بقلم: د. أسامة عثمان (*)
ثمة فارق كبير بين التعليم التلقيني الاستظهاري الذي يجعل المتعلم مجرَّد مستودع للحفظ، يُحشى رأسه بمعلومات لا يعرف كيف يستخدمها ومتى وأين، وبين التعليم التفكيري الذي يجعل من المتعلِّم شريكاً للمعلّم في عملية التعلّم والتعليم، ويعزّز ثقته بنفسه ويجعله أقدر على استرجاع المعلومة وعلى استخدامها بجدوى وجدارة. هذا النمط التعليمي الذي يشحذ قدرة المتعلّم على التفكير هو ما تحتاجه أنظمتنا التعليمية في بلداننا العربية التي ما زال يغلب فيها طابع التعليم التقليدي.
لعل أكثر ما يعاني منه التعليمُ في البلدان العربية أنه يغلب عليه البعد المعلوماتي الاستظهاري، الذي قلَّما يُسهم في بلورة تفكير مستقل، أو يكرِّس لتفكير منتج. بل قد يؤدّي إلى نتائج عكسية، كما يقول ألبرت أينشتاين: ” لقد كان على المرء أن يحشو عقلَه بكل هذه المواد، سواء أكان يحبها أم لا، وكان لهذا الإجبار أثر بلَغَ من سوئه عليَّ أنني وجدت، عندما اجتزت الامتحان النهائي، أنَّ النظر في أية مشكلات علمية، أمرٌ بغيض لمدة عام كامل”.
يعرّف إدوارد لي ثورندايك (عالم نفس أميركي) التعلُّم بـ” أنه سلسلة من التغيّرات في سلوك الإنسان”، فالتعلُّم تعديلٌ للسلوك من خلال الخبرة. فهل يحصل التلاميذ والطلاب في وطننا العربي على خبرة أو يحصّلون المعارفَ من خلال الخبرة؟ وهل يعدّل التعليمُ سلوكَهم؟ أو يرقى بطريقة تفكيرهم وتعاملهم اليومي؟ وهل يعزّز التعليمُ من استجاباتهم للتكيّف مع المواقف المختلفة؟
لعل هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه التعليم، وهو الثمرة الجوهرية.” فالتعلُّم قد يكون تقدماً، أو تراجعاً، شأنه في ذلك شأن كثير من العمليات الأخرى” كما يقول عالم النفس السلوكي الأميركي أدوين جثري.
وغالباً ما تُنسى تلك المعلومات التي يُحشى بها الذهن، بمجرد اجتياز الاختبارات المدرسية، أو الجامعية. وهذه طبيعة التدريس القائم على حفظ المعلومة من دون وعيها وعياً حقيقياً، أو توظيفها في سياق كلّي يليق بها.
فأين الخلل؟ وهل من سبل للحدّ منه؟
يعاني التعليم في كثير من بلداننا العربية انخفاضاً عن المستوى المطلوب. وهذه المشكلة تتعلق بالتعليم بمعناه الأوَّلي، أي قبل التطلُّع إلى تعلُّم منتج وبنّاء، وقد يكون بينهما علاقة، إذ من المفترض أنْ يفضي إيمانُ المتعلِّم بجدوى ما يتعلّم، وموقعيته في حياته وانعكاسه العملي عليها، إلى اتخاذ التعليم وسيلةً للقوة وإحراز النتائج المادية المباشرة.
كما نجد الأطفال أو المراهقين أو الشباب الأتراب يتنافسون في امتلاك المواهب التي تقع في دائرة اهتمامهم بذكاء وفاعلية ملحوظة؛ فالطالب العربي لا ينقصه الذكاء، غالباً.
وإذا تبيَّن بعد هذا التناول للعملية التعليمية أن قسماً من الطلاب ظلّوا غير معنيين بالتعليم، أو لم ترتفع درجةُ إقبالهم عليه، فقد يُصار إلى التفكير في آليات أخرى للإفادة من هذه الطاقات بدلاً من حجزها في تعليم نمطي. فيمكن البحثُ في إمكان تفريع مبكِّر للفروع العلمية، بعد أن يلمَّ الطالب بالأساسيات المعرفية والعلمية والثقافية.
مع أن مناهج التعليم قد لا تكون مُبرَّأة من عيوب التعليم غير المنتج، وكذلك نظام التعليم بصفة عامة، من حيث الإلزام بقدر كبير من المعلومات التي قد تكون فائضة عن حاجة الطالب قبل أن يسلك فرعها التخصّصي، فإنه يمكننا المسارعة بالقول، إن للمعلم دوراً باقياً، حتى لو لم يتحقّق، على فَرَض، استيفاء تلك المطالب الضرورية في المناهج والنظم التعليمية، وتطوير التعليم ليكون هو أكثر فاعلية أو عملانية.
هذه الأهمية لدور المعلم تحظى باهتمام دولي ملحوظ، فقد دعت المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، (في الفعاليات التي جرت في 18 نيسان/ أبريل من العام المنصرم، واستهدفت إنعاش عمل جديد؛ لتحسين فرص الانتفاع بالتعليم وضمان جودته وتسريع وتيرة التقدم، نحو تحقيق أهداف العام 2015) من ضمن ما دعت، إلى تعزيز أنشطة إعداد المعلمين وتطويرهم المهني، بوصفهم الأكثر تأثيراً، والأقوى فعالية في ما يتعلق بتحقيق الإنصاف في التعليم والانتفاع به وضمان جودته.
فعلى مستوى الأساليب والطرائق، يستطيع المعلّم، توظيف أساليب أكثر فاعلية كالتعلّم النشط، مثلاً، الذي يُشرك الطلاب في الوصول إلى الفكرة، فيجعل المتعلمين أقدر على استرجاع معلوماتٍ من الذاكرة، ويعزز ثقتهم بذواتهم، ويصحّح مفهوم المتعلم عن مصدر المعلومة، وأنه ليس المعلم وحده، ولعل أهمّ مزايا هذا النوع من التعلّم، أنه يعلِّم مهارات التعلُّم والتفكير العليا، وهو الأكثر أهميةً من المحتوى المعرفي نفسه، فضلاً عن كونه يُكسب المتعلمين القدرةَ على العمل مع آخرين يختلفون عنهم. فقد كان دور المعلم عند فلاسفة الإغريق، كما يقول برتراند راسل في كتابه “حكمة الغرب”، هو ” التوجيه وتمكين التلميذ من إدراك الأمور بنفسه”. وهي الطريقة التي يُمارَس بها التعليم الأصيل.
أما على مستوى المضامين، فينبغي للمعلّم التركيز على ما هو حاسم وجوهري في الموقف التعليمي، أو في المعرفة المشروحة للمتعلمين. ولما كان التعلُّم (بحسب الدكتور مصطفى ناصف في كتابه “نظريات التعلُّم”) عمليةَ اكتشافٍ للبيئة وللذات، فإنَّ مظهره الحاسم هو المظهر المعرفي. والتعلّم يعني اكتشاف طبيعة الحقيقة أو معرفة ما هو حقيقي. والتعلم متعلقٌ بإدراك ما هو حاسم في أيّ موقف من المواقف. أو معرفة كيف تترابط الأشياء والتعرف إلى البنية الداخلية للشيء الذي على المرء أن يتعامل معه”.
ففي النحو والإعراب، مثلاً، يمكن التركيز على علاقة القواعد النحوية بأداء المعنى، وكيف تتغيّر العلاماتُ الإعرابية، تبعاً لاختلاف موقع الكلمة الذي يتغيّر بدوره وَفق الوظيفة الدلالية المنوطة بها في سياق الجملة والنصّ،غالباً. فالعلامة الإعرابية هي قرينةٌ من ضمن قرائن أخرى(وليست وحدها) لمساعدة المتلقي، أو المخاطَب على الاهتداء إلى المعاني. وهذا يُسهم في تخفُّف النحو من السمات الشكلية التي يصعب على المتعلّم غير المتخصص إدراكُها، فضلاً عن الانتفاع بها، في كلامه وكتاباته.
وحين يبدأ المتعلم في لمس فوائد عمليةٍ تعود عليه بالنفع، فإن متعته بالتعلّم تزداد، واستعداداته تتعزّز، وذلك وفق رؤية إدوارد. سي. تولمان (من علماء النفس الأميركيين)، الذي نظر إلى الكائنات كمخلوقات غَرَضيّة تحاول جاهدةً الوصولَ إلى تحقيق غايات معيّنة، وهي لا تتعلّم مجرد ارتباطات بين المثير والاستجابة، أو سلسلة من الانعكاسات فحسب، بل إنها تتعلم “ماذا يؤدّي إلى ماذا؟”.
وهذه الآلية: ” ماذا يؤدي إلى ماذا؟” تنطبق على النتائج العملية وآثار التعلُّم خارجياً، كما يمكن أن تنطبق على عملية التعلّم نفسها، حين يتبيّن المتعلم ويستبصر بنية الفكرة المطروحة، وعلاقاتها الداخلية، وكيف تتكوّن؟ وكيف تتشكّل لتنتج الشكل الكلّي؟ وما موقعيتها في سياقها الأكبر؟ فهذه عمليةٌ تفاعلية تبادلية، بحيث يُفضي فهمُ المضمون التعليمي واستبصارُه إلى نتائجَ عملية، ويؤدي الانتفاعُ بالمضمون في الحياة العملية، أو حتى في المهارات والقدرات الذهنية والتفكيرية، إلى مزيد من التعلّم والرغبة في الاستزادة منه: ووفق النظرية الجشطلتية، فإن انتقال التعلُّم هو القضية المركزية و”أحد الاختبارات الذي يوضح ما إذا كان التعلُّم قد تمَّ فعلاً، هو التحقق من أنَّ ما تمَّ تعلُّمُه يمكن تعميمُه على عمل آخر له علاقة بالعمل الأول، أو بعبارة أخرى ما إذا كان كلّ ما حدث هو مجرد حفظ أو ارتباط أعمى، فإن المتعلم يعجز عن التعرف إلى أوجه الشبه بين ما سبق له أن تعلّمه وموقف جديد قد يبدو مختلفاً ظاهرياً عن الموقف الأول، ولكنه يتطلّب الاستبصار ذاته الذي اعتمد عليه في الموقف التعليمي الأول(“نظريات التعلم”.
ووَفق هذه الآلية، فإن المتعلّم إذا حصَّل الفهمَ الحقيقي للمضمون التعليمي، وأصبح أكثر قدرةً على الإفادة منه في حياته، فإن هذا يعدُّ أكبر مكافأة له يمكن أن تحفزه على مزيد من التعلُّم؛ ومع أننا لا ننكر، أو ندعو، إلى إلغاء المكافآت الخارجة عن هذا النوع (العلمي) من مادية أو معنوية، فإننا لا ننتظر منها أن تحقق ذاتَ النتائج في الديمومة، وعمق الأثر، وفي انخراط المتعلّم في حقيقة الأهداف العلمية، وتمكينه من تذوُّق طعمِها الخاص.
وقد كان الهدف الأهمّ في المعاهد الأكاديمية التي وضع أسسَها أفلاطون [427-428 ق.م /347-348 ق.م] وظلَّت مستمرةً حتى 529م هو تدريب عقول الناس على أن تفكّر بنفسها، في ضوء العقل. وهذا يقتضي إكسابَ الطلبة مهاراتِ التفكير المستقل، وتجنيب التعليم الوقوعَ في هوة التلقين.
ويؤكد ابن خلدون على أهمية تحقيق المَلَكة والحِذق في العلوم، يقول:” وأيسرُ طرق هذه المَلَكة فَتقُ اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرّب شأنها، ويحصّل مراميها، فتجد طالبَ العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوناً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتُهم بالحفظ أكثر من الحاجة؛ فلا يحصلون على طائل من مَلَكة التصرف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل مَنْ يرى منهم أنه قد حصّل تجد مَلَكته قاصرةً في علمه، إنْ فاوض، أو ناظَر، أو علّم”. فالملكة لا تكون إلا بمحاورة الطالب للعالم أو المعلّم، وبخوض المتعلّم المناظرة، حينها يَمتحِنُ تلك المعارفَ والأفكار، ويحقق أيضاً انتقالَ تلك المعارف إلى مسائل مندرجة تحتها، ولا يظل متعلماً سلبياً ساكناً أثناء التعلّم، وقاصراً علمه عن توظيفه بالنطق والمفاوضة، والتعليم الحقيقي، حتى.
وفي هذا العصر الذي تتضاعفُ فيه أهميةُ المعرفة، وتعدُّ مؤشراً على تقدُّم الدول أو تأخرها، فإننا لا نطمح إلى فهم المعرفة فقط، بل نطمح إلى أن ندخل مجتمع المعرفة، ونغدو منتجين لها.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) باحث وكاتب من فلسطين- رام الله
كلام الصور
1- أفلاطون
2- ابن خلدون