بقلم: الأديب مازن. ح. عبّود
راح “برهوم” يركض تحت الشتاء ويبكي ويصدح. اختلط دمعه بزخات المطر المتساقط. ارتسمت صورته في برك مياه دروب “كفرنسيان” المتشعبة حتى الضياع. بدا وجهه في الماء مختلفاً. فراح يركل صورته المتموجة على سطح المياه. وما عرف أنه كان يركل المياه التي كانت تعود إليه كبصاق الشياطين. كان “برهوم” يبكي من شدة الألم كمصلوب. فجراحه كانت سحيقة كوهاد سكنها البوم وأولاد آوى فامتزج صراخهم بالرعد. سمعته الغيمات فاضطربت. وأبصره البرق فاحتار.
أحست به الأرض التي همّت أن تدعوه كي يعود إليها. وهو قد خرج منها بالأمس طفلا. حساس هو ومرهف ومجنون وخلوق وحالم حتى الثمالة!! عاطفي هو. وعواطفه كانت تميته وتأخذه إلى بحر من الأفكار. فالكثير من العواطف تقتل. وقد توقعت له “امرأة يعقوب الأرمني” جارتهم، أن يتعذب ويشقى في دنياه من فرط أحاسيسه. فقد كانت الافكار والعواطف تستوطنه. وتقبع فيه فلا تعود تغادر إلا بعد أن تسلخ منه الشيء الكثير.
من أنت يا “كفرنسيان” كي تفعلي فعلك بالصبي الحالم؟؟ من أنت كي تميتيه هكذا؟؟ وقد كان صبياً يستوطن سنديانة حارة الوادي التي كانت بالنسبة إليه وإلى رفاقه المجرة. كان يغني هناك، معتقداً أنه الملك. فالعالم بالنسبة إليه كان بضع أقارب وأشياء وأماكن صغيرة حفظها عن ظهر قلب.
لمحته عمته “فهيمة” يركض ويصرخ كمجنون تحت المطر. فصرخت لأولادها قائلة: “اركضوا الحقوا به. جنّ “برهوم” ابن خالكم. جنّ “برهوم”. تبا لـ”كفرنسيان” التي حولت الصبي من مغني أوبرا إلى نادب بلدي تحت المطر”. هاتفت أمه وأبلغتها بما شاهدته. احتارت الأم في ذلك. وكلفت أخيه بالذهاب لاصطحابه. ومن ثمّ راحت تقول في نفسها:
“أيكون قد وقع الصبي تحت لعنة “نظيرة” التي دعت عليه بكل أنواع “التيفوئيد” و”الكوليرا”؟؟ كلا. فكل أمراضها ولعناتها لا يتخطى سقف أكلافها المليون ليرة لبنانية. ومن ثمّ فإنّ الله لا يستجيب لها.
أو أيكون ناظر المدرسة قد اكتشف أمراً، فعاقبه؟؟ فهو قد أرسل إليه “زوزو” كي يلهيه. ويفر مع رفيقه “زخيا” عبر ثقب في سياج ملعب المدرسة إلى ملاعب الطبيعة التي أحبها أكثر من رتابة الصفوف التي كانت سجناً، سجّانها معلمة أو استاذ ممل؟؟ كلا فالمعلم “يوسف” لا يفعل به هذه الفعلة
ام تكون حشريته لاكتشاف ما في داخل المقابر وانتهاك حرمة الموت قد جعلته يقع تحت لعنة الخوري بعد أن انفضح أمره مع رفاقه في كل “كفرنسيان”؟؟
أم أنّ توجيه الأضواء على قبة كنيسة السيدة المحازية لبيت العمتين “منيرة” و”عفيفة” اللتين ارتعدتا وسقطتا ارضاً من هول الرؤية، إذ اعتقدتا أن السيدة العذراء ظهرت على برج الكنيسة؟؟
كلا، لم تكن كل تلك الأمور سبب بكائه. كما لم يكن سبب بكائه في المطر غضب والده جراء تنظيمه تظاهرة احتجاجية، مع نشر يافطات في محيط المنزل على خلفية مخالفة الأب القواعد التي لقنها لأولاده”.
ما أيقنت الأم أن ولدها أضحى ناشطاً في جمعية “حياة كفرنسيان”. وقد تقدم إلى انتخابات المندوبين الحامية في صفه. فقد بدأ يكتشف الحياة ومعها المرارة. ويدرك محدوديته. والأولاد لا يكبرون من دون وجع. لا يكبر الناس إلا حين تصطدم طموحاتهم بحوائط، وعواطفهم بالامبالاة، وحبهم بالـ”لا حب”، وجهودهم بالاجحاد. لا يكبرون إلا عندما يكتشفون ضعفهم. فيروحون يبكون على صور غير واقعية ارتسمت عن أنفسهم في خيالهم. فمن رحم الضعف والوجع والإحباط، يخرج الإنسان ملكاً غالباً الانكسار. وقد قيل إنّ الطفولة لا تكسرها إلا لطمات “الأنا” على جنبات النفس”.
قيل إنّ “جوجو أميرة”، بسيط الحي، أبصره ضائعاً في المطر يومه. فأسرع إليه حاملا مظلة. وتطلع إليه. فرآه يبكي. فسأله: “ما بالك تبكي يا “بيرو” مع أم “رعيدي”؟؟ أيكون توتر البرق قد ضربك؟ قل لي من اعتدى عليك يا ابن “إيفون”؟؟ لا يجوز البكاء في المطر. لا تبتلّ. ولا تخف من شيء. فلديك صديق بأمرته المدعي العام و”الكركون” وكل الضيعة. مشاكلك لأنك قررت أن تكبر. تكبر ولماذا؟؟ و إلا فادخل إلى الثلاجة واحفظ نفسك. فهذا يوجع الرأس. والحياة لا تستأهل. وأنّ تربة “مار سركيس” قريبة من هنا. ألا فلاقني غداً كي نلعب مجدداً “غريندايزر” في سنديانة “إيفلين”. ونلهو ونعدو ونغني قرب البيت. هل صرت تكتب اسمك؟ يكفي، اترك المدرسة. لا يلزمك العلم لأكثر من ذلك”.
وما زال طعم المطر الممزوج ملوحة تحت اضراسه، كما كلمات “جوجو أميرة”. وقد تعوّد عليه. وتعوّد العدو والبكاء في المطر.