بقلم: الدكتورة مي عبدالله
وسائل الإعلام والاتصال في لبنان تثير اليوم الغرائز الطوائفية وثقافة الخلاف، وتتعامل في نقلها لوقائع الوضع الأمني، في طرابلس وعكار وصيدا وغيرها، عبر التضخيم والتركيز عليها من زاوية معينة، مما يجعلها بوقاً للشحن السياسي والطائفي والمذهبي.
إن الإعلام الوطني الحقيقي غائب أومغيب منذ سنوات طويلة، وقد استقال من وظائفه ومهامه ودوره وذهب إلى الاسترخاء وتغييب الموقف الوطني، والانحلال والانحطاط. ولهذا الانحطاط جذور عميقة، تربويّة، اجتماعيّة وثقافيّة، نذكّر أن من أهمّها، للأسف، أنّ الاعلاميين من الجيل الجديد يفتقرون إلى الثقافة العامة والعمق الفكري- الفلسفي الذي يجعل منهم أكثر من ناقلي للخبر.
فكم نحن في حاجة متزايدة للإعلامي المتخصص القادر على تخطي أنية الخبر وتطبيق قاعدة البعد الإنساني في الإعلام والاتصال.. .
الخطاب السياسي السائد اليوم في العالم العربي عامة، ولبنان خاصة يعبّر عن مأزق أصحابه ورؤاهم، كما يعبّر عن جزء من المأزق الوطني العام، وهو خطاب قطيعة بين موالاة ومعارضة. انه خطاب غير حواري، بل تجريحي، حيث كل سياسي يهاجم خصمه ويدينه دون الإصغاء إليه، فيتم استبدال الإنجاز بالخطاب والفعل بالقول. هو خطاب الإثارة والاستفزاز والتهديد في غياب رجال الدولة وهيمنة الوصولية، مما يجعلنا نشعر، أو نتيقّن، أن االلبنانيين ما عادوا على مستوى الحوار، وأنهم فقدوا الثقافة الحوارية والتربية الديمقراطية على الاعتراف بالآخر… فالأمر لا يقف عند السياسيين، بل إن المواطن اللبناني قد تحول إلى زبون مستزلم لدى قادته من أهل السياسة، يتبعهم مهما فعلوا دون معرفة الأسباب والحيثيات. وأهل السياسة يحصدون الشعبية بزرع العصبيات الطائفية، وهذه الظاهرة وجدت أيام النازية، حيث كان الشباب يتبعون هتلر دون معرفة خفايا ما يقوم به.
لقد لحقت وسائل الإعلام بالركب، وتبعت السياسيين وأصبحت منبراً لهم، فساهمت في ضرب العقول وضرب القيم الوطنية، وضرب المؤسسات، وحتى في جعل النظام غير قابل للحكم. من هنا، فالخطاب السياسي المظهّر في وسائل الإعلام والاتصال في لبنان هو خطاب شعبوي بسيط في مفاهيمه، يطلق شعارات التغيير التي يتأثر بها المواطنون المخدّرون والشباب الذين يطلبون التغيير. وهو خطاب مذهبي ضيق يخوّن الآخر وكأن الرأي الآخر مرفوض.
هكذا بات خطاب وسائل الإعلام والاتصال في لبنان، سلاح دمار شامل يهدد مباشرة السلم الأهلي، اذ هو بانحيازه الصريح يتحمل الجزء الخطير في نشر وتعميم وتغذية التوتر والانشقاق، والمسائل الوطنية الجوهرية لا يمكن معالجتها بشكل عقلاني في أجواء يسودها التطرّف في المواقف والتشنجات.
والمصلحة الوطنية مغيبة كلياً اليوم عن الخطاب السياسي القائم، وكأنه لم يعد هناك من تفاهم على معنى المصلحة الوطنية. فهناك اختزال لمفهومها وإذابة لها في بوتقة المصالح الخاصة وأنانيات القيادات السياسية ونخبها، الذين بسبب إستنادهم إلى العصبيات الطائفية، يفتقرون بالضرورة إلى الهوية الوطنية. هم مجرد سفراء لطوائفهم، أكثر منهم نواباً أو وكلاء لمصالح الوطن. وهذا يذكّرنا بثقافة “القناصل” التي تحكمت بمصير لبنان في القرن التاسع عشر، ولا تزال تتحكم به في القرن الحادي والعشرين، وستظل تتحكم به في القرن الثاني والعشرين ما لم يتم تجاوز الطائفية السياسية، كما يقول جورج قرم. فالتصريحات والمؤتمرات الصحافية والمهرجانات التصعيدية التي يقيمها السياسيون الطائفيون لا تلعب فقط دور إحداث الإحتقان، بل هي تعمل على إثارة المخاوف لدى فريق من الناس وتصوير الصراع لهم على أنه تهديد لوجودهم، ثم تدعو إلى التعبئة لمواجهة هذا الخطر… إنها اللعبة نفسها لإنتاج واستهلاك النظام الطائفي.