بقلم: الباحث خالد غزال
منذ الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد في 1970 برعاية أميركية، واستولى بموجبه على السلطة، سلك النظام السوري طريقاً يقوم على ركيزتين: الأولى، بناء نظام ديكتاتوري في سورية أمكن بواسطة أجهزته الأمنية تشديد القبضة العسكرية، وإلغاء المعارضات القائمة سواء داخل حزب البعث أو من سائر المعارضات، والثانية، اعتبار أن قوة سورية دولة ونظاماً تتمثل في مدى الحاق قوى إقليمية بالنظام.
سعى الحاكم السوري إلى استخدام وسائل متنوعة في مد أذرعه إلى هذه الكيانات المجاورة، حاول قلب النظام العراقي عبر تنظيم انقلاب عسكري، لكنه أخفق وتسبب بمقتل العشرات من قيادات حزب البعث. كما حاول التدخل بالأردن وإيجاد موطئ قدم فيه ففشل أيضاً. وعمل المستحيل للهيمنة على القرار الفلسطيني، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وخلالها وبعدها، فنجح في صناعة منظمات تدور في فلكه وفشل في الهيمنة على القرار المركزي. لكن نجاحه اصطبغ بالدم الفلسطيني، خلال تنظيم الاقتتال الأهلي داخل المنظمات الفلسطينية. أما نجاحه الأكبر فكان في الساحة اللبنانية. اعتمد في الساحتين الفلسطينية واللبنانية على إدارة حروب أهلية داخلها، مستخدماً المنطق الاستعماري المعروف: «فرّق تسد».
تعيد الحرب الأهلية الدائرة في سورية اليوم الأذهان إلى الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات، والمسلك الذي اعتمده النظام السوري في التعاطي مع البلد. عندما نستعيد عوامل الحرب الأهلية اللبنانية، فلا شك أن لها أسبابها داخلية، سياسية واجتماعية، لكن هذه الحرب كان لها عواملها الخارجية المتمثلة أولاً بالوجود الفلسطيني، وبالأطماع السورية في الهيمنة على لبنان والحاقه بسورية. تدخلت سورية في لبنان تحت حجة الدفاع عن المقاومة الفلسطينية ومنع الحرب الأهلية، بالتوافق الأميركي الإسرائيلي، سواء في منتصف السبعينات أو بعد اتفاق الطائف عام 1989. الحجة واهية ولا أساس لصحتها، فالتدخل السوري كان هدفه مع بداية الحرب الأهلية تصفية المقاومة الفلسطينية ومعها سائر القوى الوطنية تنفيذاً لمخطط تصفية الصراع العربي الصهيوني، وأواخر الثمانينات تم «تلزيم» لبنان لسورية مكافأة لها على الانضواء في الخطة الأميركية والقتال تحت العلم الأميركي في حرب الكويت.
تتشابه سياسة النظام السوري في إدارته للحرب الأهلية السورية مع سياسته في إدارة الحرب اللبنانية. تقوم هذه السياسة على اللعب بالبنى المجتمعية، وهي بنى أساسها الطوائف والمذاهب والإثنيات، المتناقضة والمتصارعة في آن، والتي تحمل إرثاً من الحقد والاقتتال الأهلي يعود في جذوره إلى القرن التاسع عشر.
مارس النظام سياسة تأجيج التناقضات بين هذه المكونات، وجعل الخوف المتبادل بين بعضها البعض قانوناً للعلاقة، بحيث تضطر هذه المكونات إلى اللجوء إلى النظام السوري لحمايتها أو لتأمين مصالحها. لم يتوان عن تقسيم الطوائف والمذاهب وفرزها، كما لم يتأخر في تفتيت البنى الحزبية القائمة، حتى منها الأحزاب التي تدور في فلكه. تدخل في الصغيرة والكبيرة، وبات القرار اللبناني، من تشكيل الحكومة الى تعيين ناطور في قرية، يحتاج إلى موافقة الأجهزة السورية. هكذا تغلغل في البنى اللبنانية بحيث بات جزءاً لا يتجزأ من صراعاتها ونوازعها. لا يمكن تبرئة اللبنانيين من تسهيل هذه الهيمنة وتمكينها وجعلها الملجأ الذي تذهب اليه القوى السياسية اللبنانية لنيل حصصها وتأمين مصالحه.
لم يكن يدور في خلد النظام السوري أن اللعب بنار الحرب الأهلية في لبنان يمكن أن تكويه في سورية، بل إن الرئيس السوري كان جازماً قبل شهر من اندلاع الانتفاضة بأن سورية تختلف عن البلدان العربية، ويستحيل أن تقوم فيها انتفاضة، إلى أن فوجئ بالنار وقد اندلعت في موطنه. لا تختلف سورية عن لبنان لجهة تعدد مكوناتها البنيوية والصراعات الكامنة فيها، خصوصاً بعد مجازر حماة في الثمانينات. فما إن اندلعت التظاهرات وأخذت طابعاً شعبياً واسعاً حتى استفاق بشار الاسد الى المخاطر المقبلة عليه. استخدم أجهزة الأمن لقمع التظاهرات، فلم تنجح، عندها استعاد ذاكرته في كيفية حكمه للبنان، فعمد الى تفجير البنى الطائفية التي لم تكن تحتاج الى جهد لتنفجر، فألقى بفزاعة حماية الطوائف والأقليات، وهي حجة لم تصمد كثيراً. عندها لجأ النظام الى استدعاء الخارج الإرهابي.
إلى أين وصلت سورية بفضل سياسة النظام؟ إنها في معمعة حرب أهلية دمرت جيشها وشردت شعبها وفككت نسيجها الوطني، وأخضعت سورية لهيمنة خارجية اقليمية ودولية. أوجدت سياسة النظام حالاً من الكراهية والحقد بين مكونات الشعب السوري يصعب بعدها تصور إمكان الاندماج الوطني أو إيجاد لحمة تعايش بين السوريين. هذه الحروب الأهلية الدائرة في سورية، لا أحد يمكن توقع نهايتها، بعد أن اشتبكت العوامل الداخلية والخارجية. ما هو مؤكد ومضمون يتمثل في المزيد من الانهيار والدماء والفوضى الكيانية إلى مدى يقع في علم الغيب.