بقلم: الأديب حنا عبود
لم يعرف عن أحمد شوقي أنه مارس النقد الأدبي، ولا تدخّل في مثل هذه القضايا، فهو شاعر قبل أيّ شيء، يبتعد عن أيّ نقد أو تقييم لأيّ شاعر، أو لأيّ شخصية من الشخصيات المرموقة. وكل ما بدر منه من نقد، كان في صديقه الدكتور محجوب ثابت، من باب المداعبة والممازحة. وقد راجت قصيدته في سيارة الدكتور محجوب، وباتت مقصداً لهواة الشعر، لصورها المرحة ولغتها السهلة التي تكاد تكون عامية. فالرجل جاد في كل شيء. وبما أنه عاش حياة القصور، فقد كان حريصاً ألا يزعج أحداً على عادة الأرستقراطيين في كل العالم.
…وشِعْر أحمد شوقي كلّه أرستقراطي، باستثناء “المحجوبيات” التي كانت مداعبة، قلّ أن يقدّم عليها الأرستقراطي خوفاً من أن يردّ الآخر بمداعبة تطيح بالمهابة.
قصيدة واحدة خرجت عن كلّ تقاليد شوقي، بل خرجت عن كلّ تقاليد الرثاء في العالم، ومارس فيها نقداً أدبياً ممتازاً بلغة شعرية، فيها من الدقة ما يضاهي دقة النثر، وهي قصيدته في رثاء الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي.
تقاليد الرثاء
الرثاء موقف أدبي ظهر بظهور الأدب. وكان القدماء في معظم الشعوب يعتقدون أن الجسد يحرق أو يدفن. أما الروح فإنها تذهب إلى العالم الآخر، وبعض الشعوب تظنّ أن روح الأجداد تهيم في الأرض حول القبيلة. وكان الإغريق يتلوّن الأناشيد حتى تقود الربّة الروح إلى العالم الآخر، وفيما بعد صار هرمس حادي الأرواح إلى العالم الآخر، إذ لا أحد من البشر يعرف الطريق، سوى تلك الشخصية الأسطورية سيبيل، التي استخدمها فرجيل في رحلة إينياس إلى العالم الآخر. وكانت الأناشيد تتألف من ثلاثة عناصر، الأول تعبير عن الحزن لفقد الراحل، كنوع من الضراعة لحادي الأرواح، والثاني الإشادة بمزايا الفقيد، حتى يرفق به حادي الأرواح، والثالث نوع من عزاء الذات (لأن الجوقة المختصّة كانت تنطق بلسان أهل الراحل، على وزن شعري واحد، وبلحن خاص) بذكر قانون ربّات القدر، وكيف أنه يسري على الجميع.
كلّ التطورات التي خضعت لها تقاليد الرثاء أبقت على العناصر الثلاثة، التي يختلف حجمها وترتيبها من عصر إلى عصر، ومن شاعر إلى شاعر، فرثاء أبي العلاء، مثلاً، يركّز على القسم الثالث، ويجعله أولاً، ورثاء جرير يعتمد الحزن أكثر من غيره. وأحياناً يتقلّص قسم على حساب قسم، وأحياناً يغيب قسم بكامله… إلخ.
الخاص المعمّم
صادف أن توفي المنفلوطي في “يوم الهول”، وهو اليوم الذي أطلق فيه أحدهم النار على الزعيم سعد زغلول فجرحه، فلم يشيّع الفقيد أحد، واقتصر الموكب على بضعة أفراد من الأسرة، فحتى معظم الأقرباء جرفهم “يوم الهول”. وهذا ما جعل شوقياً يخرج عن التقاليد، وإن استوفى تقاليد الرثاء. يقول:
اخـترْتَ يوم الـهول يوم وداع ونعاك في عصف الرياح الناعي
هتف النُّعاةُ ضُحىً، فأَوْصَدَ دونهم جُرحُ الرئيسِ منافذَ الأَسماعِ
مَنْ ماتَ في فَزَعِ القيامةِ لم يَجِدْ قدَماً تُشَيِّع أَو حفاوة ساعي
ما ضرَّ لو صبَرتْ ركابُك ساعةً كيف الوقوفُ إذا أَهاب الداعي؟
ومع أن الموقف خاص، إلا أنه في حقيقته معمّم، فحالما يحلّ “يوم الهول” تصبح مواكب التشييع “منفلوطية” لا ترى خلف الراحل سوى الأقرباء، وأحياناً لا ترى سوى أخيه أو رفيقه، وأحياناً تجد أجساد الموتى مثل أجساد السبعة ضدّ طيبة، ملقاة على التراب بلا قبور ولا مراسم دفن. وما عليك إلا أن تسترجع أيام الهول في بعض بلدان الربيع العربي التي اشتدت فيها حروب الخصومة، حتى تجد موتى ولا تجد قبوراً، بل لا تجد الجوارح فرصة لوليمة بسبب أوار المعارك، التي طالت النوافذ وأصص الورد.
والظروف التي تستدعي “يوم الهول” كثيرة جداً في العصور الخوالي والعصور التوالي، ما دامت التصدعات تعتري حياة المجتمعات البشرية، وما دامت سخيمة الناس لم تسحب من الصدور.
بين أرستوفانس وشوقي
يبدو أن شوقياً كان مغتاظاً بينه وبين نفسه من المنفلوطي، الذي جعل ديدنه تصوير آلام وأحزان البائسين الفقراء، ممّا يخرج من دائرة الحزن والبؤس كلّ أشعار شوقي التي قدّمت صوراً مختلفة للحزن والبؤس، ليست من البيئة التي اختارها المنفلوطي. وفي رثائه له انتهز هذه الفرصة ولامه على تضييق دائرة الحزن والبؤس وحصرها في تلك البيئات الفقيرة المعدمة:
من شَوّهَ الدنيا إليك فلم تَجِدْ في الملكِ غيرَ مُعذَّبين جِياع؟
أَبكل عينٍ فيه أَو وَجْهٍ ترى لمحاتِ دمعٍ أَو رسومَ دِماع؟
ما هكذا الدنيا، ولكنْ نُقْلةٌ دمعُ القَريرِ وعَبْرَةُ المُلتاع
لا الفقرُ بالعَبَراتِ خُصَّ ولا الغنى غِيَرُ الحياةِ لـهنّ حُكْمُ مشاع
ما زالَ في الكوخِ الوضيعِ بَواعِثٌ منها، وفي القصرِ الرفيعِ دَواعِي
بهذه الملامة التي أملتها “المجاملة” الأرستقراطية، دافع شوقي عن منحاه في وصف الحزن والبؤس، فأسند إلى القضاء والقدر مهمّة توزيعهما على الناس، فليسا مقتصرين على الفقير، فللأغنياء أيضاً حزن قد يفوق حزن الفقير، وبؤس قد يكون أقسى من بؤس المعدمين، فليس الحرمان مقتصراً على البائسين مادياً.
لأول مرّة في تاريخ الرثاء، في الشرق والغرب نقرأ مثل هذا النقد الأدبي، أو التقييم الأدبي الدقيق والهادئ، والبعيد عن المهاترة والاندفاع. وهو نقد جاد قائم على منطق أدبي، فليس بؤس روميو وجولييت أقل من بؤس الشعراء الصعاليك، الذين كانوا يغامرون بحياتهم من أجل الحصول على لقمة العيش.
لا شك أن النقد الأدبي الذي مارسه أرستوفانيس في مقارنته بين كاتبين كانا قد ارتحلا إلى العالم السفلي، يعتبر أول نقد أدبي في الفن المسرحي، ولكن هذا النقد لم يكن في القصيدة، بل في مسرحية “الضفادع” ولم يكن في مجال الرثاء، بل كان في مجال السخرية والتنافس. ولكن هناك شيئاً مشتركاً بين نقد أرستوفانيس وشوقي، وهو تلك المقارنة بين شيئين، فأرستوفانيس يقارن بين أسخيلوس ويوريبيدس، وشوقي يقارن بين البؤس المادي والبؤس الروحي، وبينما يفضل أرستوفانيس أسخيلوس على يوريبيدس، فيشفع له تفوّقه بمغادرة بيت الموتى، لا نرى شوقياً يؤثر نوعاً على نوع ولا حزناً على حزن، فالمفاضلة مرهونة بالحالات الواقعية، كل حالة بحسب خصوصيتها.
واجب الرثاء والحكم الأخير
بعد ذلك يعود الشاعر إلى تقاليد الرثاء، ويقوم بواجبه فيقف إلى جانب الراحل ضد من جار عليه:
يا مصطفى البلغاءِ، أَيّ يَراعةٍ فقدوا؟ وأَيّ مُعلِّمٍ بيَراع؟
اليومَ أَبصرتَ الحياةَ؛ فقلْ لنا ماذا وراءَ سرابها اللمّاع؟
وصِفِ المنونَ؛ فكم قعدْتَ ترى لـها شَبَحاً بكلِّ قرَارة ويَفاع
سكن الأَحبّةُ والعِدَى، وفَرغْتَ مِنْ حِقْدِ الخُصوم، ومِنْ هوى الأَشياع
وبأناقة الأرستقراطي ورهافة الناقد الأدبي، يدع الحكم على أدب هذا الكاتب إلى الزمن القادم الذي يكون قد تخلص من حسد المعاصرة، ولم يعد في الصدر غلّ ولا ضغينة:
فإذا مضى الجيلُ المِراضُ صدورهُ وأَتى السليمُ جوانبَ الأَضلاع
فافزع إلى الزمن الحكيم؛ فعنده نقْدٌ تنزَّهَ عن هوى ونِزاع
فإذا قضى لك أُبْتَ مِن شُمِّ العُلا بثَنِيَّةٍ بَعدَت على الطُلّاع
وأَجلُّ ما فوقَ الترابِ وتحتَه قلمٌ عليه جَلالة الإجماع
تلك الأَناملُ نام عنهنّ البِلَى عُطِّلْنَ من قلمٍ أَشَمَّ شُجاع
والجبنُ في قلم البليغِ نظيرهُ في السيف مَنْقَصَةٌ وسوءُ سماع
لا نعتقد أن هذا اللون من التعامل مع التقاليد الأدبية، وخرقها بإدخال ما ليس فيها قلّل، من قيمة الإبداع، بحيث يجعلنا نقول إن رثاء شوقي للمنفلوطي أدنى من رثائه لمحمد عبده أو سعد زغلول أو سواهما ممّن رثاهم هذا الشاعر الكبير، بل على العكس، فقد أثار فينا رغبة جديدة. وستظل هذه القصيدة فريدة من نوعها في الرثاء العربي وغير العربي.
اعتدنا أن يكون الرثاء مديحاً للميت فقط، يبتعد عن أي نقد أدبي، ولكن أرستوفانيس أدخل هذا النقد إلى جانب النقد الاجتماعي والسياسي، فكان رائداً. وبعد كل تلك القرون بينه وبين شوقي نرى الأخير يسلك الطريق ذاته، وإن في مجال الرثاء وليس في مجال الكوميديا، ومع ذلك فإن هذا لم يشع في الفن الشعري، لا في القديم ولا في الحديث، على الرغم من التطورات الكبيرة التي حدثت. ومن هنا علينا أن نكون حذرين عندما نقف أمام التقاليد الشعرية، فلا نجعلها حكماً صارماً حتى لا يموت الإبداع، ولا نستخف بها كأنها غير موجودة.
بالطبع لا نتمنى أن يكون هذا اللون من جملة تقاليد الرثاء، حتى لا تتحوّل القصيدة إلى لون يخفف من وقع الرثاء، فالرثاء يضيق صدره بهذا النقد على جماله وروعته. ثم من يضمن أن من يقدم على هذه الخطوة شاعر كبير يحافظ على أصول الرثاء ويأتي بالجديد المقبول، على غرار ما فعل شوقي؟ إن توسيع دائرة التقاليد الأدبية يفسح المجال لكثير من الضعفاء والنادر من الأقوياء لدخول الساحة، مما يشوّشها ويثير كثيراً من الغبار فيها. ولكن من يدري!؟ فعناصر الرثاء الثلاثة لا تتوافر دائماً في القصيدة، كما أنها تختلف في الأحجام والترتيب، فربما يتسلّل عنصر جديد!
******
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق