بقلم: د. جــودت هوشـيار
نحن نعيش اليوم في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات، حيث أصبح التعميم الرقمي في شتى جوانب الحياة أحد أهم العوامل الرئيسية لتحديث المجتمعات وتقدم الأمم. وفي الوقت ذاته ، أخذت ( الفجوة الرقمية – (The Digital Divide تزداد اتساعاً، بين الدول المتقدمة، التي تستخدم إنجازات الثورة الرقمية على أوسع نطاق في الحياة اليومية وفي البحوث العلمية وميادين الاقتصاد والصحة والتعليم ومجالات عديدة أخرى، وبين الدول المتخلفة، التي أخفقت لحد الآن في توظيف هذه الإنجازات وفق خطط علمية مدروسة في تطوير مجتمعاتها.
وعلاوة على ذلك ، ثمة فجوة رقمية أخرى داخل كل مجتمع. ففي الدول الصناعية المتقدمة، نجد أن الأغلبية الساحقة من السكان تمتلك مهارة استخدام الكومبيوتر والبرامج والتطبيقات المتصلة بها، وتتوفر لها إمكانية الدخول إلى الشبكة العالمية للمعلومات ( الإنترنيت ) بكل يسر وسهولة ودونما انقطاع وفي شتى الظروف والأمكنة مع وجود أقلية ضئيلة لا تحبذ الدخول إلى الشبكة لأسباب سنتطرق اليها في الفقرات اللاحقة .
الأميّة الإلكترونية
أما في الدول النامية، فإن استخدام الكومبيوتر الشخصي والدخول إلى الإنترنيت يقتصرعلى فئة محدودة من الطبقة المتعلمة الميسورة، أما اغلبية السكان فإنها وإن كانت تستخدم الهواتف النقالة على نطاق واسع، إلا أنها لا تزال تعاني من ” الأميّة الألكترونية ” وقطاع لا يستهان به من هذه الأغلبية يعاني أيضاً من “الأميّة الألف بائية” ، وبتعبير آخر، فإن مفهوم الأميّة اليوم لا يقتصر على من يجهل القراءة والكتابة، بل يشمل، أيضاً، من لا يعرف استخدام الكومبيوتر والإنترنيت .
الأميّة المركبة
“الأميّة المركبة” بشقيها الألف بائي والإلكتروني، لم تعد مقبولة في العالم الرقمي الجديد، ولدى منظمة اليونسكو والمنظمات الدولية الأخرى ذات العلاقة، برامج طموحة للقضاء على “الأميّة المركبة” التي تعرقل تقدم البلدان النامية، في زمن أصبحت فيه تكنولوجيا المعلومات القاعدة الأساسية لمجتمع المعرفة. ولم يعد استخدام الكومبيوتر مع بزوغ الألفية الثالثة ترفاً، بل أصبح ضرورة ملحة وعنصراً أساسياً لا غنى عنه في الحياة . وعلى كل إنسان معاصر يعيش في عصره وليس في الماضي ، أن يمتلك مهارة استخدامه، وبعكسه يعد في عداد الأميين الذين لا يتيسر لهم الاستفادة من ثورة المعلومات، وكأنهم خارج عصرنا الرقمي الجديد .
الأميّة الوظيفية
في عالم اليوم، نرى أن الأنشطة الاقتصادية والتخصصات العلمية والمهن الهندسية والطبية وغيرها، تتطلب إلى هذا الحد أو ذاك، امتلاك مهارة استخدام برامج الكومبيوتر وإجادة التعامل مع الإنترنيت . وكل خريج معهد أو جامعة أو أي شخص آخر يأمل في الحصول على عمل أو وظيفة في تخصصه العلمي أو المهني، عليه معرفة المبادئ الأساسية لهذا الأستخدام. وقد ظهر في السنوات الأخيرة، مصطلح آخر – شاع استخدامه لدى الباحثين في الغرب – لا يختلف في مفهومه كثيراً عن “الأميّة الإلكترونية”، وهو مصطلح “الأميّة الوظيفية”، Functional illiteracy ، و يشير إلى وجود فئة من الموظفين في مؤسسات الدولة – أي دولة – لا تمتلك المعارف والمهارات الضرورية، التي لا غنى عنها عن الأداء الوظيفي الجيد وفق المعايير الحديثة في هذا المجال .
وتشير البحوث الميدانية إلى أن أكثر من نصف وقت العمل الوظيفي في المجتمعات المتطورة يصرف على معالجة ونقل وخزن المعلومات، بمعنى أن الخريجين الجدد من الجامعات والمعاهد ليس في الغرب فقط ، بل حتى في بلادنا، لن يجدوا وظيفة أوعملا ذهنياً أو حتى كتابياً، من دون اتقان التعامل مع الكومبيوتر والإنترنيت وينتهي بهم الأمر، إما إلى البطالة أو القبول بأي عمل جسدى بعيد عن تخصصاتهم .
وكان رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفييف – وهو من أشد المنادين بضرورة التعميم الرقمي في جميع مفاصل الحياة – قد حث موظفي الدولة على وجوب الألمام بأساسيات ” تكنولوجيا المعلومات” قائلا : ” ينبغي الاستغناء عن خدمات الموظفين، الذين لا يعرفون استخدام الكومبيوتر. إن الموظف الذي لا يستطيع إنجاز وثيقة بشكلها الألكتروني أو الذي يخشى استخدام الكومبيوتر ينبغي ان يستغنى عن خدماته في دوائر الدولة . إننا لا نعين موظفين أميين في المؤسسات الحكومية ،واستعمال الكومبيوتر اصبح جزءًا مهما من معرفة القراءة والكتابة الجديثة.
باحثون في بركة سباحة
إن الأسباب الكامنة وراء ” الأميّة الإلكترونية” و” الأميّة الوظيفية” عديدة ومتباينة لدى الفئات العمرية المختلفة، وقد دلت التجارب العلمية أن قدرة وإمكانيات الإنسان في التعلم تقلّ تدريجيا بتقدم العمر، وأن كبار السن يجدون صعوبة في تحصيل علوم وإتقان مهارات جديدة ومن ضمنها أساسيات تكنولوجيا المعلومات واستخدام الكومبيوتر.
لذا نجد في بلادنا كما في البلاد الأخرى أن عددا كبيراً من كبار السن المتعلمين، بينهم عدد لا يستهان به من أصحاب الشهادات العليا وحتى أساتذة الجامعات، لا بستطيعون استخدام الكومبيوتر والإنترنيت للحصول على المعلومات التي تهمهم أو يحتاجون إليها، سواء في حياتهم اليومية أو إعمالهم أو في بحوثهم ، وإن كان كل هؤلاء شأنهم في ذلك شأن الأميين، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وأشباههم من أنصاف المتعلمين يستخدمون الهواتف النقالة بفعالية .
الفئة الأكبر سنا من المشتغلين بالأعمال الفكرية والذهنية تعتقد أن الكومبيوتر والإنترنيت لهو ولعب لا يليق بها، وأن من مستلزمات الوقار والهيبة الابتعاد عن هذه البدع ، التي يعجز معظم أفرادها عن فك رموزها، وتفضل اللجوء إلى مصادر المعلومات التقليدية ( الكتب والمطبوعات الدورية والوثائق الورقية ) للحصول على المعلومات، التي تتطلبها أعمالهم وبحوثهم،
وإذا كانت المصادر التقليدية للمعلومات حوض سباحة أو حتى بحيرة صغيرة، فأن مصادر المعلومات الجديدة، ونعني بها الشبكة العالمية للمعلومات بحر لا نهاية له .
أسباب أخرى لمقاطعة الإنترنيت
ثمة شرائح في المجتمع لا يثيرالإنترنيت اهتمامها، نظراً إلى أسلوب حياتها ، حيث أن طريقة عيشها تستند إلى التقاليد والعادات والأعراف ، وهي في العادة تتمتع بمكانة اجتماعية وظروف مستقرة، ولديها علاقات اجتماعية واسعة ووثيقة ولا يلعب الإنترنيت دورا ملحوظا في حياتها اليومية .
كما لا يشكل الإنترنيت ضرورة حياتية لدى سكان الأرياف في البلدان النامية ، الذين لا يتطلب نشاطهم العملي وطريقة حياتهم ونمط ثقافتهم استخدام الإنترنيت، وهذه الظاهرة تشمل سكان الأرياف حتى في بعض البلدان المتطورة ولكن بدرجة أقل بطبيعة الحال، بعض هؤلاء يريد العيش بالطريقة التقليدية ويرفض استخدام الإنترنيت بمحض أرادته، والبعض الآخرلا تصل اليه خدمة الإنترنيت، لأن شبكات الاتصالات لا تغطي مناطقهم، أي أن السبب تكنولوجي وليس شخصياً .
ووفقا لدراسة حديثة شملت 185 بلداً، بما فيها العراق، فإن متوسط سرعة الإنترنيت متفاوت من بلد إلى آخر وحتى داخل البلد الواحد، ففي الوقت الذي بلغ متوسط سرعة الاتصال بالإنترنيت 49.2 ميغابايت في الثانية في هونغ كونغ مثلا – وهي أسرع خدمة إنترنت في العالم – نجد أن العراق قد حل كالعادة في ذيل القائمة وفي المرتبة 179 بسرعة تنزيل بلغت 0.75 ميغابايت في الثانية.
وعلى اية حال لا ينبغي المبالغة في أهمية سرعة الإنترنيت، لأنها ليست الا سبباً ثانوياً في عدم انتشار الإنترنيت على نطاق واسع، سواء في العراق أو في أي بلد آخر في العالم. والأهم من ذلك هو العلاقة بين “الأميّة الالف بائية” و”الأميّة الإلكترونية”، لأن استخدام الإنترنيت يتطلب معارف يحصل عليه الإنسان في مقتبل عمره خلال دراسته، في حين أن استخدام الهواتف النقالة أبسط بكثير ولا يتطلب تعليماً مسبقاً .
إن الافتقار إلى أنظمة تعليمية حديثة تواكب الاتجاهات الرئيسية للتقدم العلمي – التكنولوجي المعاصر، هو السبب الرئيسي لـ “الأميّة الإلكترونية”، وليس تردي الأوضاع الاقتصادية أو العادات والتقاليد الاجتماعية فقط . ومن أجل إشاعة الوعي المجتمعي بأهمية تكنولوجيا المعلومات، لا بد من تدريس أساسيات هذه التكنولوجيا، منذ المراحل الدراسية الأولى، كما هو معمول به في الدول المتقدمة . حيث يتم تدريسها كمقرر أساسي الى جانب العلوم الأخرى .
حركات وتيارات مناهضة للإنترنيت
وصفوة القول، إن استخدام تكنولوجيا المعلومات من مقومات تحديث المجتمعات، ولكن، ثمة دائماً أشخاصاً لا يستخدمون الإنترنيت . فهل يعني هذا أنهم معزولون عن العالم؟
لا شك أن مثل هؤلاء ينتمون إلى أوساط معينة، لا يشكل فيها الإنترنيت قيمة عالية ، وهي أوساط لا تزال موجودة في كل أنحاء العالم .
وعلاوة على ذلك ، ثمة نخب فكرية وثقافية ، في البلدان المتقدمة ، ترفض العالم الافتراضي عن وعي وإدراك وقناعة، وقد ظهرت في تلك البلدان – التي لن تجد فيها بقعة ليس فيها خدمة الإنترنيت السريع، إلا ما ندر،حركات اجتماعية وتيارات فكرية تدعو الى مقاطعة الأنترنيت، الذي يستحوذ على أوقات الراحة ويحرم الناس من التواصل الاجتماعي الحي مع الأقارب والمعارف وزملاء الفكر والمهنة ويسبب، أحياناً، العزلة عن المجتمع أوالكآبة. كما ان قضاء ساعات طويلة أمام الكومبيوتر يؤدي إلى قلة الحركة، التي تشكل – كما يقول الأطباء – احدى الأسباب الرئيسية للإصابة بأمراض شتى وفي مقدمتها أمراض القلب .
ورغم الانتشار الواسع والشامل للإنترنيت، إلا أنه ليس مفتاح السعادة والنجاح دائماً، رغم أن الشركات التي توفر خدمة الإنترنيت تحاول إقناع الناس على