بقلم: الأديب إيلي مارون خليل
أن يتذكّر الشّاعرُ، أمرٌ؛ وأن يستدرجَ الذّاكرةَ، أمرٌ؛ وأن يعمدَ إلى التّذكُّر، أمرٌ.
أن يعمدَ إلى التّذكُّرِ، هو أن يُحاولَ “اغتصابَ” ذاكرتِهِ. كيف يتمُّ له ذلك؟ بأن يرجع إلى ذاتِه، أماكنِه، ناسِه، ليلَ نهار، راغبًا في أن يتذكّرَ، فيضغطَ على نفسِه، يعتصرَها، فتتقطّرَ منها بضعُ ذكرياتٍ لا تأتي إلاّ متقطِّعةً، شاحبةً، يابسة. هذه ذكرياتٌ هَشّةٌ لا يُعتَدّ بها. وهذه ذاكرةٌ قاصرٌ لا طَعْمَ لها، ولا لون، ولا رائحة.
وأن يستدرجَ الشّاعرُ ذاكرتَه، هو أن تتراءى له ألوانٌ، أشكالٌ، أحجامٌ ؛ وأن يشمّ روائحَ؛ وأن يسمع أنغامًا؛ وأن تتراءى لبصيرتِهِ أمكنةٌ، أخيلةٌ، صُوَرٌ؛ وأن يؤلِّفَ ويختارَ ويتخيّلَ. هذه ذكرياتٌ مصنوعةٌ، غيرُ حقيقيّةٍ، لكن ملوَّنة. وهذه ذاكرةٌ مؤلِّفةٌ، أرقى درجةً.
وأمّا أن يتذكّرَ الشّاعرُ، فعمليةٌ عفويّةٌ غيرُ مُخَطَّطٍ لها. يهُبُّ الماضي في فكره، قلبِه، أحاسيسِه، وِجدانِه… في كلِّه، بدونِ سابق تصوُّرٍ ولا تصميم. ولا تصلُ إليه، وعَفْوَ الخاطِرِ، إلاّ بشحمِها ولحمِها، أي كاملةً، نابضةً، حيّةً الحياةَ كلّها؛ بالّلون والشّكل والرّائحةِ والإيقاع والطّعم والملمَس! فحين يرى صورةً من طفولتِه، يشمّ رائحةَ المكانِ بعناصرِه جميعًا: بشرًا وأشياءَ، ويسمع بكاءه، ويلمِس نعومةَ بشَرَتِه… إنّها الذّاكرةُ الخلاّقةُ المؤثِّرةُ، المُحْيِيَةَ، الموحية.
فأين ريمون شبلي من هذا كلِّه؟
ريمون شبلي لا “يَغتصبُ” ذاكرتَه. تتواترُ ذكرياتُه، متدفِّقةً، بهيّةً، غامزةً، لامِزةً، وفيّةً، نديّةً، قادرة!
كيف تَأتّى له ذلك؟
بالموهبة، بالمحبّة، بالقُدرةِ، بالجرأةِ، بالثّقةِ، بالسّلاسةِ، بخصبِ الذّاكرة، بدَفْق الخَيال!
ألموهِبة؟ تتهامَسون! نعم، إنّها لَموهِبةٌ مبارَكةٌ من إله الزّمن، بل الأزمنةِ كلِّها. فهي تَدفِقُ عليه، تفجِّرُ فيه، فتتدفّقُ منه إليه، صُوَرٌ ظُنَّ أنّها تآكلت، تناثرت، زالت. وفي لمحةٍ، إثر كلمةٍ أو بسمةٍ أو همسةٍ أو صورةٍ أو لمسةٍ أو طَعْمٍ، تستيقظُ الذّاكرةُ “ذاكراتٍ”، ولا يُستَطاعُ رَدعُها. يُمكِن، هكذا، أن نحيا الواقعَ غيرَ مرّةٍ، فيحيا الشّاعرُ، أرضًا، حيواتٍ كثيرات!
المحبّةُ! أولى صِفاتِ صديقي ريمون. أوَليسَ “الإنسانُ على صورة الله، كمِثاله”!؟ فكيف بالإنسان الشّاعر! بحبٍّ، يقع، ريمون شبلي، في الذّكريات، والحُبُّ أساسُ الكون(الجزء الثّاني، ص: 13 إلى 25).
وقادرٌ، ريمون شبلي، على التّذكّر، بعفويّة لطيفة، وبساطةٍ شفيفة؛ بإيحاء كثيف، ونبْضٍ عنيف.
ألقُدرةُ الأدبيّةُ، شِعرًا ونثرًا، ميزةُ المُمَيَّزين في عالم الأدب، فتطويعُ الّلغةِ يتطلّبُ قدرةً نادرة، وعفويّةً قادرة(ألجزآن بأكملهما).
وجريءٌ، هو، فهو لا يتذكّر ما يريد، أو ما يرغبُ في إحيائه فقط، بل هو يذكر كلَّ ما يختصّ بالحادثة، وإن ترك غُصّةً عند البعضِ ممّن “تطالهمُ” الذّاكرة، وتُقزِّمُهمُ الذّكرى (ألجزء الثّاني، ص:64).
وبالثّقة، يتّصفُ أديبُنا. والواثقُ قادرٌ، قويّ، يمتلك الشّخصيّة الّلافتةَ، والمعرفةَ الأكيدة. وتبدوان في الجزأين من :”هؤلاء.. ويَثقُبون الذّاكرة”، موضوعاتٍ وأساليبَ. موضوعاتُه حيّة حيويّة معاشة، سلخها من ذاتَيه الفرديّة والجَماعيّة في آن، فبدا كتابُه، سيرة ذاتيّة وسيرة غَيريّة معًا. ما أغناه وأغنى مطالِعيه.
وبالسّلاسة، يتّصف أسلوبُ ريمون شبلي. والسّلاسةُ ذَوْبُ الرّوحِ في الكلمات، وانسكابُ المعاني في الصّور، وعفويّةُ التّراكيبِ ومَتانتُها، على ما فيها من مَجازٍ لا يأتي إلاّ في أمكنتِه، منسجمًا مع المعنى والتّركيب والسّياق، والأمثلةُ لا تُحصى، ومنها: ” الكبيرُ الصّبورُ الصَّموتُ” في الجزء الأوّل، ومقالتُه: “من معظَم الكهولة”، وهي الأخيرة في الجزء الثّاني.
وبالذّاكرةِ الخِصبةِ، يتّصفُ أيضًا. ألذّاكرةُ الخِصْبةُ مُلَوَّنةً، تكونُ، بألوان القلبِ والفكرِ والخَلْقِ والوِجدانِ والخَيال. وهذا، كلُّه، إشارةٌ مهمّةٌ لمَهمّة الثّقافة. لا خصوبةُ ذاكرةٍ، ولا ألوانُ لها، بعيدًا عنِ الثّقافةِ المنوَّعةِ، العميقةِ، الفاعلةِ، المؤثِّرةِ: نمطَ تفكيرٍ ونمط حياة. ومَن كانت حياتُه تطبيقًا لنهجِه الفكريّ، كان مِثالا في النّاسِ، وقُدوةً خَلاّقة. والشّاعرُ الـ من طِراز ريمون شبلي ليس بعيدًا عن ذلك.
وفي “هؤلاء.. ويَثقُبون الذّاكرة”، بجزأيه، دَفْقُ خَيالٍ، أنتج بَيانًا غنيًّا، جمّل مَعنًى، أحيا تعبيرًا، أوحى، حرّك، أثّر، أغنى، وقّع. فكثرةُ المَجاز، على عَفَويّةِ صناعةٍ، وبساطةِ تركيبٍ، تذكيرٌ بقولِ أرسطو في كتابه عن فنّ الشِّعر:”إنّما لغةُ الشِّعرِ هي المَجاز”، ويوحي: شريطةَ أن يكون “عَفْوَ الخاطرِ”.
هذا بعضُ ما سمحت به هذه العُجالة، وسنحت ليَ الفرصةُ، لأبوح به في هذه العشيّة. فكتابُك هذا، أخي ريمون، يَثقُب الذّاكرةَ ويَبقى على الدّوام؛ هنيئًا لمَن خَلّدْتَه في ذاكرة الأجيال!
ريمون شبلي! القلبُ الوفيُّ، والقلمُ النّديُّ… نستمرُّ نُحِبُّك!