بقلم: د. عبدالله بو حبيب(•)
في الأول من آب 1960، ألقى الراحل الكبير الرئيس صائب سلام البيان الوزاري لحكومته الأولى في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وكانت الأكبر منذ الاستقلال (18 وزيراً). قال الرئيس سلام:
“تلك الوحدة (الوطنية) وهذا الميثاق (الوطني) هما نقطتا الانطلاق لعملنا والأساس لمناهجنا، فنحن نريد قبل كل شيء: لبنان واحداً لا لبنانين. ومن هذا الشعار، أيها السادة، تنبثق قواعد السياسة اللبنانية في الداخل والخارج، بصورة عامة، ومنه نستخلص هذه الكلمات القليلة التي تعبر عن مفاهيم المجهود الذي سوف تبذله حكومتنا: الألفة والتآخي، الأمن والطمأنينة، العدل والمساواة، الاستقرار والازدهار، التعمير والإنشاء، واحترام الحريات في إطار القانون”.
ويضيف لاحقاً: “في الوقت نفسه، نسعى بكل ما نستطيع إلى إزالة التنافر والتباعد، والشك والحذر، من علاقـــات أعضـــاء الأسرة اللبـــنانية بعضهم مع بعض، ليحـــل محلــها ثقــة وتســـامح وتعاون وتضــامن بيــنهم جميـــعاً”.
هذه الأسطر القليلة تختصر مسيرة صائب سلام الوطنية، الذي قضى عقود الستينيات والسبعينيات ونصف الثمانينيات يعمل لأجلها. وعندما غيبت إمكانية العمل لهذه الأهداف العظيمة والشريفة، ترك لبنان رافضاً الحالة المزرية التي وصل إليها الوطـــن من عنــف وهيمنة على القرار اللبناني.
وفي خريف العام ١٩٩٢، عندما قرر أركان الوصاية السورية إجراء انتخابات ملتوية وبقانون مجحف بحق من يعتبرهم شركاءه في الوطن وانسجاماً مع هذا المسار الوفاقي، قرر تمام صائب سلام العزوف عن خوض انتخابات كان يمكنه أن يفوز فيها بسهولة، ودفع لاحقاً الثمن غالياً بالإقصاء والعز.
في العام ١٩٦٠، كان لبنان قد بدأ يلتقط أنفاسه من حوادث ١٩٥٨ عندما جرت الانتخابات في الربيع وفي جو طائفي مشحون، هدد ما تم إنجازه في السنتين الأوليين من عهد الرئيس فؤاد شهاب. أتى تكليف صائب سلام لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات صدمة لمعظم القوى المسيحية التي كانت تنظر بريبة إلى نيات قائد “الثورة”.
وشكل الرئيس سلام حكومة متوازنة تمثلت فيها معظم القوى السياسية من طرفي النزاع، وأتت تصريحاته في سياق عملية التشكيل وفي جلسة الثقة، لتبين صفاته القيادية الحميدة التي طمأنت القوى المسيحية مما سمح باستمرار مسيرة الوفاق بنجاح، والتي استمرت الى ما بعد حرب حزيران 1967.
بعد مرور شهر على التكليف، يواجه تمام سلام واقعاً مشابهاً لما واجهه والده في العام ١٩٦٠، برغم اختلاف الظروف والقضايا العالقة.
اليوم، بالإضافة إلى ذيول الحرب التي ما يزال البعض، وخاصة المسيحيين يعانون منها، هناك صراع مذهبي بين السنة والشيعة بدأ مع الاجتياح الأميركي للعراق في العام ٢٠٠٣ وامتد تدريجياً ليشمل المنطقة بأسرها. ولم ينجُ لبنان من هذا الصراع، كما ساعد مناخ الحرية فيه أن يجعل منه ساحة لأفرقاء الصراع، في وقت غُيبت القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل عن الجو السياسي العام.
القضايا العالقة والمختلف حولها كثيرة، ابتداءً باغتيال الرئيس رفيق الحريري والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، سلاح “حزب الله” وإصرار الدول الغربية (والعربية) على التخلص منه، الحالة الأمنية والاقتصادية المتدهورة، وطبعاً الأزمة السورية والانقسام اللبناني حولها ونزوح أكثر من مليون سوري إلى لبنان. وانعكس عدم حلّ هذه القضايا وغيرها ازمات مستمرة وفقداناً لهيبة الدولة.
هذه الحالة المزرية التي وصل إليها لبنان والمنطقة تستدعي رجل دولة ليعمل “للبنان واحد لا للبنانين”. وتتطلب هذه المرحلة رجل دولة يطمئن اللبنانيين، كل اللبنانيين، بأنه سيســـعى جاهـــداً إلى “إزالة التنافر والتباعد، والشك والحذر من علاقات أعضاء الأســرة اللبــنانية بعضهــم مع بعض، ليحل محلها ثقة وتسامح وتعاون وتضامن بينــهم جميــعاً”. إن لبنان واللبنانيــين بحاجة إلى رجــل دولة يعيــد “الألفــة والتآخي، الأمن والطمأنيــنة، العــدل والمســاواة، الاستــقرار والأزدهار، والتعمــير والإنشــــاء”.
إن التجارب التي مر بها لبنان منذ العام ٢٠٠٥ تشير إلى أن لتمام سلام كل صفات رجل الدولة المطلوب. لبنان بحاجة اليوم إلى رجل دولة يخفف، وربما يحدّ، في لبنان من الخلاف السني الشيعي المنتشر في المنطقة، ويطمئن المسيحيين إلى دورهم ومستقبلهم. لبنان بحاجة الى رجل دولة لا يميز بين اللبنانيين، ولا ينصر أبناء مذهبه على الآخرين، ويبذل “المزيد من الجهد لتوطيد هيبة الدولة في جميع المناطق، وتطبيق القوانين بكل شدة وبلا هوادة على الجميع بدون تمييز ولا مراعاة”، كما شدّد الرئيس صائب سلام في بيانه الوزاري في العام 1960.
لبنان بحاجة الى رجل دولة “لا يرى من واجب أَلزمْ على الحكومة وعلى المجلس وعلى اللبنانيين قاطبة من السعي الدائب إلى دعم وحدة صفوفنا في الداخل لمجابهة مصيرنا بإيمان وثبات، وحل معضلاتنا بأنفسنا والاتكال، بعد الله، على سواعدنا المتضافـــرة لبناء مستـــقبل مستقر، مجيد، في ولاء كامل وغــير مشــوب ولا مجـــزأ لوطـــننا لبنان”، على حد تعــبير صـــائب بــيك.
إن الرئيس المطلوب هو بعينه تمام صائب سلام.
السفير،السبت 11 ايار 2013
(•) مدير عام مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية وسفير سابق في واشنطن