“لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟ إنّه ليس هنا. لقد قام!” (لو24: 5-6)
1. النسوةُ اللّواتي تبعْن يوسف الرامي ونظرْن القبر، وكيف وُضع فيه جسدُ يسوع، جئْن صباحَ الأحد إلى القبر، بعد استراحةِ السبت حسبَ الوصيّة، حاملاتٍ الحنوط لتطييبِ جسدِه، فوجدْن الحجر قد دُحرج عن القبر. دخلْن ولم يجدْن جسدَ يسوع. فإذا برَجلَين بثيابٍ بيض يقولان لهن: “لماذا تطلبْن الحيَّ بين الأموات؟ إنّه ليس هنا. لقد قام”(راجع لو24: 1-6).
2. منذ ألفَي سنة والمسيحيّون يعلنون حقيقةَ قيامةِ المسيح، التي هي أساسُ إيمانهم وصخرةُ رجائهم ومصدرُ محبّتهم. يعلنونها للعالم كلِّه بشرىً مفرحة: إنّ قيامةَ المسيح حدثٌ عام دشّن بُعداً جديداً للوجود الإنساني. هذا البُعد هو حالةُ القيامة فينا. “فيسوعُ الحي” لا يأتي من عالمِ الأموات، بل من عالمِ الحياة التي أبدعها، وهو الكائنُ الحيُّ حقاً، وهو نفسُه ينبوعُ كلِّ حياة. ألمْ يقل لمرتا “أنا القيامةُ والحياة”، وأقام بالتالي أخاها لعازر من الموت بعد ثلاثةِ أيام؟ (راجع يو11: 25).
في قيامةِ يسوع تحقّقت قفزةٌ نوعيّة أونتولوجيّة تختصُّ بالكائن في حدِّ ذاته، وانفتحَ بُعدٌ جديد في حياتنا على المستوى الفردي نكونُ فيه باتّحادٍ مع الله، بواسطةِ سرّ القربان وسائرِ أسرار الخلاص. وبُعدٌ آخر على المستوى الجَماعي، إذ تكوّنَ من موتِ المسيح وقيامته جسدُه السّري الذي هو الكنيسة، وهو المسيح الكوني الذي يُدخلنا، كأفرادٍ وجماعة، في شركةِ اتّحادٍ ومحبّة مع الله، وفيما بيننا.
3. هذا الواقعُ الجديد الذي أحدثَه في العالم المسيحُ الربّ بموته وقيامته، تبسّط فيه بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسّي حيث كتب: “وتشكرون بفرحٍ للآب الذي أهّلَكم للشّركة في ميراث القدّيسين في النور، وقد انتزعَنا من سلطان الظّلمة، ونقلنا إلى ملكوتِ ابنه الحبيب الذي لنا فيه الفداءُ ومغفرةُ خطايانا… والمصالحةُ مع الله، والسلامُ بدم صليبه (راجع كول1: 12-14، 20).
إنّه واقعُنا الجديد، فالمسيحُ قام من بين الأموات، باكورةً للراقدين. فكما أنّه في آدم يموت الجميع، كذلك في المسيح سيحيا الجميع، على ما يؤكِّدُ بولس الرسول (راجع 1كور15: 20و22). ولذلك نقولُ مع الرسول إيّاه: إمّا أن تكونَ قيامةُ المسيح حدثًا عامًّا، أو لا تكون! وبما أنّه، بقيامته، لم يرجعْ إلى حياةٍ إنسانيّة اعتياديّة في هذا العالم، كذلك نحن بقيامة قلوبِنا لحياةٍ جديدة في نظرتِها ومسلكِها وأفعالِها، علينا السعي بنعمته إلى عيشٍ جديدٍ يُخرجنا من عاداتِنا العتيقة ومن تجربةِ الرجوعِ إلى الوراء. قيامةُ القلوب هذه، في حياة الدنيا، هي التي تؤدّي بنا إلى القيامة النهائيّة، نفسًا وجسدًا، لمجدِ السماء.
4. أيّها الأخوة والأخوات الأحبّاء، الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنون والمؤمنات، في لبنان والشَّرق الأوسط وبلدان الانتشار، كلُّنا مدعوّون لعيش هذا الواقع الجديد. نتجدّدُ شخصيًّا ونجدّدُ مؤسّساتِنا. نجدّدُ أداءَنا ونهجَ حياتنا. نجدّدُ نظرتَنا ورؤيتَنا المنفتحة نحو آفاقٍ جديدة. نجدّدُ قوانا ومقاصدَنا. والتجدّدُ يقتضي منّا الخروج من ماضٍ وَضَعَنا في نوعٍ من الرتابة التي تُفقدنا ديناميّةَ العطاء والتحرّك.
الروحُ القدس الذي وُهب لنا بقيامة المسيح من الموت، هو ديناميّةُ حياتنا: يفعِّلُ في داخلنا كلمةَ الإنجيل، يُحيي نفوسَنا بثمار الفداء، يقودُنا إلى الحقيقة كلِّها، يُثبّتُنا في هوّيتنا، وفقًا لحالة كلٍّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، ويُطلقُنا في دروبِ رسالتِنا وشهادتِنا، حيثما نحن.
إنَّ المجمعَ البطريركي الماروني، الذي عقدناه ما بين السنوات 2003-2006، يذكّرُنا بعناصرِ هوّيتِنا المتنوّعة، ويرسمُ مساحاتِ رسالتنا في شرقِنا وفي عالمِ الانتشار. فهو لا يقفُ عند حدودِ الماضي، بل يبقى رفيقَ حياتنا الدائم، إلى جانب إرشادَين رسوليَّين: الأولُ للطوباوي البابا يوحنّا بولس الثاني: “رجاءٌ جديد للبنان”(1997)، والثاني لقداسة البابا بندكتوس السادس عشر: “الكنيسة في الشّرق الأوسط، شركة وشهادة”(2012). كما أنّ لنا دفعاً جديداً نحو هذا التجدّدِ الدائم من قداسةِ البابا فرنسيس ونهجِ البساطة والتواضع وحالةِ “الخروج” الدائم نحو الإخوةِ في حاجاتهم، الذي أطلقَه في الكنيسة.
5. هذا الواقعُ الجديد ينادي أيضًا رجالَ السياسة عندَنا في لبنان، ولاسيّما أعضاءَ المجلس النيابي والحكومة، لكي ينفتحوا عليه في حياتِهم الروحيّة والأخلاقيّة، وفي ممارسةِ عملِهم السياسيّ وواجباتهِم التشريعيّة وقراراتِهم الإجرائيّة، وقد تكرّسوا لخدمةِ الخيرِ العام الذي منه خيرُ الجميع وخيرُ كلّ مواطن. الواقعُ الجديد الذي نحتفل به يذكّرُهم بأنّ هويّتَهم السياسيّة ورسالتَهم الوطنيّة توجبان عليهم تنظيمَ الحياةِ العامّة في مقتضياتِها اليوميّة ومتفرّعاتها، وإدارةَ شؤونِ الدولة في نشاطها الداخلي: إدارةً عامّةً وقضاءً ودوائرَ وأجهزةً مراقِبة وأمن، ومخطّطاتٍ ومشاريعَ في ميادينِ الاقتصاد والاجتماع والسياحة والثقافة والإنماء؛ كما وفي نشاط الدولة الخارجي بما يستوجبُ من علاقاتٍ متبادلة مع الدول ديبلوماسيًّا وتجاريًّا واقتصاديًّا، بمعاهداتٍ واتفاقيات.
والواقعُ الجديد يقتضي منهم المحافظةَ على الدولة وتعزيزَها، كيانًا وشعبًا ومؤسّسات. ولقد عبَّر الشعبُ ونقاباتُه وهيئاتُه في هذه الأيام عن حاجاتهم المتعدّدة. فإنّا نطالبُ بها معهم، وفي الوقتِ عينِه نطالبُ بحمايةِ الدولة ومالِها العام وإجراء الإصلاحات اللازمة لتمويل ما يلزم من موجبات، وبحمايةِ المؤسّساتِ التربويّة والاجتماعيّة والمصرفيّة، والقطاعاتِ السياحيّة والسياسيّة والاقتصادية، وكلُّها تضمن استقرارَ الدولة وحيوّيتَها، وتؤمّنُ فرصَ العمل للعديد من المواطنين. فيجبُ حلُّ جميع الأمور العالقة لدى المجلس النيابي والحكومة بجدّيّةٍ وبنظرةٍ شاملة، حفاظًا على حقوقِ الجميع، وتعزيزاً لمحبّةِ المواطنين لدولتهم ولتوطيدِ ثقتِهم بها وبالمسؤولين فيها.
7. نشكرُ اللهَ على الحكومة الائتلافيّة التي تعملُ جاهدةً على القيام بمسؤوليّاتها، وعلى المجلسِ النيابيّ الذي استعادَ نشاطَه التشريعي، واليومَ يستعدُّ لانتخابِ رئيسٍ جديد للجمهورية، جديرٍ وقادر، يأتي ناضجاً بنتيجةِ جلسات الاقتراع التي تبدأ تحت عناية الله، الأربعاء المقبل، 23 نيسان، وبنتيجة تشاوراتِ الكتل النيابيّة، والأحزابِ السياسيّة، وسماعِ هيئاتِ البلاد الثقافيّة والاقتصاديّة والمهنيّة، وسائر فئات الشعب اللّبناني. إنّ أنظارَ العالم ولا سيّما الدول الصديقة، موجَّهة إلى المجلس النيابي وتأملُ بأنّه سيختارُ أفضلَ رئيسٍ للبلاد، تقتضيه الظروف الداخليّة والإقليميّة والدوليّة الراهنة، ويكونُ على مستواها. وهذا ما نلتمسُه بالصلاة من جودةِ الله وعنايته.
8. وفي ضوءِ الواقعِ الجديد من حياة البشر، الذي أحدثته قيامةُ المسيح، نتوجّهُ إلى إخواننا وأبنائنا وبناتنا، أساقفةً وكهنةً ورهباناً وراهباتٍ ومؤمنين، الذين يعيشون مأساةَ الحربِ والعنفِ والإرهابِ في سوريا والعراق ومصر وفلسطين والأراضي المقدّسة، وفي سواها من البلدان القريبة والبعيدة. إنّهم في صلاتِنا وقلبِنا وفكرنا. ومعهم ومع شعوبِ هذه البلدان العزيزة علينا، نرفعُ صلاتَنا إلى الله من أجل الضحايا البريئة والجرحى، ومن أجل العائلاتِ المنكوبة والمهجَّرة والمشرَّدة على أرض الوطن أو خارجه. نناشدُ المتقاتلين والمتنازعين اتّقاءَ الله وإيقافَ دوّامة العنف، وحلَّ قضاياهم بالحوار والتفاهم والتفاوض.
ويؤلمُنا للغاية سقوط ضحايا بريئة كلَّ يوم، هنا وهناك وهنالك. كما وآلمنا استشهادُ الأب اليسوعي Franz منذ أسبوعٍ في حمص والخمسةِ وخمسين طفلاً في إحدى المدارس في دمشق الثلاثاء الماضي.
إنّنا نطالبُ الأسرةَ الدوليّة، وفي طليعتها الدولُ المعنيّة، وضعَ حدٍّ لمأساة سوريا على أساسٍ من الحقيقةِ والعدالة، والكفَّ عن مساندةِ النزاع وتأجيجِ نارِه بإرسال المال والسلاح والدعم، لأغراض خاصّة، سياسيّة واقتصاديّة. ونلتمس من المسيح المنتصر على الخطيئة والشرّ والموت أن يمسَّ ضمائر المسؤولين، ويحرّكَ في قلوبِهم المحبّةَ والرحمة.
9. بسلامِ المسيح نحيّيكم جميعاً، مقيمين ومنتشرين، ونعربُ لكم عن أصدقِ التهاني والتمنيّات بالفصحِ المجيد، راجين لكم نعمَ الله التي فاضت من ذبيحة الفادي الإلهي، وأشعّت على العالمِ أجمع بنورِ قيامتِه.
المسيح قام! حقّاً قام! هللويا!