اجتمعت قلوب المؤمنين في دمشق جامعة معها قلوب أبناء حلب والسوريين في كل أرجاء الوطن والعالم أجمع، مصلّين من أجل السلام في سوريا ومن أجل عودة المخطوفين ومرور سنة على اختطاف مطراني حلب بولس ويوحنا.
في كنيسة الصليب المقدس رفع البطريرك يوحنا العاشر الدعاء مع البطريرك غريغوريوس الثالث، وقد شاركهما أيضاً، غائباً عنهما ولكن حاضراً معهما بصلاته البطريرك أفرام الثاني وحشد من مطارنة وكهنة دمشق ممثلين عن الكنائس المسيحية وجمع غفير من المؤمنين، وأرسل الجميع سلاماً فصحياً إلى كل العالم، وخصوصاً إلى سوريا، متضرعين لعودة كل المخطوفين وخاصة المطرانين بولس ويوحنا.
في هذا السياق صدر عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس و بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس بيان مشترك جاء فيه:
في مثل هذا اليوم من العام الماضي اختطف أخوانا المطرانان يوحنا وبولس. اختطف المطرانان فبرهنا للدنيا أنهما رسولا سلام كما سيدهما. خطفا ليدمغا بالأفعال لا بالكلام أنهما دوماً إلى جانب رعيتهما. اختطفا ليقولا إن العاصف، إن استمر، لا يوفر مطراناً أو شيخاً، مسجداً أو كنيسةً، طفلاً أو كهلاً، بلداً أو آخر.
وفي هذا اليوم تجتمع قلوب أهلهما في كنيسة أنطاكية، في سوريا ولبنان والمشرق والعالم أجمع، كما اجتمعت سابقاً لتذوب صلاةً أمام الخالق وأمام العذراء النقية من أجل عودتهما وعودة كل مخطوفٍ.
تعلّم المطرانان يوحنا وبولس من السيد أن وميض نوره أقوى من عتوّ الأزمنة. فها هو شفيع المطران يوحنا، أي يوحنا الإنجيلي، يقول لنا بأن الله محبة، ومفخرة شفيع المطران بولس، أي بولس الرسول، هو صليب يسوع المسيح الذي ارتضاه محبةً بالجبلة البشرية. محنتهما اليوم هي بعضٌ من محبة الصليب وصليب المحبة. وهذه المحبة هي التي تجمعنا اليوم، مسيحيين ومسلمين، في كنيسة الصليب المقدس لنصلي إلى الرب القدير ألا يكلأ عينه عن أخوينا وعن كل مخطوفٍ ويكتنفَ سوريا والمشرق كله بنور قيامةٍ مجيدة.
إن الاتجار بحياة الناس مهانةٌ بحق قاطن السماء الذين خلقهم أحراراً. إن الاتجار بحياة الناس والخطف بالتحديد لهو استعبادٌ لهم وازدراء بالمولى القدير الذي وضع فيهم مسحةً من الحرية. “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”فـ”من له أذنان للسمع فليسمع”.
نقولها ومن جديد لكل الأسرة الدولية ولسائر المنظمات ولكلّ من له “سلطان الحل والربط” كما نسميه في لغتنا الكنيسة؛ نحن شاكرون لكل كلمة تضامنٍ ولكل مشاعر تآخٍ ولكل وقفةٍ استنكار وشجبٍ وإدانةٍ. إلا أننا، وبعد سنةٍ من الانتظار،
نحمّل الأسرة الدولية كلها مسؤولية السكوت عن هذا الخطف المدان ومسؤولية هذا الصمت المطبق عن هذا الملف بكل تفاصيله ونهيب بالكل التعاطي بلغة الأفعال. تكفينا سنة من الوعود والاستنكارات، فلنبدأ بالأفعال التي تترجم حسن النوايا.
من هنا، من دمشق، سلامُ قيامةٍ لأبنائنا في حلب. سلامُ قيامةٍ من أنطاكية السريانية والرومية الأرثوذكسية لكل بنيهما في العالم وبلاد الانتشار وخصوصاً في حلب الغالية التي دفعت وتدفع كما غيرها ضريبة قساوة شتاءٍ عاصفٍ. سلامُ قيامةٍ لسوريا الجريحة التي تنزف في هذه الأيام شوقاً لأمانٍ غادرها وتنبض في الوقت عينه قوةَ رجاءٍ بمستقبل ستبنيه سواعد السوريين.
إن مستقبل هذه الارض هو لأبنائها مهما كلح وجه الزمان. والرِّجل الغريبةُ إلى زوال، وهذا ما يقوله التاريخ. في عشرينيات القرن الماضي دعي فارس الخوري إلى قصر الجنرال غورو في أوائل أيام الانتداب الفرنسي هو وبعض من رجالاتِ ذلك الزمان. بادرهم غورو قائلاً : أهذه هي دارة الملك فيصل، كم هي جميلةٌ بالفعل؟ لم تبق الكلمات في صدر فارس الخوري، خرجتْ عنوةً وأخرجها منطق التاريخ لتكون لسانَ حالنا البارحة واليوم وغداً: “مر على هذه الدار كثيرون. بناها الوالي ناظم باشا ورحل عنها ومن بعده جاء جمال باشا ورحل ومن ثم الملك فيصل. كلهم خرجوا ونحن أصحاب الأرض بقينا”.
هذه كانت رسالة الفارس إلى غورو، وهذه رسالة السوريين إلى كل الدنيا؛ باقون في أرضنا، رغم وحولة التاريخ، ومهما اختُطفنا ومهما امتُهِنا فلنا في الرب العارف مكنوناتِ القلوب رجاءٌ لا يخيب. نحن مسلمي ومسيحيي هذا المشرق فخّار رباني، جبلته يد الخالق المولى. واليد التكفيرية والإرهابية التي تمتد لتخرّب عيشنا سيقطعها تاريخ أخوةٍ حقةٍ وقصةُ ترابٍ انجبل بعجين عيشٍ واحدٍ رغم كبوات التاريخ. سوريا جديرةٌ بأن تورَّد سلاماً لا منطق استقواء بالخارج، سوريا جديرةٌ بأن تعود عروساً للحرف. وهي جديرةٌ بأن يعطى إنسانها أماناً وسلاماً افتقده. سوريا أوغاريت وشهبا وتدمر ومعلولا لا تستحق أن تورّد إيديولوجياتٍ غريبةً عن حضارة عيشها، وما التكفير والإرهاب والتفجيرات والخطف إلا تعبيرٌ عن فكرٍ غريبٍ عنها. سوريا غصن زيتون، لا تحرقوا الزيتون في أرضها.
نقول لأخوينا المطرانين. يا رسولي المحبة السائرين في هدي نور الصليب. أنتما قنديل صلاةٍ في عتمة ما يجري في هذا المشرق. وهذا القنديل يشرب من زيوت قلوبنا لينير في عتمة هذه الدنيا ويكتسح ظلام الأزمنة. نحن معكما في وهج صلاةٍ إلى العذراء الطاهرة لتحمي سوريا والمشرق والعالم أجمع من كل القلاقل ولتردّ كل المخطوفين إلى ذويهم وتتغمد بحنانها من رقد على رجاء القيامة.
كن معنا يا الله ووشحنا بنورك الإلهي. ضمخنا بقوة رجائك وازرع في قلوبنا قوة اليقين بحبل خلاصك. كن لنا الميناء والعون والسور. واجل عن نفوسنا دثار القنوط وانفخ عن شرارة روحنا غبار التجارب. عز المخطوفين وأعدهم سالمين. رافق الذين في الأمراض، كن ياربي مع المهجرين، وعز وقونا لنعزي إخوتنا الذي انقلب عليهم وجه الزمن. أرسل عزاءك لقلوب اليتامى واكتنف الراقدين بسطيع قيامتك. ارحم يارب شهداءنا الأبرار وبلسم قلوب أمهاتهم وذويهم بسكينة روحك القدوس.
من كنيسة الصليب المقدس في دمشق، سلامُ قيامةٍ لسوريا، وسلام قيامةٍ للبنان والمشرق والعالم أجمع. سلامك يارب، سلامُ الدنيا، المسيح قام حقاً قام.