بقلم: الكاتبة تهاني سنديان
لا نزال على المستوى العربي لا نعرف قيمة المعرفة، ومجتمع المعرفة والاستثمار في المعرفة. وهذا شأن خطير ينظر إليه باستخفاف، ولا مبالاة، وخصوصاً من طرف أغلب صنّاع القرار في بلداننا. وإذا حدث أن بدأنا نرى في غير بلد عربي مراكز للبحث العلمي والتطوير، فهي ليست أكثر من تجمّعات شكلية، لا ترقى في مضمونها وتوجهاتها واستخداماتها وتمويلها إلى ما دون الحدّ الأدنى من مفهوم نظيراتها العاملة بفعالية في البلدان المتقدمة وبعض البلدان النامية.
… يكفي أن ننظر إلى بعض البلدان التي تدعم بفعالية هائلة أعمال البحث العلمي والتطوير فيها، والفوائد العلمية والسياسية التي تجنيها جرّاء ذلك، حتى يتبيّن لنا أننا بأمسّ الحاجة الى هذا الأمر، وخصوصاً تجاه مسار نموّ بلداننا العربية وتطوّرها. فخلال العام 2011 استثمرت الولايات المتّحدة حوالى 870 مليار دولار في أنشطة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، فضلاً عن دعم مراكز الأبحاث فيها، التي تسهم في رسم خارطتها السياسية الخارجية الراهنة والمستقبلية، والتي قد تمتدّ إلى مائة سنة مقبلة.
والصين بدورها اختطّت لها طرقاً عملية في مجال البحث العلمي والتطوير، وتجنيد مئات آلاف الباحثين والعلماء في هذا المضمار، حتى باتت تعدّ دولياً، ثاني أكبر مستثمر في هذا المجال. فقد بلغ مستوى إنفاقها على نشاطها البحثي العلمي التعدّدي في العام 2011 حوالى 560 مليار دولار.
واضح من ذلك، أن الصين تسعى إلى مجاراة الولايات المتحدة في هذا الشأن، ولاسيما أن اقتصادها يشهد نموّاً متصاعداً، وحجم تجارتها الخارجية يفوق حجم تجارة الولايات المتحدة الخارجية، والتي تعاني من تدهور اقتصادي مريع، ومن تراكم ديون داخلية تتجاوز الـ16 تريليون دولار.
أما اليابان، والتي بدأت فيها حكاية النهضة العلمية والمعرفية بعد مصر محمد علي، والتي كانت (أي اليابان) ترسل بعثات علمية إليها للاستفادة ممّا أرساه محمد علي من تقدّم صناعي وتكنولوجي (تكنولوجيا صناعة السفن الحربية تحديداً) بمقاييس ذلك الزمان..، اليابان اليوم تصرف على برامج البحث والتطوير والمعرفة والاكتشافات والاختراعات ما يتجاوز 300 مليار دولار سنوياً، والنتائج التي حقّقتها “بلاد الشمس المشرقة” حتى الآن، على مستوى بلورة مجتمع معرفي حداثوي متقدّم (على قاعدة غير متغرّبة لشخصيتها الحضارية)، ذهبت مضرب المثل بالنسبة إلى شعوب العالم قاطبة، وبخاصة النامية منها.
حتى كوريا الجنوبية استحدثت لها برامج بحث وتطوير حديثة جداً، بدأت تؤتي أكلها في ذلك البلد، الذي يتطلّع إلى محاكاة التجربة اليابانية ذاتها، وكذلك الاستفادة من تنامي الاكتشافات والاختراعات والثورات العلمية والمعرفية في دول العالم المتقدّم كافة.
طبعاً لا نتجاوز هنا مجتمعات المعرفة المتقدّمة الأخرى في أوروبا وروسيا وكندا وبعض دول أميركا اللاتينينة، كالبرازيل مثلاً، ولا نتجاوز كذلك دولاً أخرى في آسيا وجنوب شرق آسيا مثل الهند.. واستطراداً ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا…إلخ. فهذه دول باتت مثالاً يحتذى به أيضاً.
حراك المجتمعات في اتجاه أعمال البحث والتطوير واكتساب المعرفة المتنامية، أمر ملحوظ حقيقة، وله خطّه البياني التصاعدي، في غير مكان في العالم، إلا في البلدان العربية، بما فيها لبنان. فحتى الآن، لم نحاول عرباً، مع الأسف، أن نهتم كثيراً، أو جدّياً، بهكذا شأن علمي حيوي خطير، لا لنحذو حذو الآخرين هنا فحسب، بل على الأقل لنعاين تجارب تقدّمهم وتطوّرهم من مجتمعات تقليدية، راسية، إلى مجتمعات ذات حراك متقدّم ومتطوّر، وله حضوره المبرز على المستوى الدولي.
أنطوان زحلان ومجتمع المعرفة
في إطار مفهومه لمجتمع المعرفة، يرى البروفسور أنطوان زحلان، المختصّ العربي المتقدّم، في مجالات العلوم والأبحاث العلمية والتكنولوجية(في أكثر من كتاب له، وخصوصاً كتابه الأخير “العلم والسيادة.. التوقّعات والإمكانات في البلدان العربيّة، 2012)، أن المجتمع القائم على المعرفة، هو الذي يحوّل المفاهيم والأفكار والاكتشافات إلى منتجات مفيدة وقابلة للتسويق، هذه المنتجات قد تكون التالية: السفن والطائرات والبرمجيات والأجهزة الطبّية والخدمات المالية، وخدمات التأمين وخدمات الإصلاح والصيانة وأساليب جديدة على مستوى الألياف الاصطناعية والحواسيب وغيرها من تكنولوجيات دقيقة وعظيمة النتائج.
ومن شأن امتلاك بنية تحتية فعّالة ومنخفضة التكلفة للإنترنت والكومبيوتر، بمشتقات استخداماته المتعدّدة، أن يوفّر وسيلةً لبناء مجتمع قائم على المعرفة والمنافسة في نواتجها. إن السرعة التي تعمل فيها الحواسيب والاتصالات السلكية واللاسلكية، حوّلت الأنظمة الاقتصادية في العالم إلى أنظمة لا نظير لها. لقد بسّط الكومبيوتر المهمّة على مستخدمي هذه التكنولوجيات، ما جعل من اعتماد هذه الأدوات ونشرها أمراً سهل الاستعمال، وبالتالي رفع معدل اعتماد هذه التكنولوجيات من طرف الجمهور. فعلى سبيل المثال، كان عدد الهواتف المحمولة المستخدمة في العام 1998 حوالى 207 ملايين، لكنه ارتفع إلى 6000 مليون بحلول العام 2000. بيد أن نشر استخدام الإنترنت كان أسرع، فقد انتقل من 100 مليون مستخدم في العام 1998 إلى 600 مليون في العام 2000.
وعن هذا المعدل المتسارع للنموّ الاقتصادي، نتجت متغيّرات اجتماعية وثقافية واقتصادية من أبرزها: الأنظمة التعليمية، التي باتت تسلّط الضوء على إبراز المواهب الإبداعية بدلاً من التكرار؛ المجتمعات والجمعيات العلمية الوطنية والدولية القوية؛ الخدمات المالية الجديدة؛ أنواع جديدة من الحكومات المفتوحة؛ الحدّ من الاقتصاد الريعي وتشجيع المنافسة؛ التعليم المستمر، وتحسين التدريب لتسهيل إدخال المهارات.
من وجهة نظر د. أنطوان زحلان، أدخل الاختبار العلمي والتعلّم والمناظير المتغيّرة عن الحياة والاقتصاد، ميادين جديدة من المعرفة. وتميّز بعض البلدان في إلهام الاكتشاف، وليس في تطبيقه، في حين نجح البعض الآخر بالاثنين معاً. وحتى الآن، عرف أصحاب المشروعات، وبذكاء، في العديد من البلدان، كيف يطبّقون الاكتشافات في أماكن أخرى. بيد أن بعض البلدان الأخرى، بالكاد عرفت كيف تستفيد ممّا تملكه من معارف وظروف طبيعية خاصة بها.
بترجمة أخرى، وبحسب ما نفهم من الخبير في مجال التكنولوجيا والعلوم الحديثة والمتطوّرة على مستوى دولي الدكتور أنطوان زحلان، تمكّنت بعض البلدان من إدارة أنظمتها القانونية والمالية والتعليمية والعلمية بطريقة تلهم، وتدعم رجال الأعمال الشباب في المجازفة والاختبار. وخير مثال على ذلك، أن المزارع الهولندي ينتج 20 مرّة، أو أكثر ممّا ينتجه المزارع اللبناني. ويأتي هذا الفرق نتيجة استخدام المعرفة، ووجود البيئة الملائمة لدعم المزارعين الهولنديين، على الرغم من أن الظروف المناخية المتوافرة لدى المزارع اللبناني، أفضل من تلك المتاحة للمزارع الهولندي.
يبدو أن عملية تراكم المعرفة هي عملية دائمة، وذات تحفيز ذاتي، وليس من الضروري أن يحصل هذا التراكم في البلدان التي تستخدمه. لكن كلّ ما هو ضروري، هو أن يكون البلد ملتزماً سياسياً وثقافياً في أن يصبح قائماً على المعرفة.
تبيّن دراسة غربية خاصة بالمجتمعات الصناعية، ومجتمعات ما بعد الثورة الصناعية اليوم، أن أكثر من 70 في المائة من ناتجها (إذا ما قيس ناتجها القومي الإجمالي) قائم على المعرفة، ويتضمّن محتوى مالياً ضئيلاً جداً. فعلى سبيل المثال لا يحتوي البرنامج الإلكتروني على مضمون مادي. السيليكون هو عبارة عن رمل. أما العمليات اللازمة لتنقيته، وتكييفه، وتحويله إلى رقائق إلكترونية لتبلغ قيمتها مليون دولار، فهي كلّها قائمة على المعرفة، وتسمّى هذه الظاهرة بإزالة الطابع المادي للاقتصاد. هذا لايعني أننا لسنا في حاجة إلى المواد الكيماوية، عوضاً عن ذلك، من الممكن تحويل هذه المواد الكيماوية من طريق المعرفة، لجعلها ذات قيمة أكثر بكثير ممّا هي عليه. إن القدرة على إضافة هذه القيمة، هو ما يجعل هذه البلدان مزدهرة.
عربياً، هل نحن حققنا الحدّ الأدنى من السير في اتجاه مجتمع المعرفة أو مجتمع المعلوماتية المبدع المتطوّر؟
لا أعتقد ذلك.. لأن المسألة هنا ليست في أن نعرف كيف نستخدم الأجهزة الإلكترونية، وإنما في أن نشارك في “فقهها” العلمي، وتطويرها من الداخل، والإضافة إليها، والإبداع المفتوح في مشهدها.
ثم إن مجتمع المعلوماتية الحقيقي ( وهو كما يقال مجتمع مبرمج بفضل تكنولوجياته)، هو مجتمع جديد بالفعل، ويمكن نعته بالمجتمع ما بعد الصناعي، للتوكيد على الفرق بينه وبين المجتمع الصناعي الذي سبقه. وعربياً، مع الأسف، نحن لا نزال نتحرك على حواف المجتمع الصناعي الأول، من دون أن نلامس ماهيته، فكيف بنا أن نوصّف أنفسنا بأننا في عصر التقنية وثورة الاتصالات والمعلومات؟!
********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق