بقلم: د. مهى خوري نصّار
الرحلةُ مع جورج مغامس في كتابَيه: “أيّامٌ في بلادِ الماتروشكا” و”فَلسُ العودةِ إلى منازلِ الغبطةِ”، لمعةُ إدراكٍ، عبرَ مسالكِ الحضارات، وفُسحةُ إشراقٍ، عبرَ منابتِ الثقافات. رحلةُ عبورٍ هيَ، إلى الاحتلامِ والرؤى، تتشهّى معها المكانَ في ندى البصَمات، وتتعشّقُ معها الزمانَ في صدى اللحَظات.
عالميُّ المدى هو، إلى دُنى الجمالِ تسلّلَ، ومن ذُرى الثقافةِ الإنسانيّة نهِلَ، وعبر أحاسيسِه وتهويماتِه سرَحَ، يحرّضُنا، ويغرينا لتأملٍ كشّاف، في محوريِّ قضايا، مشدّدًا، على ملحِّ حاجتِنا، إلى الأمنِ والأمان، وإلى شعلةِ الإيمان.
نبضُ الحياةِ في سردِهِ، وشَمَمُ الأَنَفَةِ في وصفهِ، من مشاهدتِه الحيّةِ يستقيه، ومن مخزونِه المعرفيِّ يجتليه، متوخِّيًا الإشباعَ المعرِفيّ، متخطّيًا الجزئياتِ والتفاصيل، نافذًا إلى الروحِ بالخيال، معايشًا كلَّ لحظةٍ من لحظاتِ التأمّلِ في لوحاتٍ أيقوناتٍ منقطعةٍ متّصلةٍ بذاتِها، يجمعُها خيطٌ رفيع، يقودُه حدْسٌ بارعٌ خلّاق، افتُتنَ بمواقعَ مآثرَ فجذبَنا إليها، وسُحِرَ بمعالمَ لآلئَ فسحَرَنا بها.
يجوزُ مغامسُ في رحلتَيْه الميلَ الأدبيَّ القَصصيَّ الإخباريّ، الجغرافيَّ التاريخيّ، الأفقيَّ المسطَّح، ويتعدّى العرضَ الموقعيَّ التوثيقيّ، والمواكبةَ الكمّيةَ التسلسليّة، إلى تحديداتٍ ومعطياتٍ وتأويلاتٍ وتحليلات، تُحيلُ الرحلةَ إلى سجلّاتٍ تشهدُ على جزءِ من تاريخ، أو قلْ من لحظةٍ تاريخيّةٍ محوريّةٍ في خدمةِ الثقافةِ الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والسياسيّةِ والفنيّةِ والأدبيّة، يرصدُ من خلالها مدى تفاعلِ الإنسانِ معَ مجالِه الزمَكانيّ، فيُظهرُ كمًّا منَ المعلوماتِ الثقافيّةِ ضمنَ وقفاتٍ شهادات لأحداثٍ دراميّةٍ اجتماعيّة، ولمعطياتٍ دينيّةٍ عمرانيّة، يستمدُّ مراحلَها منْ تنوّعِ ثقافتِه العريضةِ، المشعّةِ صفاءً وطيبةً وإبداعًا؛ فيجرّدُك إذّاك من وجودِك الكثيف، ليجعلَك تدركُ المراحلَ بشفافيةِ روحِك، التي تهيمُ بكَ، فتُسقط ُذاتَكَ في تأمّلِ أمكنةٍ وتواريخَ، تكتشفُ من خلالِها ما تجهلُه من أسرارِ الوجود.
رؤًى جريئة
دأبُ الأديبِ في أدبهِ الرحليّ الانتقالُ من إحداثيات المكان والزمان، والانفتاحُ على تيماتٍ متعدّدةٍ تطرحُ رؤًى جريئةً منها: التخلّصُ من داءِ الطائفيّةِ المستعرِ بين العُمي والمتعامين، ومن لعنةِ الصِّراعِ الملتهبِ بين الجهَلة والمتجاهلين، ومنَ الغربةِ التي تعصُفُ بالغصونِ وتقتلعُ الجذور… ومن آفةِ المخدِّراتِ وبلاها، مقابلَ طريقِ الخير المريحةِ وإن بدتْ صعبةً، ففيها تطهيرُ النفسِ ورفعةُ الروحِ إلى مائدةِ أنوارِ الله وأفراحِه، ومعها السلامُ الداخليّ، والولادةُ الجديدة .
وديدنُه الصَّبرُ فيقول: من يصبِرْ يخلُصْ وما يعلّمُ لا يخسّر. متسائلًا في إطارِ السلطةِ والتسلّط: تُرى، ما من حُكمٍ يصحُّ برأسين؟ متذمّرًا من جحيمِ البابليّةِ النكراء التي شوّهت جنّةَ بلاده في هذا الزمن الملعون، ومنَ الكبار الذين يصُبّونَ الزيتَ على النار، مبدؤُهُم في ذلك: فرّقْ تَسُدْ ومَنْ سادَ أفاد. وفي غمرةِ التدنّي المقلقِ في مستوياتِ القيمِ والأخلاقِ الدينيّةِ والمدنيّة، وفي ظلِّ طُغيانِ المنافقينَ السافرينَ المقنّعين، وراكبي مراكبِ الأديانِ إلى العروش والقروشِ وشَبَقِ المُتَع بفتنٍ ومحنٍ وحيَل، وطبّالي إحقاقِ الحقوق وزمّاري حسنِ السلوك، في ظلِّ كلِّ هذا، يتساءل جورج مغامس بلسانِه الأنطونيوسيّ: “هل للقديسينَ من فعلٍ وأثر؟”. ولا ينسى الأديبُ قضيّةَ المادّةِ فيقول: المالُ لا يعوّضُ مفقودًا لكنّه قادرٌ على تخفيفِ وطأةِ الحزنِ والألم، فيدعو إذّاك إلى العطاء، وإلى التماهي بالآخر، بعيدًا من أسئلةِ الانتماءِ التمييزيّة في دينٍ ودنيا، مشيرًا إلى أنَّ العطاءَ المشحونَ بحسٍّ إنسانيّ، هو عطاءٌ مبارَكٌ، يُفرحُ ويقرّبُ من اللهِ، مصدرِ كلِّ عطاء.
ومن مرداد نعيمه حفِظَ الأديبُ أمثولةً تُغني عن كلِّ أمثولة: المحبّةُ ناموسُ الله. فأنتم ما حييتُمْ إلّا لتعرفوا المحبّة. وأنتم ما أحببتُم إلّا لتعرفوا الحياة. وبعد تبصُّرٍ بقمّةِ قممِ العبقريّاتِ المسيحيّة، بولس الرسول، يستضيء جورج مغامس فيجيب عمّا يُثارُ حولَ حيثيّةِ السعادةِ البشريّة، معلنًا أنَّ الإنسانَ مولودٌ مرصودٌ منذورٌ للفرح، وأنَّ غذاءَ الروحِ هو ما يهَبُها الفرح، وأنَّهُ بالفرحِ تنتصرُ الحياة. فالسعادةُ غايةُ الحياة، وأقصرُ طريقٍ إليها طريقُ المحبّةِ الطويل!! وبذلكَ، فإنَّ أحوجَ ما نحتاجُ إليهِ اليوم، قليلٌ منَ التفاهم، وقليلٌ منَ التقارب، وقليلٌ منَ التعاون، وقليلٌ منَ التسامح، وكثيرٌ منَ المحبّة. ومعه يتراءى لنا رجعُ صدى كلمات القديس اوغسطينس الثابتِ في المحبّة، عُصارةِ المحبة، حَسبُك أن تسمعَه يقول: آهٍ! ماذا أحبّ، إذ أحبُّك؟ لا رونقَ الجسدِ ولا حلاوةَ الزمنِ ولا إشراقةَ النور البهيجة، ولا عذوبةَ الألحان ونغماتِها المتنوّعةَ، ولا عبيرَ الزهورِ ولا ضوعَ الطيوبِ ولا العسل، ولا تلك الأعضاءَ التي خُلقتْ للدغدغةِ والعناق…” (الاعترافات،10). وهنا، يشهدُ الناسكُ اللاهوتيّ، على الملأ، أنَّ محبّةَ العزَّةِ الإلهيّةِ لديه، تفوقُ كلَّ محبّةٍ دُنيويّة…
الغبطة الأبديّة
تقولُ كتب الحكمة الشرقيّة: “إنِ استطعتَ أن تسموَ على الجسد وأن تدركَ أنّك روح، لامتلكتَ الغبطةَ الأبديّةَ ولتحرَّرتَ منْ كلِّ القيود”، فكلُّ قيودِنا وتقييداتِنا، وكلُّ قصورِنا وتقصيرِنا، يعودُ إلى ارتباطِ ذواتِنا الروحيّةِ بالجسدِ والعقل. وبفِعلِ هذا الارتباط، نحنُ نشعرُ بالألمِ والإثارةِ واللذّة، لدرجةٍ لا يسعُنا معها الإحساسُ بالغبطةِ النقيّةِ أو الوعيِ الإلهيّ، الذي لا يمكنُ فهمُه وإدراكُ كنْهِه في ظلِّ نفسٍ مضطربة تتماهى وحالاتِ تقلّبِ الجسد، وتبدّلِ العقل، التي تشوّه طبيعةَ النفسِ الباطنيّة. انطلاقا من هذا، كانت رحلةُ جورج مغامس في كتابه “فَلسُ العودةِ إلى منازلِ الغبطة”، نتعرّف من خلالِه على المؤمن الأوتيَ نعمةَ إنفاقِ فَلسه في الحقّ، هذا الفَلسُ الذي قدّمتْهُ الأرملة، ففتحتِ البابَ أمامَ جميعِ المؤمنينَ ليدركوا مفهومَ العطاءِ الحقيقيّ، من فيضِ القلبِ الداخليّ. وبهذه النعمة، يتحقّقُ الاغتباطُ الذي يصلُ به إلى الطمأنينةِ ضمنَ رحلةِ حجٍّ، يشيع فيها فرحُ الوصول، مجسَّدًا بالاتّصال المباشر للضمير المسند إلى السارد “واستكنتُ إلى ذاتي، إلى ذاتي المفعمة بمُقام ريتا، وانداح بيَ قوليَ القديم…”. أحالَت هذه المَسافةُ الوِجدانيّة والرؤيةُ الداخليّة الأمكنةَ إلى فضاءاتٍ سمحت له بالاستماع إلى نشيدِ السماء، وبالامتلاء بالغبطةِ الإلهيّة، مغمورًا بالفرحِ والنعمةِ والسلام، ساعيًا في سبيلِ حقٍّ وخيرٍ وجمال، حتّى فاضَ فكرُه نهرًا متغذِّيًا منْ منافذِ فسيحِ تأمُّلٍ روحيّ، ومنْ روافدِ عميقِ إيمانٍ مسيحيّ.
وله، في رحلتيه، فعلُ المبادرةِ في بَدءِ الكلامِ وفي تركِهِ لسواه، وفي تدخّلِه عندَ الحاجة، فهو مَن يبدأُ الكلامَ وهو منْ يُنهيه، وهوعلّةُ قيامِ عالمٍ يستحقُّ تسليطَ العينِ الرائيةِ بفعاليتِها عليه، يرافقُها حضورٌ ملموسٌ لأديبٍ يشِفُّ عن ذاتِه، من خلالِ وصفٍ مقرونٍ بمنظورٍ فكريّ، وبحسٍّ تحليليّ، قادرَيْنِ على كشفِ حركةِ البنى العامّة، وعلى تحويلِ الخارجِ إلى داخل، والستاتيّةِ إلى ديناميّة، واللغةِ الإخباريّةِ السطحيّةِ إلى لغةٍ إيحائيّةٍ عميقة، والفضاءِ الهندسيِّ المنظّمِ إلى فضاءٍ لاهندسيٍّ مبعثر، والرؤيةِ الميكروسكوبيّةِ الضيّقة إلى رؤيةٍ ماكروسكوبيّةٍ شاملة، ضمنَ لقطاتٍ متلاحقةٍ ومتقاطعة، تلمُّ شعثَ الجزئيّاتِ الحدثيّةِ المنتشرةِ داخلَ مِساحةٍ مشهديّةٍ معيّنة.
فالرحلة ُكانت تنقّلا فكريّا من ثقافةٍ إلى أخرى، تجسّمُ معالمُها عددًا من المفاهيم، تحرّكُها مُتعةُ الحواسِ والمشاهدةِ العينيّةِ حينًا، وغبطةُ الانخطافِ والتأمّلِ في كونٍ تنافست في إبداعه يد الله ويد الفنان حينًا آخر، وفي هذا تتحقّقُ صورةُ التحوّلِ الجدليّ من جمودِ الموتِ وسكونِه (لوحات- تماثيل- عمارات- ثريّات- زخارف- تحف- منحوتات- رسوم…) إلى متعةِ الحياةِ وحركيّتِها ( إيمان- محبة- غبطة- عطاء- فرح…)، فيبدو سكونُ الأشياءِ والأمكنةِ امتدادًا لحياةِ الأفرادِ والأعلامِ والشخصيّات، وتجسيدًا واضحًا لمعرفة الذات التي تتأصّل عن طريق المعرفة بالآخَر، ولعلاقةِ الإنسانِ بالعالم،عبرَ أسلوبٍ متينٍ يتجاوزُ المأثورَ إلى المُبتدَع، يصلُ التشبيهُ فيه ِإلى حدِّ المحاكاة، في تعابيرَ مجازيّةٍ تنفثُ في الخطابِ الرحليّ نفَسًا شعريًّا موسومًا بسمةِ العصرِ في اختصارِ الوقتِ وسرعةِ الإبلاغ.
“أيّامٌ في بلاد الماتروشكا” و”فَلسُ العودةِ إلى منازلِ الغبطةِ”: جنيُ جَوبٍ بجُمانِ حضارةٍ، حصادُ جَولٍ بمَرجانِ ثقافةٍ، جعلتْ ماهيّةَ أفعولةِ السَفرِ وأشغولتَه الجوهريّةَ امتلاكَ المعرفةِ المنفصلةِ عن بناتِ الصدفةِ والمتّصلةِ بأخيّاتِها وليداتِ جوهرِ القصديّةِ، في فضاءاتٍ خرائطيّةٍ مؤطَّرةٍ بجمالياتِ الاتصالِ والانفصال، وبامتداداتِ التطلعِ والاطّلاع التي بها الأملُ بإعادةِ جمع غلالِ حضارةِ الأوطان. ونختم بقولٍ لـِ .ت س إليوت: “ارتحلوا.. انطلقوا أيّها الرحّالةُ فأنتم لستمُ الأشخاصَ نفسَهم عندَ بَدءِ الرِحلة…”.
********
(*) موقع aleph
www.georgestraboulsi.wordpress.com