“أطروحة الدكتوراه ليست سوى نقل العظام من مقبرة الى أخرى”. الكاتب الأميركي جيمس فرانك دوبيه (1888- 1964)
بلجأ كل من يحصل على شهادة الدكتوراه- والماجستير أحياناً – في العراق عموماً وفي أقليم كوردستان، خصوصاً، إلى نشر رسالته العلمية أو اطروحته بصفتها كتاباً، من دون إجراء أي تغيير يذكر على شكل ومضمون الأطروحة. وهذا أمر غريب، لأن الأطروحة والكتاب شيئان مختلفان كثيراً من وجوه عديدة ، ويمكن القول عموماً، أن الأطروحة في الأصل، ليست نصاً مخصصاً للقراءة من قبل الجمهور العام، وهي غير صالحة للنشر.
لذا لن تجد في الدول الغربية ، دار نشر واحدة تقبل نشر أي أطروحة علمية، وإن قبلت أحياناً، فأنها تشترط إجراء تغييرات جذرية وشاملة عليها. وهذا لا يعني ان الكتاب – أي كتاب – أفضل من الأطروحة، أو ان الأطروحة أقل شأنا من الكتاب، بل لأنهما متباينان من حيث الهدف، والهيكل البنائي، والشكل، والأسلوب، واللغة، وطريقة عرض المعلومات، والأهم من ذلك مدى الحرية التي يتمتع بها كل من صاحب الأطروحة ومؤلف الكتاب.
سنحاول في الفقرات اللاحقة، استجلاء الفروق الأساسية بينهما ومتطلبات تحويل الأطروحة إلى كتاب قابل للنشر .
الفروق الأساسية بين الأطروحة والكتاب :
1- الهدف :
يختار طالب الدراسات العليا موضوعاً لأطروحته في تخصص معين، بتوصية من الأستاذ المشرف في كثير من الأحيان، وهو ليس حراً في كتابة الأطروحة على النحو الذي يرغب فيه، بل يلتزم بالقواعد العامة لكتابة الأطاريح وبتوجيهات الأستاذ المشرف .
الأطروحة تكتب من أجل إثبات قدرة الطالب البحثية، وجدارته العلمية أمام لجنة مناقشة متخصصة ومحدودة العدد، تضم، في العادة، عدة أشخاص، وهي في الحقيقة لجنة امتحان للطالب المدافع عن أطروحته، وإذا أجتاز صاحب الأطروحة هذا الامتحان، وحازعلى موافقة اللجنة، يمنح الشهادة أو الدرجة العلمية .
والأطروحة في العادة، هي أول عمل للطالب ويسبق خبرته العملية، في حين أن الهدف من الكتاب هو أيصال أفكار المؤلف ومشاعره إلى القاريء العام، بأسلوب واضح وشائق. ويعتمد على آراء المؤلف، وليس أستعراض آراء الآخرين ومناقشتها والتعليق عليها.
2- الشكل :
تكتب الأطروحة حسب تسلسل تقليدي، يبدأ بشرح مبررات اختيار الموضوع، ثم أستعراض المراجع والمصادر، وعرض المشكلة، وسرد تفاصيلها، ومناقشة أفكار الآخرين، من أجل التوصل إلى استنتاجات محددة . وإذا كانت هذه الصيغة التقليدية الراسخة هي المطلوبة في الأطروحة، فإن لكل كتاب صيغته الخاصة التي تتلاءم مع محتوى الكتاب وأسلوب المؤلف ، الذي يميزه عن المؤلفين الآخرين.
الأطروحة حتى إذا كانت تشابه الكتاب، ظاهرياً، ولكن لن يخاطر الناشر – أي ناشر – على نشرها بصورتها الأولية، لأنها لن تستوفي معايير النشر المهنية ومتطلبات السوق .
3- المؤلف :
طالب الدراسات العليا، باحث مستجد، لم يسبق له في- معظم الأحيان – خوض غمار التأليف، وليس لديه خبرة عملية سابقة، ويخضع لتوجيهات الأستاذ المشرف وللتقاليد المتبعة في هذا الشأن، وفي مقدمتها منع كاتب الأطروحة من أن يقول أي شيء من عنده دون أسانيد مرجعية، لذا فإن الأخير، بالغ الحذر ويتخذ موقف الدفاع أمام لجنة المناقشة.
والأطروحة بشكلها التقليدي يبعث الملل والسأم في نفس القاريء العام بكثرة إحالته إلى الهوامش والمراجع، في كل ما يعرضه من آراء وحقائق . في حين أن مؤلف الكتاب لديه حرية اختيار الموضوع الذي يتناوله، والمنهج الذي يتبعه والزمان والمكان اللذين يختارهما للكتابة والأسلوب الذي يعرض به مادة الكتاب … ومؤلف الكتاب في العادة أكثر خبرة في أسرار الكتابة المشوقة .
4- الوسط المتلقي :
ثمة اختلاف في الوسط المتلقي ونوعية الجمهور القارئ، حيث أن قراءة ومناقشة وتقييم الأطروحة تقتصر على عدد محدود من الأساتذة الأكثر علما وخبرة من الطالب، في حين أن مؤلف الكتاب أكثر علماً بموضوعه من القاريء العام . وهو مثل دليل سياحي غير مرئي للقراء، أو راو لنتاج ابداعي وليس محاضراً واقفاً على منصة يلقي الدروس على طلبته.
واذا كان صاحب الأطروحة يريد جمهورا أكبر، عليه أن يعيد النظر في أطروحته وأسلوب معالجتها وصياغتها جذرياً. غير أنه يعتقد أن القيمة العلمية لاطروحته كفيلة أن يفنح له باب النشر، ولكن للناشرين رأي آخر وهو قناعتهم المسبقة أن الإقبال على قراءة الأطروحة المنشورة، سيكون ضعيفاً أو معدوماً ولن تلقى رواجاً ولا تبرر المال الموظف لطباعته وتوزيعه .
5- اللغة :
لغة الأطروحة جافة وغير واضحة للقارئ العام، ومثقلة بالمصطلحات في حين أن لغة الكتاب واضحة وسهلة، تخلو من المصطلحات، إلا ما هو ضروري أو عام .
6- التركيب :
الأطروحة غالبا متدرجة في تقديم المعلومات في مسار طولي يشبهه البعض بخطوط سكة الحديد، في حين أن الكتاب وحدة عضوية يربط بين أجزائها نسيج سردي محكم، والمؤلف حرّ في اختيار الهيكل البنائي الذي يلائم محتوى الكتاب .
تجربة جامعة ( اوكسفورد)
هنا يتبادر إلى الذهن فكرة، قد تبدو معقولة للوهلة الأولى، لماذا لا يلجأ الطالب، منذ البداية، إلى محو هذه الفروق، وذلك بكتابة أطروحته على نحو قابل للنشر ككتاب . وفعلاً قامت واحدة من أشهر جامعات العالم ، وهي جامعة ( اوكسفورد ) البريطانية بتجربة فريدة في هذا الباب . ففي التسعينات من القرن العشرين أصدرت قواعد جديدة لكتابة أطاريح شهادة الدكتوراه تنص على أن تكون الأطروحة، بعد إنجازها والدفاع عنها بنجاح، قابلة للنشربوصفها كتاباً.
ولكن مدير دار النشر التابعة للجامعة ( كولينج وود ) كان مضطراً إلى رفض نشر أغلب الأطاريح المكتوبة، وفق تلك القواعد، لأنها ببساطة كانت لا تصلح للنشر العام.
واضطرت الجامعة إلى تعديل تلك القواعد، لاحقاً بحيث لا يشترط أن تكون الأطروحة قابلة للنشر . وهذه التجربة تؤكد وجود اختلاف كبير بين الأطروحة العلمية والكتاب الأعتيادي . أما أوجه التشابه بينهما فإنها خادعة . الاطروحة تبدو ظاهرياً مشابهة للكتاب من حيث تسلسل الفصول، وجود مقدمة وخاتمة، والتغليف، والعناوين، والمواصفات الشكلية الأخرى. ولكنها، في معظم الأحيان، لا تقرأ ككتاب. وبالنسبة إلى الناشر والقارئ، هذا التباين له أهمية حاسمة .
مراحل تحويل الأطروحة إلى كتاب :
ينصح طالب الدراسات العليا باختيار ومعالجة فصل أو فصلين من لب أطروحته وتحويلها إلى مقالات، يمكن نشرها في مجلات، متخصصة أو عامة، حسب طبيعة المادة، وذلك من أجل اكتساب الخبرة في هذا المجال. وقبل تحويل الأطروحة بتمامها إلى كتاب قابل للنشرالعام .
وينبغي النظر إلى الأطروحة، كمسودة أولية للكتاب المنشود. وينصح العديد من الأساتذة – الذين أشرفوا على إعداد ومناقشة الأطاريح في الجامعات العالمية – صاحب الأطروحة بأن يضعها جانباً لفترة من الزمن، قبل اجراء التغيير عليها، ليتسنى له بعد فترة زمنية قد تمتد من ستة أشهر إلى سنة واحدة، فحصها وتقييمها، على نحو موضوعي، والنظر إليها وفق نظرة نقدية تحليلية، وهي عملية صعبة لأن صاحب الأطروحة لا يمكن أن يكون موضوعيا بما يكفي لإعادة تقييم أطروحته كخبير محايد .
لكي تتحول الأطروحة إلى كتاب جيد، فإنها بحاجة إلى إعادة تنظيم وصياغة وكتابة الأجزاء الأكثر أصالة فيها. وقد يستغرق هذا التحويل وقتاً لا يقل عن المدة المصروفة على إعداد الأطروحة. لأن المؤلف حين يكتب بوحي من ذاته، وبحرية من دون قيود أو توجيه، تنثال عليه الأفكار، على نحو غير متوقع . وله أن يضيف إلى كتابه أفكاراً جديدة لم ترد في أطروحته . ويشبه البعض الأطروحة بجوهرة خام، يمكن، عن طريق تقطيعها وتنعيمها وصقلها، تحويلها إلى جوهرة رائعة .
ثمة نقاط عديدة ينبغي أخذها بنظر الاعتبار عند أعادة صياغة الأطروحة لتصبح كتاباً مقروءاً نوجزها في ما يلي :
1- ينبغي التمعن في الأطروحة وهل توجد فيها مادة كافية لتحويلها الى كتاب؟ ما الأشياء المفيدة فيها، وما الذي يجب أن يضاف إليها أو إعادة كتابتها.
2- الفصلان الأول والأخيرهما أكثر الفصول إشكالية في أي أطروحة . الفصل الأول يتضمن، في العادة، أسباب اختيار موضوع البحث واهميته واستعراض المصادر والمراجع، التي يراد به إقناع لجنة المناقشة بأن الطالب قد قرأ البحوث السابقة ذات العلاقة، وهي ليست طريقة جيدة لتقديم الكتاب إلى جمهور واسع من القراء، لذا فإن مؤلف الكتاب – أي كتاب – لن يلجأ إليها، بل يقدم كتابه على نحو آخر وبأيجاز .ويتضمن الفصل الاخير للأطروحة الاستتاجات التي توصل إليها الطالب والقضايا التي ما تزال عالقة وتتطلب إجراء بحوث أخرى حولها. لذا ينبغي تطوير وتلخيص الاستنتاجات والإشارة إليها في ثنايا الكتاب وليس في نهايته. .
3- يجب كتابة مقدمة جديدة تتضمن الإشارة إلى فكرة الكتاب الرئيسية .
4- الاستغناء أو التقليل، إلى حد كبير، من الإشارة إلى الأدبيات والاقتباسات وكذلك الرسوم البيانية أو الجداول إن وجدت .
5- عدم الإشارة إلى أن الكتاب كان في الأصل أطروحة، لا في المقدمة ولا في المتن، لأن ذلك سيكون سبباً كافيا للإعراض عن قراءة الكتاب .
6- ثمة أشياء تعرفها لجنة مناقشة الأطروحة، ولا يقوم الطالب بتوضيحها، في حين أن اغلب القراء يجهلونها لذا ينبغي شرحها لهم .
المقال مفيد جدا لمعرفة كيفية تحويل الرسالة العلمية إلى مقالات أو كتاب أو عدة كتب صالحة للنشر، ولكن ألا ترون سيادتكم أن الحاجة تبقى في الوطن العربي لنشر الرسائل العلمية في صورتها الأصلية، خصوصا أن شريحة كبيرة من القراء في مصر كمثال من الباحثين والأكاديميين، وصدور رسالة علمية بصورتها الأصلية تعني تمكن الباحث من حيازة نسخة كاملة من الرسالة، وذلك شيئ شبه مستحيل في مصر.
والدليل على ذلك اقبال دور النشر في مصر على نشر الرسائل العلمية المميزة !!
السلام،
هذا ما قلته للكثير منذ زمن وقبل أن أعرف أن الرجال كتبوا في هذا الموضوع،
وللأسف الكثير سخر مني وقال ما قال.
شكرا جزيلا على هذا الموضوع الحجة.
شكرا جزيلا جزاك الله خيرا استفدت من المقال ده جدا جدا