بقلم : أمين لطف الله جوليا زيدان
قولٌ يضوعُ من ثغرٍ، يُبيح صاحبَه لحكم.
تَعِسَ قائلٌ، عليه يَحكُم، مَن كان دونه قدرَ علمٍ وذكاءٍ…
سَعِدَ قائلٌ، عليه يَحْكُم، من ساواهُ قدرَ معرفةٍ وعبقريّة…
ويُسهِّلُ الحكمَ، تشابهُ المحكومِ عليه، والحاكمِ بأمرِهِ تَوَافقَ ثقافةٍ وجنسٍ…ويصعبُ، من دون أن يستحيلَ، على النّقيضِ. والسّهلُ يأتي وليدَ بداهةٍ…وَالصَّعبُ يأتي وليدَ معاناةٍ:
فالرّجلُ يسهل حكمه على الرّجالِ. والمرأةُ يسهل حكمها على النّساء. وكذلك قُلْ من أبناءِ السّلكِ الواحد من دينيٍّ، ومدنيٍّ، ومِهَنيٍّ…وإذا سهُلَ على رجلٍ حكمٌ على النّساء، أحيانًا، فلأنَّ في نصف جينتِهِ تكمن خصائصُ أنثى استبانَهَا، فأَدرَكَ أنَّ الوجودَ لا يتمُّ إلّا إن تَواحَدَ النّصفان. وكذلك قلْ في حالِ امرأةٍ وَعَتِ الحقيقة عينَهَا…
فَعَلى نورِ هذه الأضواء عُدتُ بباقةٍ من الآراء جمعتها من تلاوَةِ هذا الكتاب،”القلق الوجودي في شعر ميشال الحايك”، لا كمشرفٍ على رسالةٍ، ولا كمتعقّبٍ دقائقَ وخصائصَ مؤلّفاتِ نابغةٍ، خصالًا وظروفَ حياة… وبخاصّةٍ، إذا كانت الحاكمةُ وَفَت كلَّ هذه الأمورِ حقَّهَا…وإنّما كناقفِ صَدَفٍ، وَكَباحثٍ أبَدَا عن لآلئَ أصوغُها أكاليلَ على هَاماتِ أصحابِها والجباه، مسترقًا منها العبيرَ أخزنُهُ في قواريرِ الأحاسيسِ، إليها أهرَعُ كلّما ضاقَ بأنفاسي صدرٌ، فَأتَنَسَّمُها، وبها أنتعشُ…وأنسِقُهَا جَنى تَبَصُّرٍ بِأريِ أقوالٍ ضَاعَت، بَدعًا، على ثغرِ الشّاعر،”ميشال الحايك”، وبأخيّاتٍ ضاعَت أحكامًا على ثغرِ السيّدة”ناتالي الخوري غريب”.
وَجَنايَ هذا، أتى وليدَ معاناةٍ قيصيريّة. فالمحكومُ عليه كاهنٌ مارونيٌّ يقيمُ الذَّبائحَ على “تابوت العهد”، والحاكمةُ أرثوذكسيّةٌ علمانيّةٌ، ببابِ المحرابِ تقفُ، تصلّي!
مَنِ الكاهن يكون؟
حَريٌّ أن يُقالَ: مَن مِن بني الشّرقِ والغَربِ لا ينحني إجلالًا لمجرّدِ أن يُشَنِّفَ الآذانَ وَقعُ هذا الاسمِ فيها، ولا تُسكِرُ الذّائقاتِ نكهةُ ما قدّمَ على موائدِ الثّقافاتِ والحَضاراتِ من حلى الكَلِمِ وحلوِ المعاني، إرشادًا وَوَعظًا، وبحثًا، وتوجيهًا، وخَلقًا مُكَلّلًا بشعرٍ، أُخَيِّ الأناشيدِ…
يا لهذا الشّاعرِ مِن هالةٍ في سَماءِ الكنيسةِ جَمعاءَ، وفي جواءِ طائفتِهِ السّمحاء، سيرَةَ قداسَةٍ، ومسيرَةَ أنجمٍ هداةٍ، “ورَأسًا” علَمًا طالَما رَدَّدَ على مَسمَعيَّ أنّهُ بِأسهمٍ ثمانيةٍ من أسهمِ الأبالسةِ أُصيبَ، من دون أن يشيرَ إلى مئاتِ النّبالِ اخترقت فؤادَهُ من كناناتِ الحَسَد، والغيرةِ، والطّمَع، والتّسلّطِ على عُصاراتِ دماغِهِ، أُطلِقَت “من بني بيتِ أبيه”.
ويا لهذِهِ الحاكمة”ناتالي إيليّا الخوري”، من مُجازِفة ارتَضَت الحكمَ على “رجل الله هذا، شاعرًا”، فَأَقدَمَت واثقةً على مغامرةٍ تَهَيَّبَهَا الرّجالُ والنّساء، من بني عَبقَرَ، قَبلَهَا، لا تَحَدِّيًا لِأحَدٍ، ولا محاولَةً لِقياسِ قامَتِها بِقامته الشّامخةِ اتّضاعًا، وَإنّما شَغَفًا بكَشفِ مزايا له ولِنتاجِهِ الشّعري تكادُ تفوقُ طبيعَةَ البشَر، أَعانَها على ذلك، ليسَ كونها امرأةً فحسبُ، بَل لأنّها أمٌّ أَولَدَت، فَأدرَكَت، لكلِّ كلمةٍ تجسِّدُها، معنى وَأبعادًا…
أجل! هذه المغامِرَةُ تَنَاوَلَتْ شَاعرَ اللاهوتِ، ولاهوتيّ الشّعراء، ومرشدَهم لحين في فرنسا، وتَخَيَّرَت الاكتِفَاءَ بشعرهِ المنظوم. ويا لَيتَهَا أبحَرَت إلى أَبعَدَ لِتَرَى الشّعرَ ثورةً على الرَّتابَةِ في كلِّ أسلوبٍ كِتابيٍّ وَغيره، وَنَفْحَ ريحٍ يهبُّ طالَما الثَّائرُ يُحاورُ المَاوَراءَ ويستلهمُهُ فَيُجَدِّدَ الحياةَ..فلاَ يَأسَنَ فكرٌ ولا يَتَحَجَّر فؤادٌ…أَوَليسَ سِرُّ الألوهَةِ كونَهُ أبَديَّ قِبلَةٍ؟ ولو أنّه كان في الزّمَنِ محَطَّةَ آنيِّ قولٍ، لَتَجاوزتهُ الأقوالُ، وَلَما كانَ مَن به نَطَقَ، إلهًا في المَاوَراءَ يُرى وحسبُ!
نَعَم! تنَاوَلَتِ السيّدة الفَذَّةُ والحاكِمَةُ المَسْتَنيرَةُ الكاهنَ الشّاعرَ وَتَمَلَّأت منه، فَنَضَحَت بما به امتلأت، كلامًا مقدّسًا، كأنّما كيانها استحالَ كاتدرائيّةً في جوائها يَغيمُ بخور الذَّبائحَ، وفي خَيَالاتها تُحَوِّمُ رسومَ أيقوناتٍ بيزنطيّةٍ، وطيَّ مسامعها تتآلفُ أنغامُ نايٍ، وأرغنٍ، وقيثارةٍ.
وإخالُ الحاكمةَ بَحَثَت عند غريمِها عَن كَمالٍ أراهُ لدى المرأةِ يربو على كمالِ الرّجُلِ، كونها مجسّدَةَ الجَمال، وحارستهُ، ومتعهّدةَ تجليّاته في جنان أمومتها، أكانَ في صوغِ أولادها سرَّ أمّهم، أو في إلباسِ جوهرها إهاباتِ أدَبٍ، وشعرٍ، وقُلْ دُرَرًا تُطيلُ سُبحَةَ حَضارَةِ لُغَتِها وتُرَصِّعُها، فَتُثبِتُ أنّ أمومَتَها مِن أمومَةِ إلهٍ، ولا تقلُّ جودةً عن أبوّةٍ هي أيضًا من أبوّةِ الإلهِ إيَّاه.
أَمِن حَاجَةٍ إلى برهان؟ لِتُسْألِ العذراءُ مريم عَمَّا وِهَبتهُ مِن حسّ وإدراكٍ، وقدرةٍ على حفظِ أسرارِ الألوهَةِ نقشًا على ألواحِ صَدرِهَا، صدرٍ زالَ، وما زالَ البشَرُ يتلمّسونَ على تيكَ الصَّحائِفِ، آيَ الأناجيل.
وبعدُ، رأيتُ الدّكتورة ناتالي(لاحقًا)، في سياقِ أساليبها الكتابيّةِ: تناغمِ فقراتها، وتحاكي الشاعريّة الأسمى، لغة مخاطبةِ الربِّ مختاريه، إيقاعًا وإيجازًا…
…وَتَمثَّلتُها قلبًا غَمَرَهُ حبُّ الإله، وحبُّ نائِبِهِ، فانتفى لَدَيها همُّ بعضِ ما تضمُّ رسالتها من جديدِ قَصيِّ معانٍ، واكتَفَت بتحميلِ كلامها إيحاءاتٍ قَشيبَةً يُستَشَفُّ من خلالها أنّ عشقها مَن أحَبَّت، أنسَاهَا وجودَها وَوَحَّدَها مَع مَن تحبّ. أَوَلَيْسَ مَن يفتِّقُ برعَمِ كلمةٍ تَفترُّ عن جديدِ ظلالٍ، كَمَن يفضُّ ختمَ سحريِّ قمقمٍ احتَبَسَ العطرَ لحينٍ، ويروحُ ينشَقُ..يعبُّ حريَّةَ فكرٍ وبوحٍ…ويحيي عقولًا وقلوبًا ترقبُ بعثًا؟!
بلى! هكذا وَجَدتُكِ أيّتُها الصَّديقةُ على مثالِ أصدقاء “السيّد”، أَعتَقَهم من عبوديَّةٍ وإلى مستواه رَفَعَهم، تقدمينَ متوَكِّئَةً على “الرّجاء”، منظار السّماويّات، فَتبصرين في ماوراءِ أبياتِ قصائدِ شاعرِنا ما لا يكشفه للعيون”الأَمَلُ”، منظارُ الأرضيَّاتِ…وَترتَحِلينَ في دُنى البِرِّ مُمَتعَةً بما دون ما يوفِّرُهُ لكِ من مِتَعٍ ارتِحَالكِ عبرَ وجدانِكِ الثَّر!، متصوِّفَةً، ينيرُ دروبَ ماوراءِ جِلدِكِ بصيرةٌ تفوقُ أنوارُها قدرةَ ما تُريهِ أنوارُ اليمامَيَّةِ الأبصَار.
وَأُبصرُ خِلسَةً مَلامحَ لسانِ نَبيَّةٍ في ما يُسيلُ لِسانكِ من خُبَيئات أُنثى تحاولُ أن تجعَلَ من حياتها نُصُبًا يستمطرُ البركَاتِ على دنيا متصوّفاتٍ، حَسبُكِ أن تكوني، مدى عمرها، قِبلَةَ أنظارٍ. تُراكِ كاهنةً، بالفطرةِ جُبِلتِ لِخدمَةِ المَحاريب؟
يا لَكِ من كشّافةٍ لا تَقرُّ!تنَقَّلُ في حَدائِقِ المَكتباتِ..تشرِّعُ الخَزائنَ…تنتقي المصادرَ والمراجعَ..تبحثُ عن غذاء روحٍ، كُلَّما أُلْقِمَت تَجوعُ، علّها تُعلي حضَارَةَ سماءٍ، ولو قيدَ أنملةٍ من تُرابٍ.
وَيا لكِ من أديبةٍ متصوّفةٍ ترهفُ الإصغاءَ إلى همساتِ وحيٍ ووشوشةِ إلهامٍ يهدأ عند شطآنِها صَخَبُ هديرِ الانفعالات، وصدى تصادم الأحاسيسِ والأفكار، وَيَمَّحي عند آفاقِها تباينُ الأشكالِ والألوانِ، فتسكنُ وربَّها في عزلةٍ لا تعكِّرُ لقاءَكُما فيها مشاغلُ دنيا. أَوَلَيسَتِ العزلةُ الحقُّ، هي التي تصفو لمختاريها في وهدة الضّلوعِ، لا في وهادِ أقدامِ الجبالِ وخلَواتِ ما بينَ صخورِ السّفوحِ؟
بُوركتْ لكِ عزلةٌ من مثلِ عزلةٍ منها الأشعّة تطفر! وإلى المزيد من الأَلَق أيّتها المبدعةُ!
◊◊◊
” القلق الوجودي في شعر ميشال الحايك”، ناتالي الخوري غريب، دار سائر المشرق، 220 صفحة من القطع الوسط. وقد تمّ توقيعه في السابع عشر من شهر آذار الجاري، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب، إنطلياس، جناح دار سائر المشرق. وهذه كلمة الأستاذ الأديب أمين زيدان في تقديم الكتاب.