تداعت فعاليات طرابلس بمكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية للمشاركة في حفل توزيع كتاب “ساحة التل في طرابلس: لقاء التقليد والحداثة”، وهو الدراسة البحثية التي أعدها الكاتب والإعلامي المرحوم طلال منجد، لنيل شهادة دبلوم الدراسات المعمقة في العلوم الاجتماعية (أنثروبولوجيا).
وتم توزيع الكتاب، في قاعة الشمال في مركز الصفدي الثقافي، وأطلقته “مؤسسة الصفدي” بالتعاون مع المجلس الثقافي للبنان الشمالي، بعد كتاب منجد “مجتمع النهر في طرابلس”، ضمن مشروعهما الهادف إلى نشر المعرفة، وتفعيل الحراك الفكري والاجتماعي، وتسليط الضوء على إبداعات رجالات طرابلس ومفكريها، إضافة إلى جعله في متناول الأجيال الشابة “للتأكيد على الأهمية التاريخية والاجتماعية لمدينة طرابلس”.
وحضر الحفل وزير العدل اللواء أشرف ريفي، ممثلا بالسيد فادي الشامي، النائب محمد عبد اللطيف كبارة ممثلا بالسيدة دولت مولوي، رئيس بلدية طرابلس الدكتور نادر الغزال، الوزير السابق سامي منقارة، مدير مؤسسة الصفدي رياض علم الدين القاضي نبيل صاري، نقيب الأطباء في الشمال الدكتور إيلي حبيب، عميد كلية العلوم الاجتماعية الدكتور عبد الغني عماد، رئيس مصلحة الزراعة في الشمال الدكتور إقبال زيادة، رئيس ملتقى التضامن الاقتصادي السيد عامر أرسلان، عمداء ونقباء سابقون، عائلة الراحل منجد وأصدقائه، وحشد من اساتذة الجامعة اللبنانية، والجامعات الخاصة في طرابلس والشمال وأصدقاء الراحل، وطلاب جامعيون ومهتمون.
وغاب رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي الدكتور نزيه كبارة عن الحفل لظرف عائلي طارئ، حيث ناب عنه نائب رئيس المجلس ورئيس معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية -الفرع الثالث الدكتور عاطف عطيه، حيث كانت له كلمة بالمناسبة.
علم الدين
بعد النشيد الوطني، رحب علم الدين بالحضور في “مركز الصفدي الثقافي الذي شاءه مؤسسه، ملتقى للحوار والتبادل الثقافي في مدينة تعاقبت على أرضها أعرق الحضارات وتميز أهلها بالانفتاح على الثقافات.
أضاف: “أصيلة مدينة التقليد والحداثة… أصيلة هذه الطرابلس التي تمثل هذا المزيج الغريب، والمتجانس بين الأمكنة والشخصيات والتجارب. وحين نقول “أصيلة”، نسترجع مجموعة من الأسماء والتجارب الثقافية والإبداعية، ذات الحضور والتأثير الكبيرين في تاريخ هذه المدينة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا”.
وقال: “على عكس ما طرحه الباحثون حول ثنائية “تقليد – حداثة” كإشكالية لتفسير الأحداث التاريخية، والظواهر الاجتماعية، فإن باحثنا المرحوم طلال منجد، مازج في بحثه حول ساحة التل بين التقليد والحداثة، إلى حد التناغم والتلاقي، فأعطى ميزة ونكهة خاصة لهذه العلاقة، تكاد لا تجدها إلا في طرابلس”.
ولفت “إلى أن مؤسسة الصفدي، تعتبر أن الثقافة المنبثقة عن الوعي التاريخي الإبداعي المتراكم تستطيع بقوة تأثيرها أن تتحول إلى سلوك، وأكد “لن نألو جهدا في سبيل تحويل هذا السلوك إلى عامل نهضة بالمجتمع، بما يطوره ويجعله باستمرار يسير باتجاه الهدف الأسمى الذي هو رسالة التنمية المستدامة”.
أضاف: “وفي الحقيقة لقد أفردنا لهذا الموضوع مساحة خاصة ضمن برنامج التنمية المحلية الذي تنفذه المؤسسة في الأحياء، حيث نعمل من خلال مشاريعنا وبرامجنا المتنوعة على تفعيل مشاركة الأهالي، ليصبحوا لاعبين أساسيين في عملية التنمية الإجتماعية، والمصالحة مع المحيط، وتحسين الإطار الحياتي. كما أن فكرة مركز الصفدي الثقافي قامت على هذا التوازن بين الحداثة والأصالة، بما يعيد إنتاج التراث الماضي برؤية معاصرة”.
وقال: “هذا الكتاب بما يتضمنه من معلومات قيمة، يتيح الفرصة لمجتمعنا الطرابلسي والشمالي الغني بعطاءاته الفكرية والفنية والثقافية، الاطلاع على حقبات عدة مرت على “ساحة التل” التي لمعظمنا ذكرياته الخاصة فيها، مهما اختلفت الازمنة والعصور، وما تبعها من تقاليد وعادات اجتماعية، بعضها موروث والآخر مستحدث، لكن ساحة التل باقية، كيف لا وقد أمنت اللقاء بين التقليد والحداثة”.
وختم موجها “التحية للمرحوم طلال منجد، وللمجلس الثقافي، ولشقيق المرحوم الإعلامي صفوح منجد الذي عمل على إعادة تجميع الدراسة، ولجريدة “التمدن” التي كانت سباقة في نشرها وغيرها من الدراسات القيمة التي تضيء على صورة طرابلس الحقيقية”.
ووجه الشكر إلى كل” من ساهم ويساهم في إضفاء معرفة جديدة لشبابنا وشاباتنا، جيل الغد، لتقريبهم من مدينتهم العريقة طرابلس، وتعزيز انتمائهم إليها، بما يؤسس لطرابلس الحديثة، مدينة الأصالة والتطوير”.
كلمة المجلس
ثم ألقى الدكتور عطيه كلمة المجلس فاعتبر “أن كتاب منجد السابق “مجتمع النهر”، هو إنتاج مميز بحث في كيفية دخول المدينة التي أحب وأحببنا، في معترك الحداثة دون ان تتخلى عن أصالتها وعن تراثها، واعتبر أن هذه المعالجة السوسيولوجية لدخول طرابلس عصر الحداثة الغربية في بدايات القرن العشرين، جعل لها طلال منجد ساحة التل بوابة للدخول، ولم يبق شيء إلا الأسماء، ذهبت وبقيت طرابلس تتقبل كل ما يلزمها من عناصر الحداثة، وبقيت مخلصة لكل ما مضى، وفية لماضيها، متعثرة في حاضرها، متطلعة بأمل وشوق إلى مستقبل يعيد إليها ألقها وتعود بنفسها، لتكون من جديد، درة من المتوسط وتاجا من تيجان العروبة”.
ثم تحدث عن علاقته الشخصية بالراحل منجد حيث عرفه بعمق، وربطتهما صداقة متينة، فقال: “كنت أعرفه إعلاميا، ففوجئت به سوسيولوجيا من خلال انتمائه إلى معهد العلوم الاجتماعية، وتخصصه في الانثروبولوجيا على يد السفير خالد زيادة”، ليؤكد أن حب منجد لمدينته قد جعل منه سوسيولوجيا وانثروبولوجيا بامتياز، فأثمر ليس فقط دراستي النهر وساحة التل بل أيضا عشرات المقالات عن طرابلس مفتشا عن السبل التي تعيد لها مجدها، وكيفية تخليصها من المعوقات التي تمنع تقدمها، وتعرقل انطلاقتها، لتكون في مقدمة المدن المقبلة على الانفتاح، المتقبلة للتغيير، والعاملة على تطوير نفسها بهمة وفكر أبنائها ومحبيها”.
وتساءل: لا أعلم لماذا لم يكمل طلال منجد دراساته الاكاديمية، وقد طلبت منه ذلك أكثر من مرة، كما فعل زملاء لي، ربما لأنه كان يعتبر رسالته الإعلامية هي الأهم بنظره، وربما لأنه كان فاقدا للامل من جدوى نيله الدكتوراه، لأنها ستحوله لا محالة إلى أستاذ جامعي، فيعود إلى سلك التعليم الذي خرج منه ليلوذ بالإعلام، المجال الرحب الذي يعبر فيه عن نفسه أكثر، وعن الكتاب قال: “إن الحس الإعلامي لدى منجد قد ساعده على معالجة نشوء طرابلس والتغيرات التي طرأت عليها منذ بدايات اتصالها بالغرب، حيث كان للمسيحيين منهم الدور الأول في نقل منتجات هذه الحداثة ليتداولها الطرابلسيون في حياتهم الاجتماعية قبل أن تؤثر في مناهج التفكير وأدواته العملية”.
وقال:” تتناول الدراسة أيضا تحليلا معمقا عن تطور المدينة عمرانيا انطلاقا من ساحة التل وصولا إلى منطقة الزاهرية”.
وختم بالقول: “أنا على يقين أن كل طارئ مآله الزوال.. إلا طرابلس.. هذه المدينة التي تستقطب التغيير.. وتبقى”.
صفوح منجد
من جهته، استهل شقيق الراحل الإعلامي صفوح منجد كلمته بتوجيه الشكر باسمه الشخصي “وبالإنابة عن أشقائي وعن إبني أخي طلال، ديما ورشا، إلى “مؤسسة الصفدي”، على دعمها وإصدارها كتاب “ساحة التل: لقاء التقليد والحداثة “، كما نشكر رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي الدكتور الصديق نزيه كبارة والزملاء في الهيئة الإدارية على تشجيعهم وجهودهم في هذا المجال، كما نخص بالشكر ايضا “دار البلاد ” و”جريدة التمدن” بشخص صاحبها فايز سنكري، والصديق فواز سنكري على الرعاية والإهتمام، وتأمين إصدار الكتاب بهذه الجودة والأناقة، من حيث الطباعة وحسن اختيار الصور المنشورة”.
وعن شقيقه المرحوم قال بتأثر: “هناك كلام طيب يقول “عيش على قد ما الحياة بتلبقلك”، وأنت يا أخي طلال عشت ستين من السنين وبضعة أشهر ويبدو أن هذا هو قدرك ونصيبك من الحياة الدنيا”.
أضاف: “لأننا أبناء التل بإمتياز أدركنا باكرا الوحدة العضوية التي تجمع بين الداخل والخارج، بين مجتمع النهر وتل الرمل، بين التقليد والحداثة، كما أسميته”.
تابع:” ففي الحيز الجغرافي لمنطقة التل، كما على ضفتي أبو علي تكونت شخصيتنا، ونمت أفكارنا وطبائعنا، وإن تطابقت حينا أو اختلفت أحيانا، غير أننا إلتقينا على محبة معشوقة واحدة منذ صغرنا، وحسبي أنه العشق الحلال”.
وقال: وفي هذا الحيز الجغرافي نمت أيضا قدراتنا الثقافية والعلمية، وتوجهنا لمزاولة الكتابة الصحفية، ومع أنك تصغرني عمرا غير أنك كنت السباق إلى الكتابة الصحفية، ومرة جديدة عشقنا محبوية أخرى هي الكتابة، وأي كتابة؟ ليضيف: لقد كانت إنطلاقتك في عالم الكتابة غريبة وملفتة وذات تأثير مباشر في محيطك، لقد حولت حيطان التل إلى صفحات تملي عليها أفكارك، وتنص كلماتك وتطبع شعاراتك، وأنت الذي ساهمت باكرا مع بعض الرفاق بتشكيل إحدى التنظيمات الطالبية التي كانت في مطلع الستينات مناهضة للسلطات التي كانت قائمة آنذاك”.
أضاف: وكم تعذب الأهل وكم تحملوا من هموم، وتكبدوا من مشقات من جراء “الكبسات” التي كان يقوم بها العناصر الأمنية وتستهدف منزلنا، باحثين ومفتشين عن “سطل” دهان أو فرشاة حينا أو عن مناشير مطبوعة حينا آخر ليثيروا الفوضى في كل مكان تطاله أعينهم وأياديهم . وكم من مرة تم فيها توقيفك في نظارة مخفر التل، أو في مكتب قضاة التحقيق ولكنك كنت تنفز إما بسبب طلاقة لسانك وإتساع أفكارك أو بسبب ثقافتك القضائية وحسن دفاعك عن نفسك، وعن أفكارك وربما أيضا بسبب تدخل الأقرباء والعقلاء لتأمين إطلاق سراحك والإفراج عنك، دون أن يصدر بحقك إتهام أو حكم قضائي ولو مرة واحدة”.
ثم تحدث عن” سفره إلى الأردن لمواكبة تطورات أحداث ايلول الاسود من دون علم الأهل، وسفراته إلى العراق، عن طريق قبرص ليكتب عن أوضاع ذلك البلد العربي، في نهاية السبعينات، مضيفا “ما يمكن قوله هو أنك إتجهت إلى كتابة التحقيق، والمقال السياسيين منذ الستينات، وكانت البداية في مجلة “صوت البلاد”، المجلة المحلية الطالبية الجامعة، قبل أن تستهويك بيروت لتحط رحالك على صفحات جرائدها: كالمحرر والكفاح العربي، والسفير، واللواء، والنهار، والحياة، وغيرها من الصحف البيروتية، إضافة، إلى كتابات في صحف ومجلات عربية، لتعود مجددا إلى طرابلس، ولتتفرغ للكتابة الإسبوعية في التمدن، وفي صحف لبنانية وعربية أخرى، أو لتصدر مجلات ومطبوعات منها “نداء الشمال “وغيرها.
ثم تحدث بإسهاب عن “عملهما الصحفي معا، في مستهل الحرب اللبنانية العام 1975، حيث “كان لقاؤنا في مطبعة دار البلاد، خصوصا أثناء إنقطاع الصحف اللبنانية عن الوصول إلى طرابلس، يومها كنت أشارك في إصدار “جريدة الأخبار الشمالية” التابعة ل”ألحزب الشيوعي اللبناني” مع عدد من الرفاق، منهم زياد وسعيد وسمير، وانت تصدر مجلة “الأنباء الشمالية” كملحق عن مجلة “الأنباء” الناطقة بإسم الحزب “التقدمي الإشتراكي” .
وقال:” كان لقاؤنا شبه يومي في المطبعة ذاتها، ويلتقي معنا أحيانا أحد أشقائنا الذي كان يقصد المطبعة ليلتقي مع رفاق له لمتابعة إصدار مطبوعة تابعة لأحد أحزاب “الحركة الوطنية” آنذاك. وكنا نلتقي معا في منزلنا العائلي، مع بقية أشقائي ونتناقش ونتبادل الأفكار، وتحتد المناقشة، ولكننا كنا دوما نلتقي على محبة هذه المدينة، وأهلها الطيبين وتلك هي قضيتنا”.
وختم:”ويبقى التل همنا كما هو هم كل طرابلسي، ذلك أنك كشفت عن جمالياته منذ تكوينه الأول، كما هو الحال مع المدينة القديمة منذ تأسيسها، ولكن أين نحن اليوم من ذلك التاريخ المشرق الذي تعرض ويتعرض إلى الهدم والفوضى، وإلى مخطط تخريبي بإمتياز، وليس هناك من وعى ويعي خطورة ما حدث ويحدث، ألا تنظرون معي إلى أن التل من شرقه إلى غربه، وفي محيطه قد تحول إلى مجرد كراج كبير، وإلى منطقة لبيع البالات والخرضوات، وهو الذي كان في يوم ما “تل الذهب” كما كانت التبانة “باب الذهب”.