معرفة الآخر كضرورة لكلّ حوار (*)

بقلم: الباحث محمود حيدر(*)

تردّد مصطلح الحوار في العقود الخمسة الأخيرة كما لم يتردّد في أي حقبة زمنية من قبل: حوار الأفراد والجماعات والتيارات السياسية والثقافات والأديان والحضارات…حتى haidarباتت لمعنى الحوار نفسه شروطه وفلسفته المختلفة؛ وأولاهاالاعتراف بالآخر، بحقه في الوجود، بحريته، وبخصوصيته التي لا يجوز لأحد العمل على تغييرها أو اجتثاثها. وبسبب تعدّد أوجه استخدام مصطلح الحوار، ولعوامل عدّة تعود إلى سوء توظيفه في حقول النزاعات السياسية والثقافية والمجتمعية والعقدية، فقد لحقت بالمفهوم التباسات شتّى، بحيث صرنا، وفي مطارح كثيرة، نرى إلى الحوار مفهوماً لفظياً يوضع في غير محلّه.

هل يُجدي الحوار من دون معرفة كلّ مُحاور للآخر الذي يُحاوره؟  سؤالٌ يبدو عادياً جداً للوهلة الأولى، لكنه إشكاليٌّ بامتياز. فلو تبينّا العوامل التي تحول دون وصول المحاورات إلى نتائجها المنشودة، لظهر لنا أن الأمر يعود الى الجهل المديد الذي يحكم حقول المتحاورين أنفسهم.

يحضر هذا الشأن البدهي اليوم بقوة وسط الجدل المتواصل حول الآليات التي ينبغي أن تُعتمد للحوار بين الأديان والمذاهب والتيارات داخل كل مجتمع مضطرب، وعلى مستوى العلاقة بين الفضاءات الحضارية المتعدّدة.

المسألة ليست موقوفة على إدراك ضرورة التعرف المتناظر بين الجهات المتحاورة، وإنما أساساً على ضرورة وجود إرادة التعرُّف لدى تلك الجهات. هنا لا بدّ من القول بدايةً إن المعرفة لا تستوي إلا على نصاب الحرية. وتلك بديهية تفترض العناية بها، كلما دار الكلام على أمرٍ يشكِّل بالنسبة إلى الأفراد أو الجماعات موضوعاً للتعرُّف. ففي المسافة الفاصلة بين الشيء المجهول، والعلم به، يجد الساعي الى المعرفة، أنه بإزاء مجهود فكري وأخلاقي ينبغي أن يبذله لتحصيل ما يسعى إليه.

ولأن تحصيل المعرفة شرُطه الحرية، فلهذه الأخيرة قواعد ومبادئ ومنازل، لا تتوافر إلا لمن توفّر على ثلاثة شروط متلازمة تؤلف عناصر الكمال لشخصيته، هي: العقل، الإيمان، الأخلاق. إذ من خلال هذه الثلاثية يستطيع المتعرّف أن يتعقّل نظيره، كما يبدو له هذا النظير في الواقع. ثم ليناظره بالرحمانية، ويسلك مسلكاً يجعل من حياته الشخصية جزءاً غير منفصل عن حياة الجماعة، حيث يشاطرها كل شأن عام، على أساس من الخير والاعتناء والشراكة التامة. إذ لا يقدر سوى كائن يمارس التعقل، ويدرك شرائط السلوك الأخلاقي، أن يفلح في إنجاز هذه المرتبة من الحرية.paul tilich

من يمتلك مثل هذا المستوى من التعقُّل – ونعني بالتعقُّل هنا استخدام العقل كناظم معنوي وروحي، للفكر والواقع، لا بوصفه أداة تقنية – فإنه يحقق بذلك الشرط القبلي للإيمان . ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته، كما يقول الفيلسوف الألماني بول تيليتش.. أي إلى المبدأ الذي صدر منه وخُلق من أجله. وهو ما نعنيه بالفطرة، التي هي أول زرع ألقاه الله في الإنسان ليعرفه ويؤمن به. إذ حين يعيش هذا العقل همّه الأقصى متّحداً بالإيمان، يتحرر من حدود أنانيته الضيقة، وتتّسع له فضاءات التعرّف، ويصبح كل مغاير أو مختلف حافزاً له للجاذبية والنمو. فالتجربة الانجذابية لا تلغي العقل البتة، بل إنها لا تتحقق إلا بالعقلانية. ذلك أن العقل لا يتحقق بالحرية التامة إلا متى سيق إلى ما وراء حدود تناهيه، أي إلى المقدس اللاّمتناهي. فالإيمان بوصفه حالة همِّ أقصى، هو نفسه العقل في نشوته الانجذابية. ولذا فلا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل، بل يقع كل منهما في داخل الآخر، ليحققا للإنسان الحدود القصوى من الحرية.

ذلك يعني أن التعرّف المؤيد بالحرية المدركة والواعية، هو عملية مركبة: من جهة تلبي الحاجة إلى التواصل واللقاء الذي تفترضه ضرورات الحياة، من ضمن جغرافيا حضارية ودينيّة مشتركة، ومن جهة ثانية، فإنها تنجز الحاجة إلى فهم ما كان غير مفهوم من المعارف الإيمانية والدينية والحضارية للفريق الآخر.

حين تصير الحرية شرطاً مقوّماً للإيمان والمعرفة، ربما نصل إلى ذلك المثلث الذي لا يستوي التعرُّف فيه إلى نصاب العدل إلا باجتماع أركانه معاً: الإيمان، الأخلاق، الحرية. بذلك يتوافر للملتقين، الفضاء الفسيح الذي ينأى بهم عن شوائب الحذر والخشية، وتخلو لهم المساحة الكافية لتبادل المعارف وإنجاز القضايا المشتركة.

من لوازم التعرف الذي يسبق أي حوار، أن يتوافر المتعرِّفون على ما سُمِّي بـ «سعة النظر». وهذه القيمة الأخلاقية المعرفية هي ركيزة أساسية من مرتكزات التعُّرف. وقوامها أن يُحرز طرفا العلاقة وعياً مسبقاً بضرورتها النظرية، وكذلك بضرورة اختبارها عبر ممارستها في الحياة الواقعية. وفي تصورنا أن مثل هذا الوعي لن يتحقق إلا بشرط الالتقاء بين جدولين متآخيين:جدول الفضيلة، وجدول المعرفة.

التعرف قبل الحوار

تفترض الصورة إذاً، مقاربةً للحوار في ما هو مسعى سامٍ ونبيل لتتعرَّف الذات إلى صورتها وإلى صورة الآخر الذي يناظرها، ثم لتسعى إلى تلطيف الزوايا الحادة التي تحكم مساحات الاختلاف. لكن المقاربة تفترض تحويلاً للشائعة، التي تقوم على تلك الثنائية المتنافرة بين الأنا / الآخر، كأن يصير الكلام على واحدية الأنا والغير، تظهيراً لمنحى جديد في مفهوم الحوار. ذلك أن الغير يصبح هذا الآخر الذي يمكث فينا، ولا نملك أن نفارقه قط. وهو نفسه الذي سنعقد وإياه صلات، هي أقرب إلى محاورات داخلية، منها إلى مناظرات مع آخر في الخارج. وهكذا يغدو الحوار من ضمن هذه الوحدة البناءة بديلاً من الجدال العدمي، الذي غالباً ما ينبني على فرضية حضور الآخر كنظير سالب للأنا، أو بوصفه جحيماً بحسب تعبير سارتر.

وبسبب تعدّد أوجه استعمال مصطلح الحوار، ولعوامل تعود إلى سوء توظيفه في حقول النزاعات السياسية والثقافية والاجتماعية والعقائدية، فقد لحقت بالمفهوم التباسات شتى، حتى أننا غدونا في مطارح كثيرة، نرى إليه مفهوماً لفظياً يوضع في غير محله. بحيث جرى تحويره وتحويل المراد منه، وفقاً لأغراض وأهواء ومصالح.
فالآليات العامة التي تجعل الحوار يمضي بالمتحاورين إلى غاياتهم المأمولة، ينبغي لها أن تلحظ مبدأ التكافؤ والرضى والتوازن في ما بينهم. ذلك أن الحوار في أحواله ومبانيه وغاياته، قائم على الاعتراف والتقابل السويّ. وحق كل فريق، سواء كان فرداً أم جماعة، في المشاركة المتساوية المتكافئة، في تقرير الصياغة النهائية لشكل ومضمون المسألة التي يجري الحوار بشأنها.

إن الانطلاق من هذا المبدأ، سوف ينجز نصف المسافة المؤدية إلى الصيغة الفضلى من الاتفاق والحل المفترض. وبالتالي فمن البداهة ألاّ يكون الحوار حقيقياً وسويَّاً في حالة الغلبة وعدم التكافؤ، وإلاَّ صارت كل صيغة تنتجها مجالات التحاور، أدنى إلى عملية استلاب، أو مجرد فعل أمر يفرضه الأقوى على الأضعف، ما يؤدي في النهاية إلى خلل في نظام الحياة.

على هذا الأساس، فإنّ استقامة الحوار على مبدأ التوازن والاعتراف وحرمة تجاوز حدود الغير، يفترض مراعاة جملة من القواعد والآليات، يمكن إجمالها على النحو التالي:

أ – المباشرة: أي إجراء التحاور من دون وصاية من خارج، لئلا يتحول الحوار إلى تفاوض فتكون النتيجة تحويل المتحاورين الى أدوات لتحقيق أهداف معاكسة. وعلى هذا، فإن العلاقة الأفقية والمباشرة بين المتحاوِرين، هي التي ينبغي توفيرها أولاً لكي يجري حوارهما على نحوٍ سويّ.

ب – وضوح الخطاب: أن تكون اللغة التي يستخدمها كل طرف، مفهومة وبيِّنة وواضحة بالنسبة إلى الطرف المقابل. ومتى يتوفّر وضوح الخطاب، تنشأ وحدة لغة بين المتحاورين تمكنهم من فهم أنفسهم، وبالتالي الحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها كل فريق حتى لا يتعدى حرمة حدود الآخر.

ج – العقلانية: وتقوم على النظر إلى الغير بما هو غير، له وجوده، وشخصيته، وله مزاياه السالبة والموجبة. وعليه ينبغي أن تتوفَّر القناعة الكاملة، بأنَّ الغير هو كيان كامل. إن لم أستطع النظر إليه من هذه الزاوية، فسأكون كمن يحاور نظيراً يصنعه وفق ما يريد، وليس طبقاً لوجوده وهويته الخاصة.

د – التسامحية: الإعراض عن إسقاط ما تمتلئ به الأنا المحاورة، على الغير من يقينيات. فالحقيقة الكلية مطلقة، غير أن رؤيتنا لها، أو قدرتنا على إدراكها، نسبية ومتغيرة، ومن خلال التحاور، نصل إلى فهم أكبر للحقيقة. ولسوف ننجز المزيد من الفهم، كلما قطعنا أطواراً إضافية من التعرُّف.

هـ – الأخلاقية: تقدير الغير حق قدره. هو أن أراه حيث هو، خارجاً عن أي اتهام معلن أو كامن. أن أحترم الآخر، هو أن أعترف أن له بالقيمة نفسها التي أُعطيت لي، من دون زيادة أو نقصان، فألتقيه حيث هو، وبهذا أكون قد دعوته كي ينظر إليَّ حيث أقف، لا من حيث هو يريد لي الوقوف. إن ذلك يتطلب استعداداً لضبط وقائع مسالك الأنا وأهوائها وأغراضها.

و- الاستقلالية: لا نستطيع القول إننا نتحاور، إن نحن نظرنا إلى الغير انطلاقاً من تعميم يُخرجه من فرادته، فهذا الغير هو كائن له هويته الكاملة، من قبل أن يكون مجرد كائن أحاوره لأبلغ وإياه ما هو مشترك بيني وبينه. وبالتالي، أن أرى فيه شخصاً جديداً، ليس الآن فقط، بل في كل لحظة. فكل لحظة حوار مع الغير، هي نظرة جديدة إليه، تجعلني أراه مولوداً في كل لحظة. ان إخراج الغير من التعميم، ومن الصور التي رسمناها عنه، أو رسمها عنه آخرون، هو خطوة أولى في سبيل تحرير ذواتنا من أسر العتمة، بما يؤدي إلى تحرير سوانا بالقدر عينه.

ز- التناظرية: أن يكون التحاور بعد التعرُّف بين نظيرين متكافئين، فلا غلبة لأحد على أحد. فكما ينبغي أن أرى إلى الغير كما هو، وَجَبَ عليَّ السعي ليرى الغير إليَّ كما أنا. إن الغير، باختصار، هو النظير المعادل لذواتنا على التمام. وهنا بالضبط، يمكن أن نؤسس لحوار تعارفي خلّاق وسط عالم مشبع بالقطيعة والإقصاء.

********

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق

(*) رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة- لبنان

اترك رد