بقلم: كلود أبو شقرا
آخر فصول جماعة “بوكو حرام” التابعة لتنظيم القاعدة في نيجيريا (تسكن في شمال البلاد غالبية مسلمة وفي جنوبها غالبية مسيحية)، اختطافها منذ فترة مئة تلميذة نيجيرية تتراوح أعمارهن بين 15 و18 سنة. ففي الساعات الأولى من 14 أبريل 2014، وصل موكب مؤلف من نحو 60 شاحنة ودراجة نارية إلى المدرسة الثانوية الحكومية للبنات في شيبوك في ولاية بورنو في شمال شرق نيجيريا. وقد تنكر الإرهابيون في زي جنود وأخبروا الطالبات (معظمهن مسيحيات) أن الشاحنات ستقلهن إلى مكان آمن. وتذكر تقارير أخرى أنهن أرغمن على الصعود إلى الشاحنات بالقوة بعد معركة مع حراس الأمن في المدرسة، الذين لقي اثنان منهم حتفهما.
رافقت الدراجات النارية الشاحنات إلى الغابة ومنعت الفتيات من القفز منها. لكن بعضهن نجحن في الفرار بعدما تعطلت الشاحنات التي كن يستقلنها. أشارت تقارير إلى أن الإرهابيين يستعبدون الفتيات، فيرغمونهن على الطهو والتنظيف، وربما على تقديم بعض الخدمات الجنسية. كانت “بوكو حرام” أعلنت، أيضاً، مسؤوليتها عن تفجير أودى بحياة أكثر من 70 شخصاً في محطة حافلات في العاصمة النيجيرية أبوجا. مع ذلك لم يحظَ هذان العملان الإرهابيان باهتمام دولي يُذكر.
منذ تأسيس “بوكو حرام” (2002)، قتلت هذه الحركة الآلاف، وشكّلت المدارس والكنائس أبرز أهدافها. لكنها نفذت، أيضاً، اعتداءات ضد مساجد اعتبرت أئمتها والمصلين فيها غير متعاطفين كفاية مع قضية الحركة الجهادية.
كذلك استهدفت “بوكو حرام” في تفجير انتحاري سنة 2011 مجمعاً تابعاً للأمم المتحدة في أبوجا، وفي 2012 شنت سلسلة تفجيرات استهدفت خمس كنائس في مدن متفرقة أكثر من مئة قتيل، أثناء احتفال المسيحيين بعيد الميلاد، وصفها الرئيس النيجيري، غودلاك جوناثان بـ”تصرفات غادرة” ونددت بها الولايات المتحدة والأمم المتحدة ورفع البابا بنديكتوس السادس عشر الصوت عالياً داعياً إلى وضع حد للعنف الأعمى في نيجيريا.
كانت هذه الجماعة التي تشبهها السلطات النيجيرية بحركة “طالبان” الأفغانية، قادت في يوليو 2012 تمرداً على الحكومة في ولاية “بورنو” المجاورة لمنطقة “غوس”.
بدورها دعت “الجمعية المسيحية” في نيجيريا (تضم أبرز الهيئات المسيحية في هذا البلد الذي يشهد توتراً طائفياً)، إلى وضع حدّ للهجمات ضد المسبحيين، محذرة من أنه لا يمكن السكوت على هذا الأمر إلى ما لا نهاية، وأن “أعمال العنف هذه والحرائق الإجرامية ضد المسيحيين المحبين للسلام ويحترمون القوانين، وضد كنائسنا، يجب أن تتوقف فوراً لأن الكنائس ليست مكاتب أحزاب سياسية، وثمة حدود للتسامح”.
لم تكن الأحداث الدموية الأخيرة الأولى من نوعها، فقد شهدت البلاد، على مدى السنوات الماضية، صدامات أعنف وأشد، وما زالت أسباب اندلاعها قائمة. وعلى رغم بسط الجيش النيجيري نفوذه على مناطق الصراع وتهدئة الوضع، إلا أنه لا يبدو أن لهذا الصراع نهاية. ففي كل عام يستفيق العالم على فجيعة جديدة، لكنه لا يحرك ساكنا لوقف النزف المستمرّ.
لا تتفق الأرقام حول نسب كل طائفة من الطوائف الدينية النيجيرية لعدم وجود إحصاءات علمية دقيقة، وإن كان الرأي الغالب يميل إلى أن المسيحيين يمثلون 40% من مجموع السكان والمسلمين 50% و10% من الوثنيين. ويشكل البروتستانت ثلاثة أرباع المسيحيين والربع الباقي من الكاثوليك.
نظام دموي
حسب ما هو معلن اندلعت المواجهات بين المسيحيين والمسلمين بعدما قرر المسلمون إعادة بناء منازل كانت الميليشيات المسيحية دمرتها في السنة الماضية، لكن محللين، أوضحوا أن الامور أكبر مما هو معلن، فثمة شخصيات سياسية نافذة تعمل في الخفاء على اشعال الفتنة وجعل المناطق ذات الأغلبية المسلمة مناطق قلاقل وصدامات تتجدد كلما استدعت الضرورة ذلك.
تعمقت هذه المجازر الدموية في نيجيريا، من جراء “نظام أبناء البلد”، الموروث من الاستعمار البريطاني الذي عززته الحكومات المتعاقبة منذ استقلال نيجيريا عن بريطانيا في الأول من تشرين الأول 1960.
تتكون الدولة الفيدرالية النيجيرية من 30 ولاية و587 قضاء، أي إدارات محلية. عانت الجمهورية الأولى، التي ترأسها زعيم الشمال تافوا باعليو (1960 -1966)، من عدم الاستقرار السياسي والإداري، فيما كانت حالة الاتحاد الفيدرالي تترسخ وسط خصومات قبلية، ما جعل العسكر يتطلعون إلى السلطة بشهية، فهم القوة الوحيدة المنظمة في البلاد، ويمثلون نواة أساسية للانصهار الاجتماعي. في كل ولاية من الولايات الفيدرالية، ثمة مجموعات أتنية، عينت رسمياٌ، تشكل السكان الأصليين القاطنين في الولاية، وتتمتع بامتيازات، مثل مراكز التوظيف في المؤسسات الخاضعة للكوتا، والمقاعد في الجامعة…
المسيحيون في نيجيريا
دخلت المسيحية البروتستانتية نيجيريا في منتصف القرن التاسع عشر في منطقة نفوذ قبيلة الـ “يوروبا” بواسطة نيجريين بيعوا في سوق النخاسة في أميركا وعادوا إلى موطنهم الأصلي.
في عام 1844 أسس هنري تاونسند مع عبيد سابقين أول بعثة أنغليكانية شمال مدينة لاغوس، ونُصب صامويل كروثر (من عبيد منطقة أويو سابقاً) أسقفاً أنغليكانياً عام 1864 في لاغوس، بعد ذلك توسع الانتشار المسيحي ليشمل، إلى جانب الكنائس الانغليكانية، كنائس معمدانية وغيرها، أما أول كنيسة كاثوليكية فتأسست عام 1868.
تركز نشاط الكنائس النيجيرية، في البداية، على القطاع التعليمي عبر إنشاء المدارس ورعايتها. لكن بعد حرب إقليم بيافرا الأهلية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات تم تأميم المدارس ما حدّ من انتشار المسيحية حينها.
تكثر في نيجيريا الكنائس “المستقلة” وهي لا تتبع بالضرورة الكنائس الأنغليكانية أو المعمدانية في الغرب، وتسمى “كنائس الأدورا”. أسسها أساقفتها، وهم أفارقة أساساً، استجابة لـ “إلهام مقدس”. تمتاز تعاليمها بالتمسك بحرفية النص المقدس وبإيمان مطلق بأن للروح تأثيراً على عالم الحس.
بعد تأسيس “جمعية نصر الإسلام” أنشأ المسيحيون اتحاد الكنائس النيجيري (1965)، ثم طورت الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية تنظيمها وتنسيقها وأسست الجمعية المسيحية النيجيرية (Christian Association of Nigeria – CAN) ، وهي تضم اتحاد الكنائس النيجيري والكنيسة الكاثوليكية والكنائس الخمسينية والكنائس المستقلة، وتسعى “كان” إلى توحيد كلمة المسيحيين والتحدث باسمهم مع الدولة ومع المسلمين.
من أبرز الجمعيات المسيحية ذات الحضور الفاعل في الساحة المسيحية النيجيرية أيضاً: “جمعية مملكة الربّ”، “حركة إخوان النجمة والصليب”، “حركة المولود من جديد”، “حركة الأحد الأفضل”.
الإسلام في نيجيريا
تدفق المسلمون على نيجيريا منذ القرن الثاني عشر من دول شمال إفريقيا متتبعين القوافل التجارية المسافرة عبر الصحراء. استقرّ المقام بعلماء المسلمين في شمال البلاد حاملين معهم الثقافة الإسلامية، وخلال القرون اللاحقة نشب صراع أسفر عن تعزيز الدين الإسلامي في تلك المنطقة. وفي القرن التاسع عشر شن الزعماء المسلمون في تلك المنطقة، معارك لإيجاد خليفة للمسلمين في شمال نيجيريا، وعندما وصل البريطانيون الى شمال نيجيريا في القرن التاسع عشر، في البداية كتجار ثم كمحتلين، سمحوا للحكام المسلمين بمزاولة حكمهم في المناطق التي يسيطرون عليها، وربما يفسر التاريخ قوة وجود الإسلام في شمال نيجيريا وكيف يتقبل سكان تلك المنطقة تطبيق الشريعة الإسلامية كأساس للقانون . أما سكان تلك المنطقة من غير المسلمين فلا تطبق عليهم تلك الأحكام بل يخضعون للقانون الفيدرالي لنيجيريا، وعلى رغم الاختلاف الديني والقضايا المتعلقة به ، الا أن ثمة تأكيداً أن الدين ليس القضية الأساسية التي تحسم في العادة نتيجة الانتخابات المحلية والرئاسية.
عنف طائفي
تتركز أعمال العنف في منطقة غوس عاصمة ولاية بلاتوه، حيث يمثل المسلمون والمسيحيون نصف السكان فيها، وتشير احصائيات إلى أن في نيجيريا أكثر من 200 جماعة عرقية. منذ انتهاء النظام العسكري عام 1999 قدرت منظمات حقوقية عدد ضحايا العنف الطائفي بنحو 13500 قتيل، ولم يعاقب المسؤولون عن تلك الجرائم وتتهم المنظمات الدولية الحكومة النيجيرية بالتغطية على جرائم مسؤوليها.
هذه المجازر المنظمة هي مشاهد جديدة من عمليات الثأر الطويلة،. فحسب تقرير منظمة “هيومان رايت ووتش” الأميركية، ثمة أكثر من 14 ألف قتيل ضحايا المجازر المتعاقبة منذ نهاية الديكتاتورية العسكرية (1999). هذه المجازر ليست من طبيعة طائفية، كما يبدو ظاهريا للوهلة الأولى، بل تعود، في جوهرها، إلى مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية. وكما هي الحال في إفريقيا، يلعب الفقر دوراً رئيساً، ويكون العنف أكثر دموية كلما كانت الموارد (الارض، الماء) المفترض تقاسمها قليلة.
لعنة النفط
في مقال نشره في صحيفة “الواشنطن بوست” في عددها الصادر بتاريخ 8-10- 2002 تحت عنوان ” المعقل القادم للأصولية الإسلامية”، كتب بول مارشال (سياسي أميركي) أن الولايات المتحدة تنظر إلى دول غرب أفريقيا عموماً ونيجيريا خصوصاً، كمصدر رئيس لاستيراد النفط ضمن سعيها إلى البحث عن بديل لدول الخليج والشرق الأوسط التي وصفها الكاتب بأنها “مصدر غير مستقر للنفط”. كان هدف مارشال النحذير من أن ما يهدد السيطرة الأميركية على منطقة غرب أفريقيا هو الحركة الأصولية الإسلامية.
في التوقيت نفسه نشر تقرير حول سياسات الطاقة القومية لنائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، وصف نيجيريا فيه بأنها “أسرع المصادر النفطية نموًا لاحتياجات الطاقة الأميركية”، وتبع ذلك قيام الرئيس السابق بوش بجولة أفريقية، التقى خلالها زعماء عشر دول أفريقية معظمها دول منتجة للنفط، وأبلغهم أن أميركا تخطط لإنشاء قاعدة بحرية في “ساو توم” ، وأنها شكلت قيادة عسكرية خاصة لأفريقيا (قوات أفريكوم).
بدوره كشف مدير المعهد الأميركي للدراسات الإستراتيجية المتقدمة الدكتور بول ميكائيل ووبي أن الولايات المتحدة الأميركية تعمل لمضاعفة استيرادها من النفط النيجيري من 900 ألف برميل يوميا إلى 18 مليون برميل يوميا في السنوات القليلة المقبلة، لتخفيف الاعتماد على دول الخليج العربي بخاصة المملكة العربية السعودية بعد القلق الذي شاب العلاقات بينهما عقب أحداث 11 سبتمبر 2001.
منذ ذلك الحين تزايدت الدراسات الأميركية الرسمية حول مصادر الطاقة في أفريقيا ومنها تقرير أصدره الكونغرس عن “خليج غينيا”، وهو شريط ساحلي مليء بالنفط بين أنغولا ونيجيريا، اعتبره “منطقة اهتمام حيوي” للولايات المتحدة بناء على معلومات تفيد بغنى المنطقة الفعلي بالنفط، ويتعدى إنتاجها النفطي 5.4 مليون برميل يومياً، وهي كمية تزيد على مجمل إنتاج فنزويلا وإيران والمكسيك . علما أن نيجيريا هي أكبر بلد منتج للنفط في القارة الإفريقية، وتصدر إلى الولايات المتحدة الأميركية وحدها أكثر من مليون ونصف مليون برميل يومياً.
الفزاعة الاسلامية
لأن المدخل الطبيعي للسيطرة علي الثروة النفطية الأفريقية، والنيجيرية تحديداً، هو ضمان التدخل الأميركي في المنطقة ، فمن الطبيعي اتباع سياسة تضخيم ما يسمي “الحركة الأصولية الإسلامية”، ما يفسر التحذيرات الأميركية حول دور متنام للقاعدة في نيجيريا بين مالي والنيجر ونيجيريا، ومحاولتها إنشاء دولة إسلامية أصولية وتحريض الجيش النيجيري علي التدخل ضدها بعنف، ما أدي إلى مجزرة قتل فيها أكثر من 700 مسلم ، كل ذلك لتبرير التدخل الأميركي في حزام النفط الممتد من دارفور (غرب السودان وافريقيا) وحتى نيجيريا وغانا والنيجر، تحت مسمى قوات أفريكوم.
من هنا يلاحظ أن تاريخ الصدامات الطائفية في نيجيريا بين المسلمين والمسيحيين، رغم أنه قديم، لم يشهد تصاعداً إلا منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، بعد الاحداث التي وقعت عام 2000 في ولاية كادونا وأسفرت عن مقتل الفي شخص. وخلال الأعوام الأربعة الأولى من حكم أوباسانجو (مسيحي) من 1999 الى 2003 قتل حوالي 10 آلاف شخص في أنحاء نيجيريا.