بقلم: الأديب محمد رفعت الدومي
الموت، كلما تقدم الإنسان في العمر أصبح أليفاً، مجرد طقس يتكرر بإسراف، ينسحب علي إثره جارٌ لنا في الكون إلى لا مكان تاركاً خلفه في القلوب بعض الذكريات وبعض الحنين،
يرتفع إحساس اللامبالاة بالموت في قلوبنا، خاصة، عندما يفقد أحدنا ذلك الشخص الذي، لسبب ما، يصبح كل فقد بعد فقده هيناً، كان ذلك الشخص بالنسبة لي هو أبي، وأصبحت بعد موته لا أهتم كثيراً بمن مات و لا من عاش …
لكن، في ذاكرة كل منا حتماً ذلك الشخص الذي لا يعرفه إلا في عالم الخيال ، مع هذا، فقد ترك في قلبه ندوباً ومسرات، وانتابه حلمٌ صغير ليس له أي منطق أن يراه ذات يوم ويحاكيه، ” غابرييل غارسيا ماركيز “، كان بالنسبة لي، ذلك الشخص الواقف علي قارعة هذا الحلم الذي احترق منذ عدة أيام فقط، لينضم إلى كومة من رماد أحلام كثيرة قد احترقت في الطريق إلى كتابة هذا الكلام، كلام …
نعم، سقط “ماركيز” في الفجوة التي لا بد له منها، بعد عراك شديد مع مرض السرطان بدأ منذ عام 1999، وظلت الملائكة تنتظر وفادته، حتى قبل حزمة من الساعات!
لقد قام القبر بهضم جسده تماماً، لكن ضوء روحه الغامض الذي انسحب إلي اللامكان، أصبحت خيوطه الآن، وأكثر من أي وقت مضي، معلقة في المطلق بوضوح شديد!
في مثل هذه الأوقات، ينتاب المرء شعور غامض بقرب نهايته هو، وأن حياته قد استطالت جداً، وأنه يحتاج أكثر من أي وقت مضي إلى قليل من الموت، التجوال لدقائق في ذلك اللامكان الذي لا يئوب منه المسافرون!
” غابرييل غارسيا ماركيز”، أو، “غابرييل خوسيه دي لا كونكورديا غارثيا ماركيث”، واحد من أبرز كتاب الواقعية السحرية، والواقعية العجائبية في العالم، باعتراف العالم من القطب إلى القطب، مع ذلك قال هو عن أدبه ذات مرة:
– ليس في أعمالي الروائية التي كتبتها ما لا يستند إلى الواقع!
غريب أمر هذا العبقري، صاحب رواية “مئة عام من العزلة”، أعظم رواية كتبها أحد الناطقين بالإسبانية عبر العصور، تلك الرواية التي أحدثت، بمجرد صدورها في عاصمة “الأرجنتين” عند بداية منتصف العام 1967، ضجيجاً غير مسبوق في العالم الكبير، وأثرت في معظم الأدباء الجوهريين فيه، وما زالت، كما حدث تماماً في القرن الـ 17، لكن بتصرفات أقل، عند صدور رواية ” دون كيشوت” للأديب الأسباني أيضاً، ” ميغيل دي سيرفانتس”!
لقد جعلت “مئة عام من العزلة”، الأديب المصري “يحيي الطاهر عبد الله” يقف، بعد أن قرأها، علي مشارف الجنون، إذ سمع من داخله أصواتاً توحي إليه بأنه كان يستطيع أن يكتب مثلها، وهذا إحساس شهير ينتاب المبدعين، عادة، بعد قراءة كل عمل مفصليٍّ في مسيرة الأدب…
“نجيب محفوظ” أيضاً، حدق النظر في هذه الرواية بلا شك، ومن السهل أن نعثر في الكثير من إبداعاته على أصداء لها احتفظت بها ذاكرته، لكن التأثير، كما التأثر، أمر أليف في عالم الأدب، ومبرر …
“ماركيز” نفسه، تأثر كثيراً بـ “أوديب ملكاً” لـ ” سوفوكليس”، إضافة إلى ذلك، من المرجح أنه قد أذاب الأسطورة اليونانية “أنتيغون” في روايته الأولي،”الأوراق الذابلة”، وعلى الرغم من أن النقاد في عصره أفرطوا في جلد هذة الرواية، إلا أنها، علي غير العادة في مثل هذه الظروف، لم تحقق رواجاً يذكر، ولم يحصل من ورائها على أي شيء، علي الرغم من ذلك، اعتبرها حتى النهاية أفضل أعماله على الإطلاق، لما تميزت به من صدق و عفوية…
كما كان للروائي “ويليام فوكنر” أيضاً، لدي “غارسيا ماركيز ” أثر كبير لا يمكن التغاضي عنه، هذا الأثر يلمع كالسكين في قصته القصيرة المبكرة، ” نابو، الزنجيُّ الذي جعل الملائكة تنتظر “، ذلك الغموض المبيت و الشعور المفعم بالوحدة .
و عن عنوان هذه القصة أخذت عنوان المقال !
لكن ذلك التلميذ المتواضع قد فطن إلى قيمة التكثيف والسرعة وإبداع الدهشة بشكل أعمق من أستاذه، كما لقب ” فوكنر” في خطابه للحصول علي جائزة ” نوبل”!
كان ” غابرييل غارسيا ماركيز ” يُعرف بين أفراد عائلته وبين أصدقائه بلقب “غابيتو”، فيما لقبه “إدواردو ثالاميا بوردا”، مساعد رئيس تحرير صحيفة الإسبكتادور، التي عمل كمراسل لها وناقد سينمائي في مطلع شبابه، باسم “غابو”!
كان ” غابو”، فقيدنا الفادح، يمتلك مسكناً في ” باريس” و آخر في ” بوغوتا “، وثالث في ” قرطاجنة دي إندياس”، إلا أنه، لسبب ما، آثر أن يقضي جل حياته في مسكنه في “المكسيك” الذي استقر فيه في ستينيات القرن العشرين، هو و امرأته، مصرية الجذور!
لقد حدث، خلال دراسته، وهو في عمر 13 سنة، في إحدي زياراته لوالديه في مدينة “سوكر”، أن تعرف، في حفل راقص للطلاب، على ” ميرثيديس بارشا “، ابنة أحد الصيادلة، وحفيدة أحد المهاجرين المصريين ذوي الجذور اللبنانية، فقرر، من دون تفكير مسبق، أن يتزوجها بعد الانتهاء من دارسته،
وهذا تماماً ما قد حدث، وعقدا قرانهما في مارس 1958 في كنيسة سيدة المعونة الدائمة في مدينة “بارانكويلا”!
” ماركيز”، في مفاجأة سارة لكل المصريين، صهرنا، ونحن أخوال ولديه، المخرج السينمائي ” رودريغو”، وأخيه الأصغر “غونزالو”، وهو رسام غرافيك !
هذا ما يؤكده أحد كتاب سيرته، إذ وصف ابنتنا “ميرثيديس” بأنها امرأة طويلة وفائقة الجمال، ذات شعر بني ينسدل على كتفيها، وأنها حفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو واضحاً من عظامها العريضة وعينيها الواسعتين ذات اللون العسلي …
و كان ” ماركيز” يتحدث عنها دائماً باعتزاز وفخر، قال عنها ذات مرة ، عندما تحدث عن صداقته مع الزعيم الكوبيِّ ” فيدل كاسترو”:
– ” فيدل ” يثق بـ ” ميرثيديس ” أكثر حتى مما يثق بي!
صداقته هذه بـ ” فيدل كاسترو”، و”غيفارا”، دفعت البعض إلى الاعتقاد بأنه كان شيوعياً، وهو من جانبه نفى هذا الانتماء تماماً، بل نفي انتماءه إلى أي حزب سياسي، سُئل ذات مرة :
– هل أنت شيوعي ؟!
فأجاب :
– بالطبع لا، أنا غير ذلك ولم أكن كذلك سابقًا، ولم أشكل طيلة حياتي أي جزء من أي حزب سياسي …
مع ذلك، لقد قال لصديقه ” بلينيو أبوليو ميندوثا ” مرة :
– أريد أن يصبح كل العالم اشتراكيًا، وأعتقد أنه عاجلاً أم أجلاً سيكون كذلك !
لا توجد مسافة بين العبارتين يمكن أن يتحرك خلالها أحد يتهمه بالتلون، لكن، تضارب مفاهيم الآخرين حول تعريف الشيوعية هو الذي خلق هذه المسافة المتوهمة، فالشيوعية نظرية تستحق التقدير تماماً، لكن الأخطاء التي شابت تطبيقها كانت قاتلة، جعلت من النظرية نفسها نظرية سيئة السمعة!
حتى يجد جديد، من المؤكد أن الصداقة التي جمعت بينه و بين ” فيدل”، عدو ” أمريكا” اللدود، كانت صداقة فكرية قبل كل شئ، وهكذا قال، وهكذا قال كل الذين لمسوه عن قرب، ولقد واظب على حراسة رفضه لتوظيف عمله كمنبر للدعاية السياسية لأي مذهب أو نظرية حتي النهاية، وظلت وظيفة الكاتب، بالنسبة له، هي فقط أن يبدع حرفاً جيداً، ويحرض المتلقين على حب الحق و الحرية و الجمال …
لقد كتب في سياق مواز، رواية “الجنرال في متاهته”، وهي رواية ذات طابع تاريخي توثق الأيام الأخيرة من حياة الجنرال ” سيمون بوليفار”، وهو واحد من أبرز دعاة التحرر في تاريخ الإنسانية، ومحرر “أمريكا الجنوبية “، لكن علاقته بـ ” فيدل كاسترو” فقط، هي التي جعلت “أمريكا” تتهمه في نواياه حيالها، وتحدق في اسمه النظر بريبة، لذلك، أغلقت حدودها في وجهه حتي وقت قريب، وحتي اعترف ” كلينتون “، وإن من قبيل المجاملة، أن “مئة عام من العزلة ” هي روايته المفضلة!
قد يعتقد الذين يكتفون بالقشور ولا يفضلون انتهاك ما ورائها أن العزلة هي الباب الملكيُّ لدخول كل من يريد أن يستوعب حالة ” ماركيز”، و أنه يدين لتلك العزلة بكل وسام حصل عليه، وهو أيضاً كان يظن ذلك تماماً، لقد سأله ذات يوم ” بلينيو أبوليو ميندوثا “، الذي كان بمثابة أب روحي له، وصديقه أيضاً :
– إن كانت العزلة هي المحور الرئيسي في كل أعمالك، من أين ينبغي علينا أن نبحث عن جذور الأمر؟ في طفولتك ربما؟
فأجابه “ماركيز” :
– أعتقد أنها مشكلة في العالم بأثره، كل فرد لديه تكوينه الخاص ووسيلته للتعبير عن نفسه، هذا الشعور يعم أعمال الكثير من الكتاب، إلا أن البعض منهم يمكنه التعبير عنه دون وعي!
لمس أيضاً، هذا الموضوع في خطاب قبوله لجائزة نوبل، وهو يحمل عنوان ” العزلة في أمريكا اللاتينية “، حين قال :
– تفسير واقعنا من أنماط عدة، وليس من خلالنا نحن، يجعلنا فقط نشعر في كل مرة وكأننا غرباء عن عالمنا، ونصبح أقل حرية وأكثر وحدة في كل مرة …
لكن الحقيقة أن الإنسان، فضلاً عن الكاتب، لا يمكن أن يكون انعكاساً لذاته فقط، وإذا كان كذلك فحتماً ستكون محاولات الخلق لديه شديدة الضمور، و هذا ما لا يستطيع أحد أن يتهم به ” ماركيز”، لذلك، كان “غابو” انعكاساً للآخرين وذاته، فاستطاع، حين نضجت أدواته، أن يصبح عالماً قائماً بذاته!
تماماً كما استطاع أن يخلق في روايته الأشهر ” مئة عام من العزلة، عالماً بكراً قائماً بذاته أيضاً، ما زال الجغرافيون حتي يومنا هذا يتعجبون من دقة تفاصيله، حتى بعد أن انزلقت ” ماكوندو” في شرخ النسيان مع آخر جيل في عائلة “بوينديا”، مؤسس هذه القرية الافتراضي، وحتى ظن البعض أن قرية “ماكوندو” قرية حقيقية لا مجرد قرية ذهنية ..
من الجدير بالذكر أنه استمد جغرافية وتفاصيل قرية ” ماكوندو”، تلك القرية الذهنية التي ابتكرها من جغرافية وتفاصيل مسقط رأسه “أراكاتاكا” في ” كولومبيا “، لكن اسم ” ماكوندو” تحديداً، كان اسماً رآه مكتوباً علي الباب الخارجي لمزرعة موز وهو طفل في أولى رحلاته مع جده، يقول عن هذه الحادثة:
– “توقف القطار في محطة ليس لديها بلدة، وفي وقت لاحق مر بمزرعة الموز الوحيدة على امتداد الطريق والتي كانت تحمل اسم ” ماكوندو” على بابها الخارجي، وقد لفتت انتباهي هذه الكلمة منذ أولى رحلاتي التي قد قمت بها مع جدي، لكنني اكتشفتها كشخص بالغ وأعجبني وقعها الشعري على أذني، ولم أسمعني مرة أقول ولا وددت حتى أن أتسأءل عن معنى المفردة، حتي قرأت عنها ذات مرة في إحدى الموسوعات أن “ماكوندو” تعني شجرة استوائية تشبه شجرة السيبا”!
هذه الحادثة تفصح بوضوح أنه كان يصغي منذ طفولته إلي أصوات داخلية ترشده إلى الشجرة الغضة لذلك الأديب الذي كانه، وهي تنبت في هواجسه من دون أن يدري، حتى بلغت ذروة نضجها في كتابه “عشتُ لأروي”، و لو أنصف ذاته لأسماه ” ولدتُ لأروي” …
إن كل امرئ يريد أن يتصدي لتحليل “ماركيز” كأديب جلل، يجب عليه أن يتوقف طويلاً عند أثر عائلته الصغيرة فيه، جديه لأمه على وجه الخصوص، ولا أظنني سوف أنحرف عن جادة الصواب إذا قلت إن معظم أعمال “ماركيز”، هي انعكاس لحياة هذه العائلة الكولومبية الصغيرة!
و لقد فطن السيد ” جيرالد مارتن”، كاتب سيرته، إلي هذه الحقيقة المضيئة. ..
” ماركيز”، هو ابن ” غابرييل إيليخيو” و” لويسا سانتياجا ماركيز إغواران “، وُلد، كما حدد هو في مذكراته، في التاسعة من صباح يوم الأحد السادس من مارس 1927.
رفض العقيد ” نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا “، جده لأمه، هذه العلاقة بين أبويه، لأن أباه عندما وصل إلى “أراكاتاكا” كان عامل تلغراف، ولم ير فيه العقيد ” نيكولاس” الشخص المناسب للارتباط بابنته، حيث كانت أمه عزباء، وهو نفسه ينتمي لحزب المحافظين الكولومبي، إضافة إلى اعترافه بكونه زير نساء،
وتماشياً مع نية والدها بإبعادها عن أبيه، أرسل “لويسا” خارج المدينة، فيما تودد إليها “غابرييل” بألحان الكمان الغرامية وشلال من قصائد الغزل وعدد من الرسائل التلغرافية التي لا تعد ولا تحصى،
واستسلمت في النهاية عائلة “لويسا” للأمر، وحصلت ” لويسا” على تصريح بالزواج من “غابرييل”، في 11 يونيو 1926 في كنيسة ” سانتا مارتا “،
المهم، أن ” ماركيز ” قد استلهم من هذه القصة، قصة أبويه، روايته ” الحب في زمن الكوليرا”!
وحدث بعد ولادته بوقت قليل، أن أصبح والده صيدلانياً، كيف تحول من عامل تلغراف إلى صيدلاني بهذه السهولة، لست أدري!
وفي يناير 1929، انتقل مع ” لويسا ” إلى مدينة ” بارانكويلا”، تاركاً ابنه في رعاية جديه لأمه، وخلال هذه السنوات الأولى من حياته، وهي سنوات التكوين، سوف يتأثر “ماركيز” إلي حد بعيد بجده لأمه العقيد “ماركيز”، وسوف يزداد إعجابه به حين يعرف من حكايا المنزل أنه جده، قتل رجلاً في شبابه في مبارزة بينها، وأنه، بالإضافة إلى أنه كان أباً رسمياً لثلاثة من الأبناء، كان ثمة تسعة من الأبناء غير الشرعيين من أمهات عدة!
لقد كان جده محاربًا ليبرالياً قديمًا في حرب “الألف يوم”، و رجلاً يحظى باحترام كبير بين أقرانه في الحزب، واشتُهر برفضه السكوت عن مذبحة إضراب عمال مزارع الموز، ذلك الحدث الذي انتهى بوفاة قرابة المئات من المزارعين على يد القوات المسلحة الكولومبية في نهايات عام 1928 خلال إضراب عمال مزارع الموز، وهذا الحدث قد عكسه “ماركيز” في روايته مئة عام من العزلة تماماً!
كما نجد شخصية ذلك الجد تلمع كالخنجر في كل أعماله الأولى، كرجل يحمل داخله قلباً كولومبياً قبل كل شيء، مثل ” ليس للكولونيل من يكاتبه “، و” في ساعة نحس” و”جنازة الأم الكبيرة ” …
لقد لقبه هو نفسه بـ ” أباليلو”، واصفاً إياه بالحبل السري الذي يربط الماضي بالحاضر، كما كان حكاءً ممتازاً، علمه الاستعانة الدائمة بالقاموس، و كان يصحبه إلى السيرك كل عام، وكان يردد له دائماً: “لا يمكنك أن تتخيل كم يزن قتل شخص”، وهو الدرس الذي سوف يتسلل فيما بعد، بكثافة، إلى بعض أعمال الحفيد الرئيسية!
يقال أيضاً إنه وجد في مكتبة هذا الجد نسخة من كتاب “ألف ليلة و ليلة”!
كذلك كانت جدته “مينا”، كما أسماها هو، وهي “ترانكيلينا أغواران كوتس”، حكاءة ممتازة، لا تجعل المنزل يخلو ساعة من الأشباح والهواجس والطوالع والأساطير كما لو كانت أمراً مألوفاً وحقائق مؤكدة، حتي وصفها “ماركيز” بـ “امرأة الخيال والشعوذة”، لذلك، كانت هي المصدر الجذري لحفيدها، كما استلهم منها شخصية “أورسولا إغواران” التي استدعاها في ” مئة عام من العزلة”، و من إحدى حكاياتها، أيضاً، اختزن لحظة ولدت فيها فيما بعد قصته، ” نابو، الزنجي الذي جعل الملائكة تنتظر”!
وتماشياً مع هذا التصور، ولتدمير نظرية تأثير العزلة في أدب ” ماركيز” من جميع الجهات، نجده حين أراد أن يكتب روايته “خريف البطريرك”، انتقل مع أسرته إلي مدينة برشلونة الإسبانية، تحت ظلال حكم ديكتاتور أسبانيا الأشهر “فرانكو” قبل أن ينفق بسنوات، ليخلق عن قرب انعكاسات ديكتاتورية ” فرانكو” في نفسه، و في نفوي الأسبان، و إن كان ثمة تصريح نسب إليه نفي فيه أنه استلهم ديكتاتوره الخاص في هذه الرواية من شخصية ” فرانكو”، ووصف ” فرانكو” قائلاً :
– كان “فرانكو” ديكتاتوراً شاحباً، فقير الألوان، من دون صبغة فولكلورية!
إلا أنني لا أميل إلى تصديق نسبة هذا الحديث إليه، أو لعله أحد هذيان الرياضة الروحية، ولعله ناجم عن الزهو بالنفس، فتوقيت هذا الحديث يعود إلي الشهور اللاحقة لفوزه بـ “نوبل “…
سواء كان يقصد “فرانكو” أو لا يقصده، فماذا يضيرنا وقد ظفرنا بصورة ثابتة للديكتاتور في كل مكان وزمان، وأصبحنا، ندرك، أن التمثيل السياسي هو المصدر المفصلي لصناعة الديكتاتورية، حيث يصبح الديكتاتور شخصاً مقززاً و دموياً وفاسداً، وبيده سلطة غير عادية، حيث يهابه الجميع، وتصل المهابة إلى تصويره كشخص خرافين يمتلك قوي خارقة، لذلك، هو يستطيع التحكم في الزمن، فحين يتساءل عن الوقت، تكون الإجابة :
– هي طوع لك يا سيدي الجنرال، وكما تأمرها تكون !
من الثابت أن ” مئة عام من العزلة “، وضعت ” ماركيز” مبكراً في مأزق كبير، فهو لم يستطع أبداً، على الرغم من غزارة إنتاجه، أن ينتج عملاً في قامة هذا العمل العظيم،
لا “الحب في زمن الكوليرا” و لا “خريف البطريرك “، ولا “رائحة الجوافة”، ولا “ذكرى عاهراتي الحزينات”، و لا حتي “عشت لأروي”، وهذه تقريباً هي أعماله الرئيسية!
وهو، لعمري، لو توقف عن الكتابة بعدها، لكانت العمل السماويَّ الرنين بالقدر الذي يكفي ليضمن له الخلود في المطلق و الذوبان فيه أبد الدهر، ..
لذلك، فإن إيقاع قلم أي أديب لم يقرأ هذه الرواية، حتماً، يشوبه بعض الاختلال ..
وداعاً غابو، صهرنا العزيز..