال السلام بين الشعوب والأمم.

العرفان وإصلاح المجتمعات

بهذه النظرة التي استقاها البروفسور الكك من تراث أهل العرفان – أمثال ابن عربي وفريد الدين العطّار وجلال الدين البلخي الرومي وحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي – يرى أن العرفان ضرورة لإصلاح حال البشر الغارقين في الأنانية والجشع وعبادة المادة، وهو يوقظهم من غفلتهم، وليس، كما يقول أدعياء الثقافة، هرباً من مواجهة الحياة وانزواءً عن المجتمع.

ولمّا كان البروفسور الكك متعمّقاً في دراسة تراث الأُمّتين العربيّة والإيرانيّة وسواهما فإنه أبرز ما فيهما من مقولات عرفانية تسمو بالإنسان إلى الكمال وتفعل في إرساء ثقافة السلام في المجتمعات المختلفة.

من هنا، رأى الكك ضرورة لنشر تعاليم العرفان، لأنّ من شأنها أن تصلح أمر العالم الساعي إلى تدمير نفسه بلا هوادة بالتطرّف الديني والحروب العبثية.
حفلت محاضرة البروفسور الكِك بالشواهد العربيّة والفارسية (مترجمة شعراً بقلمه بالعربيّة) التي تدعو إلى نبذ التعصّب والإخاء الإنسانيّ والمحبّة، مثل قول حافظ الشيرازيّ (مترجماً بقلم الكك):

كل إنسٍ صابئٌ للخِلّ صارا صاحياً أو ذاهلاً مثل السكارى،

كل ناحٍ صار للحبّ مزارا مسجد المسلم أَو دير النصارى!

ما أورد شواهد متنوعة من تراث ابن عربي وجلال الدين الرومي وسواهما، تبياناً لما ذهب إليه.

الرومي في أميركا يحدث انقلاباً روحانياً

ختم البروفسور الكك بحثه المطوّل بمثل حيّ عما ذهب إليه من أثر العرفان في انتشال إنساننا المعاصر من غرقه في المادّة وعبثيّة حياته، ممثلاً بأثر جلال الدين الرومي في المجتمع الأميركي، وهو أثر يشكّل انقلاباً في حياة الأميركيين لا سابقة له.

خلاصة الأمر أن الشاعر الأميركي كولمَن باركس، بالتعاون مع أكاديميّ أميركي يتقن الفارسيّة، نقل مختارات من شعر الروميّ العرفانيّ إلى الإنكليزيّة الأميركيّة، فأقبل الأميركيون عليها إقبالاً منقطع النظير، إذ باعت دار نشر هاربرسان فرنسيسكو الشهيرة ستمائة ألف نسخة خلال ستة أشهر، بسبب سموّ مضمونها الروحاني العرفاني وتقديسها للإنسان ورفع معنويّاته، فإذا الأميركيون يكتشفون من خلال تعاليم الرومي معنىً لحياتهم وهدفاً سامياً لوجودهم.

وتعاظم تأثير الروميّ العرفانيّ بحيث أنّ مادونّا، رمز الغناء الجنسي، أخرجت بعض غزليّات الرومي في قرص ممغنط CD. وكذلك مقدّم البرنامج التلفزيوني الشهير لاري كينغ خصّ الترجمة الروميّة بحديث يليق بها. ومثل ذلك فعلت وسائل إعلام أخرى.

كذلك انتشر تدريس الفارسيّة، إثر هذه الموجة الروحانية الغامرة، في مراكز البلديات والمنتديات، وأقبل على تعلّمها الشباب الأميركيّ بشغف، ولا غرو فقد وجدوا نفوسهم الضائعة، بفضل العارف المشرقيّ ومنحوا حياتهم معنىً سامياً.

صورة للمسيح في تراث الروميّ

في سياق الكلام على روحانيّة العرفان المنقذة لعالمنا الضائع، قدّم الأب الدكتور يوحنّا عقيقي (نائب رئيس جامعة الروح القدس للأبحاث) بحثاً وافياً حول صورة المسيح في صوفية العارف الشاعر جلال الدين الروميّ، مقرِّراً: “إن عالم المتصوّفين واسع ورحب بقدر ما يضيق فيه طريق الوصول إلى الغاية. فإذا كانت هذه الأخيرة تتطلّب زهداً وتجرُّداً وخروجاً فموتاً عن الذات فلأنها تفتح عين القلب على كل خير بين المعشوق و “شفتي الياقوت” .. في هذا الإطار، يسعى المتصوّفون، ومولانا في ركابهم، إلى تحميل الرموز أسمى وأصفى ما اصطفي في عين الخالق، علّهم يعرفون، ويساعدون في نقل ما رأوه بأسلوب يماثل ترقرق الدموع على الجفون.

ثمّ تناول الدكتور عقيقي صورة المسيح في تراث الرومي معتبراً أنها تشكّل خلفيّة أساسية في شطحات مولانا، يعود إليها كلما ضاق عليه عنوان إلى الحياة، أو تبدّت لديه رؤيا الخلق من جديد، أو انسحب الشكّ إلى القيامة في المجد.

مع الروميّ العارف الاستثنائي، توحّدت الرموز العلويّة المسيحيّة والإسلاميّة في بحث الأب الدكتور عقيقي العميق، تقصّياً وشمولاً.

الحلاّج، أنموذجاً

الدكتور سليمان حسيكي (رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الإسلامية في لبنان) عنون بحثه “المسيحيّة المشرقية في العرفان الإسلاميّ”، مختاراً الحلاّج أنموذجاً لموضوعه “لأنّ المحبّة الإلهيّة التي اختمرت في قلبه هي التي قادته إلى الارتقاء بإيمانه إلى مستوى الإيمان الروحيّ الصرف، المنزَّه عن أية عصبيّة أو تمييز.. كما قال بوحدة الأديان غير مفرّق بين دين وآخر.. واعتبارها أصلاً له شعب جمّة ..” أما تماثله بالسيّد المسيح، ولو ظاهرياً في بعض نواحيه، فقد أدّى به إلى الجمع بين العرفان الإسلامي والعرفان المسيحي وما يداخلهما من ملامح مشرقية عميقة الجذور، فإذا هو واحد من متعدّد، ومسلم تلاقت في أعماقه خلاصات الأديان، فغدا الرمز المستنير والمنير في دوحة الحبّ و التسامح.

الوجد الصوفي وجذوره الإسلامية وغير العربية

كان هذا العنوان موضوع محاضرة البروفسور جورج طربيه الذي تتبّع جذور الوجد الصوفيّ في الحضارات القديمة التي سبقت نهوض الحضارة العربية الإسلامية، في البلدان التي سادها العرب في بلاد ما بين النهرين والهند وسوى ذلك من بلدان أخرى دخلت في الحكم الإسلامي، لاسيّما حركة النسك السرياني والمسيحي الشرقي وانتشار صوامع النسّاك المسيحيين في الصحراء العربيّة قبل الإسلام وفي العراق وسوريا وغيرهما.

الصلاة معراج الإيمان

الدكتورة سوسن صلُّوح (جامعة المقاصد، بيروت) بحثت في العمق الروحيّ والعرفانيّ لأداء عبادة الصلاة في الإسلام، ساعية إلى كشف بعض أسرارها الروحية العميقة.
وبيّنت أن الصوفيّ يرى في العبادات وبينها الصلاة واجبات شرعيّة، إلا أنّ التزامه يتجاوز أداءها إلى عمق روحيّ لا يستطيع الانفكاك عنه. وذهبت إلى “أننا إذا بسّطنا الأمر ونظرنا بعين قلبنا نرى أن العبادات جميعاً بأشكالها وتنوّعها في مختلف الشرائع السماويّة تهدف إلى محبّة الخالق وكسب رضاه، إذ إن معرفته هي منتهى السعادة والسلام الإنساني”.

الإنسان الكامل

أما الدكتور الشيخ محمد رحمتي (منسّق أعمال المؤتمر بين المجمع الثقافي العربي والهيئة العلميّة الإيرانية للعرفان الإسلامي) فتناول مفهوم الإنسان الكامل من منظاري المسيحية والإسلام ولقاء الديانتين على صعيد هذا المفهوم. فالإنسان الكامل هو رمز استخلاف الله الإنسان على الأرض والقطب الروحيّ الذي يجمع بين الأرض والسماء. وفي النتيجة إنه المثل الأعلى الذي يرقى بالإنسان إلى الملأ الأعلى ويجرّدها من العلائق الدنيوية.

العرفان الإسلامي والأخلاق

الدكتور شيخ الإسلامي (عميد كلية الآداب بجامعة طهران سابقاً) تكلّم على مفهوم الأخلاق من منظار التصوف والعرفان وكيف تعالى أُهل العرفان على كلّ ما يفرّق بين الإنسان وأخيه الإنسان، داعين إلى أخلاق إنسانية تجمع بين ما دعت إليه الأديان التوحيديّة. يذكر أن الأستاذ الشيخ شيخ الإسلامي يُعتبر من أبرز المتخصّصين في تراث ابن عربي الغزير والمتنوّع.

عارفو غرب أفريقيا والأندلس

أمّا الدكتورة نهى ملاعب (جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين)، فساقت الكلام على عارفي غرب أفريقيا والأندلس في القرون الوسطى، والأواصر التي ربطتهم بديار المشرق الإسلامي والتنافذ الذي حصل جرّاء التفاعل الذي قام بين هذين القطبين، وما امتازوا به من نزعة إنسانيّة تقدّس كل ما في الكون لا سيّما الإنسان.

باحثون إيرانيون كثر

شارك في تقديم الأبحاث، عدد من الأساتذة الإيرانيين المبرّزين الآخرين في مضمار التصوّف والعرفان الذي انسحب على مجمل التراث الأدبيّ والفكريّ باللغة الفارسيّة، في إطار إيران الكبرى وإيران الحاليّة، من بينهم الدكتور حبيبي (رئيس جامعة العلاّمة طباطبائي سابقاً وعضو الهيئة الإيرانية للعرفان الإسلاميّ) الذي تناول رسالة التصوف والعرفان الإنسانية وصلاحها لإنقاذ عصرنا مما غرق فيه من ضياع.

إقبال حاشد ودوام على الحضور

لا بد من الإشارة إلى الإقبال الكبير على حضور جلسات المؤتمر وعدم تراجع عدد المداومين حتى الجلسة الأخيرة، ولم يفرغ كرسيّ في القاعة الكبرى التي احتضت أعمال المؤتمر، رغم أنّ الموضوع ليس شعبياً، بل يستدعي ثقافة تجمع الفلسفة إلى الأدب إلى معطيات الأديان؛ غير أنّ تجذّر الإيرانيين وأتباع البلدان المحيطة بهم في تراث التصوف والعرفان، جعلهم يقبلون بشغف عليه، إذ عمرت القاعة بقادمين من أفغانستان وباكستان والهند وبنغلادش والعراق والكويت وسائر بلدان الشرق الأوسط.

مآدب ودروع

أحيط الوفد اللبنانيّ إلى المؤتمر، والمؤلف من مندوبي خمس جامعات لبنانيةّ اختارهم الأمين العام للمجمع الثقافي العربي إضافة إلى بعض أعضائه, بحفاوة كبيرة من قبل الدكتورة فاطمة طباطبائي وابنها سماحة السيد حسن الخميني حجّةَ الإسلام والمسلمين.

كذلك دعا سفير لبنان في إيران الأستاذ فادي الحاجّ علي أَعضاء الوفد اللبناني وبعض رفقائهم من الإيرانين إلى مأدبة غداء في منزله بطهران، تكريماً لهم وتقديراً لمكانتهم الثقافية ورسالتهم في خدمة الإنسانية، بنشر ثقافة التفاهم والسلام بين الأديان والشعوب والأمم.

وخلال المأدبة قدّم البروفسور فكتور الكك، الأمين العام للمجمع الثقافي العربي، مجموعة كتب من منشورات المجمع. وكان سبق للبروفسور الكِك ان قدم درع المجمع إلى الدكتورة فاطمة طباطبائي عربون تقدير, وكذلك إلى الشيخ الدكتور محمد رحمتي المنسّق بين المؤسستين.

بدوره دعا سماحة السيّد حسن الخميني، حفيد الإمام الخميني، أعضاء الوفدين اللبناني والإيراني إلى مأدبة عشاء في فندق انتركونتيننتال بطهران، تكريماً لما قاموا به من الاهتمام بمداواة المآسي التي تعصف بشرقنا الأوسط، بإكسير المحبّة وتعاليم العرفان التي تجمع أتباع الأديان كافة من كل جنس ولون، حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى دين، لأنهم خلقوا على صورة الله ومثاله، والعرفان يقدّس الإنسان، أيّاً كان ومهما يفعل. فعسى أن يكون المؤتمر طليعة مؤتمرات تصبو إلى تحقيق الأهداف المنشودة لسعادة الإنسانية.

اترك رد