قراءة في ظاهرة مسرح الشباب العرب (*)

بقلم: د. ماري الياس

تطوّرت كتابة الدراما التلفزيونية مؤخراً، وصارت مهنة مربحة، لا بل تحوّل إليها الكثير من صنّاع المسرح وخرّيجيه. انتشرت الدراما مؤخراً بشكل كبير، بتأثير انتشار maryالمحطات التلفزيونية الفضائية، التي دخلت البيوت كلّها وعولمت الثقافة، حتى باتت الدراما هي العنصر الثقافي المؤثر الفاعل في الحياة اليومية لعامة الناس؛ إذ إنها تطرح النماذج المتعدّدة عن حياة الناس، من الحاضر والماضي، وتحدّد ساعات جلوسهم أمام الشاشة الصغيرة.

هذا لا يعني انتقاصاً بحق هذا المؤثر الثقافي، إنما نشير إلى أنها مع السينما (كفن صورة)، انتزعت ما شَكل موضوع بحث المسرح خلال قرون طويلة، وهو ببساطة محاولة “تصوير الواقع” و”الإيحاء بالحقيقي”، من خلال سرد حكاية وعرضها أمام الجمهور. هذا هدف الدراما التلفزيونية اليوم، في الظاهر على الأقل، وللدراما والصورة التي هي عمادها، قدرة هائلة على تقديم إيحاء بالواقعية، ولكن الحقيقة أن هذه الصورة هي في بعض الأحيان سطحية ومغايرة للواقع، لذلك يبقى المسرح والفنون الأخرى كافة ضرورة تعبيرية.

في المقابل، عرف المسرح في العقدين الأخيرين من القرن الفائت انكفاءً على الذات، حاول بعدها أن يبتكر لنفسه تغيّرات جوهرية، وكأنه قام بردّة فعل ديناميكية في مواجهة موته. هذه التغيّرات تحفظ له خصوصيته، وبالتالي تضمن له البقاء على قيد الحياة، وكأن هذا جزء من حركة إعادة النظر بالثقافة بشكل عام، ودورها التنموي والتنويري، لا بوصفها منتجاً فكرياً بعيداً عن الواقع، بل على العكس تماماً، بوصفها منتجاً اقتصادياً أيضاً من الممكن أن يستثمر. كذلك أعيد من جديد طرح دور المسرح في الحياة العامة، والدليل على ذلك انتشار أنواع جديدة من المسرح ترتبط ارتباطاً عضوياً بالتعليم والتنمية. وفي المقابل، وعلى هامش هذا التطوّر، عادت الكتابة المسرحية إلى الحياة من ضمن سياق خاص بها، ومن ضمن برامج تشجيعية خاصة.dalil

أخذ المسرح على عاتقه طرح خطابٍ عن الواقع لا يدّعي أنه يقول الحقيقة، إنما ينتج حقيقة “ما” يتبنّاها صاحبها، وتحوّل المسرح من مصوّر للواقع إلى منبر لطرح أسئلة جوهرية حول الواقع والحقيقة. صار المسرح خطاباً، وهذا هو الجديد اليوم بالنسبة إلى المسرح العالمي، والمسرح الشاب العربي، الذي نحن في صدده.

الشباب والمسرح

ظاهرة مسرح الشباب العرب تستحق التوقف عندها. ونحن لا نعرفهم كلّهم، لكنهم باتوا يشكلون ظاهرة. فهناك أولاً عدد لا بأس به من الشباب يتوجّه لدراسة المسرح وأكثر بكثير من السابق، وهناك في كلّ الدول العربية مؤسّسات تعليمية مختصّة تخرّج عدداً لا يستهان به من المسرحيين، وهناك شباب يشكلون فرقاً، ويكتبون نصوصاً، ويقدمون عروضاً؛ فما هي ملامح هذا الجديد؟ ولاسيما في ما يخصّ النص المسرحي؟

لفهم الظاهرة، لا بدّ من الإحاطة بهذا الجديد من جوانبه كافة، سواءً على مستوى تحليل النصوص المكتوبة أم السياق الذي أنتج هذه النصوص، أي على المستويين السوسيولوجي والتقني، لأن هذه الظاهرة قد تكون أنموذجاً للتحوّل الذي نعيشه على مستوى علاقتنا بالثقافة.

لم يُنشر حتى الآن إلا القليل من هذه النصوص، ولم تأخذ حيزاً كافياً من الاختبار والتجربة، ولم تحظَ بعد بقدر كافٍ من النقد والتحليل بعد المقارنة بتجربة الآباء، من كتّاب الجيل السابق، الذين كُرسوا ككتّاب، مثل سعد الله ونوّس وعصام محفوظ وغيرهم الكثير. ثمّة فرق مسرحية شابة ظهرت في تونس والمغرب ولبنان ودول عربية عدّة، وهناك مسرحيون شباب يقدمون عروضاً متفاوتة المستوى. وثمّة في السنوات الأخيرة محاولات جديدة للكتابة ولطباعة هذه النصوص ونشرها. والملاحظ في هذا الصدد أنه غالباً ما تتبنّى مؤسّسات خاصة هذه المحاولات، بأبعادها كافة، خلافاً لما كان يجري في السابق مع جيل الآباء، حيث كانت وزارات الثقافة هي التي تتبنّى المسرحيين ونتاجهم.
هنا نطرح بعض الأفكار التي تتعلق بهذه الظاهرة:

mroue

ربيع مروة

– اضمحلال وتراجع تجارب الستينيات التي ازدهرت في مصر، وتجارب السبعينيات في العراق وسوريا، حيث كان الكاتب، وفي علاقته مع مؤسسة إنتاج مسرحي، يجد نفسه، في إطار علاقة ذات ملامح واضحة، من تمويل، وبنية تحتية، ونظام ما، وجمهور ثابت في مدنٍ معيّنة، هي العواصم على الأغلب. أما المسارح القومية والمؤسسات العامة، التي كانت ترعى المسرح وتموّله، فقد انكفأت على ذاتها، وبقيت مجرد صورة ليس إلا، عدا بعض الاستثناءات (ربما بعض بلدان المغرب العربي). المنظومة التي كانت سائدة من قبل تراجعت بسبب الترهل والفساد والبيروقراطية وانتفاء حريات التعبير، وكذلك بسبب جمود قوانينها وعدم تأقلمها مع تطورات العصر أو لتعرض بعض البلدان والمجتمعات لأزمات حادة.

– تزامن هذه التحوّلات مع تغيّرات طالت ظروف واقع الإنتاج الثقافي في العالم بشكل عام، وعلى وجه الخصوص البلدان النامية، وبلدان المنطقة العربية، حيث- وبحسب ما جاء في “الدليل إلى الإدارة الثقافية” الصادر عن مجموعة باحثين عرب في العام 2009- تشهد هذه البلدان”منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي تطوراً ملحوظاً في العمل الثقافي المستقل، يتمثل في زيادة عدد المؤسسات والمجموعات وأنشطتها، التي تنتج أعمالاً فنّية، وتنظّم فعاليات ثقافية، لا تندرج في الإطار التجاري، ولا تتبع للأجهزة الحكومية الرسمية”. من المؤكد أن هناك قناعة تتشكّل لدى الفاعلين الثقافيين بضرورة الإسهام في دفع الجيل الجديد نحو كتابة المسرح والعمل عليه، وتشهد على ذلك نسبة الدورات التدريبية في الكتابة، ومشروعات ترجمة المسرح التي تتزايد، والتي لا نجدها في المؤسسات الرسمية، وإنما تتمّ عبر دعمٍ من جهات أجنبية مستقلة ومراكز ثقافية.

إن اشكاليات الحريات والتمويل، أي المنظومة الإنتاجية القديمة والجديدة، لعبت دوراً كبيراً في دفع التجارب المسرحية الشابة باتجاه محدّد. وفي المشهد العام، يبدو هذا النتاج تمرداً على سلطة المركز، وعلى كلّ ما هو أدبي في فهم الثقافة وتقييمها.

bassam

سليمان البسام

– بروز نوع جديد من الممارسة الفنية المسرحية، التي بدأت تأخذ شكلاً متكاملاً في العقود الأخيرة، وهي ممارسة قائمة على المخرج- المؤلف، الذي سيجد ارتباطاً ما بسوق المسرح العالمي (ربيع مروة في لبنان وسليمان البسام في الكويت، وعمر أبو سعدة من سوريا وسواهم)، وبالتالي ستصاغ علاقته بالمؤسسة من ضمن مفردات معولمة لكنها حديثة. وفي العام2011 أصدرت دار “ممدوح عدوان للنشر والتوزيع” كتاب “مسرحيات عربية من الألفية الثالثة”، بالتعاون مع “المجلس الثقافي البريطاني”، ومسرح “الرويال كورت”. وقد ضمّ الكتاب نصوصاً ثمانية لكتّاب مسرحيين شباب من مصر، ولبنان، والمغرب، وفلسطين، فضلاً عن نصّين لكتّاب سوريين هما “المرود والمكحلة” لعدنان العودة، و”انسحاب” لمحمد العطار.

برزت أيضاً أنواعٌ جديدة من العروض، حداثية أو ما بعد حداثية، مثل عرض “فاطمة” لعلي شحرور، عروض فرقة زقاق اللبنانية، وكذلك نصوص كريستيل خضر اللبنانية، ونصّ خلود ناصر “ماشي أون لاين”.

بعد قراءة عدد لا بأس به من نصوص الشباب، والإشراف على مختبرات الكتابة، نستطيع القول إن هذه الكتابة تلفت النظر على مستويين: الشكل أو البنية الخارجية والمضمون المتمثّل بالموضوعات التي تتمّ معالجتها: إذ غالباً ما بقيت القوالب على ما هي. أي أنها بقيت قوالب تقليدية، ولم يتمّ البحث حتى الآن عن شكل جديد. وفي رأيي، أننا لا يمكن أن نقول شيئاً جديداً من خلال قوالب تنتمي إلى الماضي. أما على مستوى المضمون، فتبرز في هذه النصوص موضوعات جديدة لم يتطرق إليها جيل الآباء نهائياً، فضلاً عن طريقة معالجة جديدة ولغة جديدة أيضاً، تنحو نحو العامية والتبسيط. هل العالم الذي نعيش فيه اليوم مُتَعذر الفهم إلى هذا الحدّ لكي نقف عند حدود طرح الأشياء من دون محاولة فهمها أو مسرحتها؟ هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني عند قراءة نصوص الشباب.guilaf masrahiat

يبرز توجه جديد يضع “الأنا”، في قلب هذا العالم المعقد، الأنا – الشخصية حائرة ومربكة في تحديد ما تريده (الجنس- الاستقرار- الزواج)، وفي كيفية التعبير عنه وتحقيقه(العنف- الرفض- الهجرة- السفر- الندم..إلخ)، لذا فإن أغلب هذه النصوص تأتي كثورة على القيم الموجودة، إن في اختيار الموضوع أو في شكل التعبير عنه، أو في القول المباشر، وهذا ما نجده في نصوص مثل ” ليلة ” عمر أبو سعدة، و” الفيروس” و”خارج السيطرة” لوائل قدور، و”قدم إلى الأمام قدم إلى الوراء ” ليامن محمد، و”ريح” لفارس الذهبي، و”آخر العشاق ” لمحمد أبو اللبن، و”باريس في الظل” ليم مشهدي، و”ملحق” لليندا أحمد.

فكرة المكان – المدينة حاضرة بشكل كبير، بينما تغيب نهائياً محاولة تفسير الأشياء أو ربط مشكلة الأنا ومشكلة الأنا والآخر بما هو أوسع منها، أو بما يتجاوزها من سياق اجتماعي أو سياسي أو غيره.  لا يريدون تفسير العالم، بل كأنهم يريدون، وقبل أي شيء آخر، فهم أنفسهم. وهم بذلك أقرب إلى الواقع المعاش.

****

*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

(*) أستاذة جامعية وناقدة مسرحية من سوريا

 

 

One comment

  1. يقول المواطن:

    جدا رائعة اخى الله يوفقك يعطيك العافية

اترك رد