بقلم: د. كرم كرم
أهي مجرّد الصدفة؟ أم هم القيمون على هذا المعلم الأدبي، أم المكرمون أنفسهم؟ أن تكون هذه المرّة الرابعة أقف هنا للكلام عن أربعة محتفى بهم من الموحدين أهلنا بني معروف.
معالي الدكتور صلاح سلمان
منّا من يمر عابرا ً، نتذكره طيفا ً أو نعرفه صديقا ً أو قريبا ً. ومنّا من يترك بصمة تبقى عالقة في الفكر، دامغة في الأذهان. صلاح سلمان واحد منهم.
لم يرض أن يكون طبيبا ً فقط، وقد ترعرع في كنف الطبّ وذاق مشاربه. ولم يكتف بأن يعمل في الادارات الطبية في أهم صروحها في لبنان وأميريكا. بل تعدّاهما طموحه ليبلغ أعلى مراكز إدارة الدولة عندنا. وهو في كل ذلك، سواء كان أستاذا ً في كليات الطب، أو جرّاحا ً في مشافيها، أو وزيرا ً في حكومات مختلفة وفي حقائب متباعدة، هو في كل هذه الرجل نفسه: تصميم على بلوغ الهدف، عناد فيما يراه حقا ً واستقامة في الأداء لا تلحظ لوما ً ولا تأبه عتبا ً.
سأطوي بحثي في صلاح سلمان عن ثلاث فصول من عمله: الطبيب، السياسي و الكاتب.
صلاح سلمان الطبيب
من طالب متفوق إلى جرّاح متمكن وأستاذ متميّز. حافظ على نمط من صفات طبعت مسيرته. براعة في الإجراء، دقة في التشخيص وقدرة في العلاج. كان دأبه البحث عن جذور المرض. فما أرضته الحلول أنصافا ً ولا اعتبر دوره فيها إنصافا ً. لجوج في ملاحقة المعرفة وحريص على الإلمام بشواردها. يسأل بلهفة من يتوقع جوابا ً على تساؤلاته ، وكأنك تعرف ما هو جاهله. هو في الواقع يكتنز كثيرا ً من المعرفة وفيضا ً من الخبرات . لكن سؤاله يوميء أنك تغنيها.
عمل في الجامعة الأميركية ببيروت وترأس دائرة الأنف والأذن والحنجرة فيها. تتلمذ على يديه كثير من الاختصاصيين في هذا الحقل لأكثر من عقد ونيّف من الزمن. ولكنه ترك إلى الولايات المتحدة وجامعة هارفرد في أواخر الثمانينات.
كان هذا مفاجئا ً للكثيرين من زملائه. بلغ أعلى المراكز الأكاديمية وتبوأ أرفع المناصب الحكومية، ويترك! أعترف بأن اغترابه كان مفاجئاً درتلي، كما حداني على إعادة النظر في قراراتي وصوابية بقائي. لكنني وغيري بقينا. ربما لخوف من مجهول ينتظرنا على الضفة الأخرى من المحيط. وأتساءل: هل كان صلاح سعيدا ً حيثما حلَّ؟ هل أشبعت تلك البلاد رغباته وهل حققت آماله؟ أكان راضيا ً عن قراره وقنوعا ً بما آل إليه؟
كتابه عن “إحياء دور الطبيب في العناية بالمريض”، الصادر عام 2011، بعد تركه العمل في مستشفى ماساشوستس العام وإنتقاده لممارسة الطب كما خبرها هناك، يظهر كم هو عانى من عمله فيها، رغم الإسم الكبير والشهرة الواسعة. شعر أن دور الطبيب تهمش، من اهتمام بمريضه ورغبة في شفائه، إلى اهتمام برقمه. وكأن كل طارق بابه مشروع إدعاء ومعاقبة على تقصير أو إهمال مفترضين. وبعد أن إنتهى منغسل يديه من آثام الممارسات الطبية، دعا إلى ثورة على النظام الصحي القائم المتمحور حول الربح المادي، والإنتقال إلى نظام أكثر عدالة. نظام للطبيب فيه دور أفعل من الصناعات الدوائية ونهم الشركات، التي ترفع الكلفة الصحية إلى مستويات غير مسبوقة.
صلاح سلمان السياسي
شغفه بالسياسة كان منذ صغره. وقد ترعرع في بيت عرفها وبكنف والدة نشطت في العمل الإجتماعي والمجتمع المدني. فطالما سمعنا بالسيدة زهية سلمان وعرفنا أعمالها وتقديماتها. وما أن جاء العام 1972، وبعد شغور موقع وزير الصحة العامة حتى اختير لهذا المركز المتقدم. جاء إليه من خلفية أكاديمية، أستاذا ً في كلية الطب. وهو من أوائل من انتقلوا من العمل الأكاديمي إلى مراكز القرار في الدولة، شأن الدكتور نجيب أبو حيدر والدكتور عدنان مروه وتبعهم البعض.
السبب في هذا الإنتقال: شعور المسؤولين بالحاجة إلى غطاء علمي وخبرة متخصصة. أما أصل هذا الخيار فهو النجاح المهني والبروز الإجتماعي، الذي قرّب المختار من صاحب القرار أو المحيطين به. من واجهة الطب إلى واجهة السياسة. كانت الإقامة في الصحة قصيرة نسببيا ً، لكنها أدخلته إلى نادي الوزراء أو المرشحين الدائمين للوزارة عن طائفته. وهنا لا بدّ من القول أن صلاحا عمل في عدة مؤسسات تخص طائفة الدروز هنا وفي أميريكا. هذا ليس إنتقادا ً لاصطفاف اختاره، ولو من باب الخدمة الإنسانية أو الواجب الإجتماعي. بل لأشير إلى الانفصام الذي يعيشه أغلبنا بين علمانية نظرية وطائفية واقعية. يودّ الخروج منها ويتكلم في تخطيها، أمّا الواقع فيفرض التقيد بها. ولا يسعني هنا إلا أن أذكر أن البعض خرج عن هذه القاعدة المتبعة.
ثم كان عام 1976 حين فوجىء الجميع إلا هو ربما، بتعيينه وزيرا ً للداخلية. طبيب لامع ناجح ليدير شؤون الأمن! جندرمة وشرطة وأمن عام. خفراء ومخافر وسجون. ثم ميكانيك ونافعة (من منافع) وبلديات ونفايات. من اختاره لهذا المنصب عرف حتما ً صرامته وانضباطه والتزامه بالقوانين والأعراف. عرف تقيده بالنظام العام وقدرته على الحفاظ عليه في آن. ما نذكره من تلك الحقبة تبايناته المتكررة مع رئيس الجمهورية وفريقه الحاكم، من وزير الخارجية إلى مدير الأمن العام، وبعض مسؤولي الوزارة المحسوبين على الحكم. ظنوا أنهم بالإتيان به وزيرا ً ملكوه أو ملكوا موقفه وقراراته. ولم يدروا أن عناده وعزّة نفسه كانتا أقوى من ولاء لهم افترضوه.
كتب عن تلك الفترة “في حكومة لم تحكم”. وفاته أن من خبر الحكم مثله يقول: في حكومات لم تحكم. كان وزيرا ً في وزارة سيادية هامة أعطيت لطائفة أقلية. هذا كان قبل الطائف. (طائف، طوائف، طائفية. دلالة الاسم لها مغزاها) حينها الحاكم كان رئيس الجمهورية وبطانته من وزراء ومسؤولين ومستشارين. بعد الطائف أصبحت الوزارات المسماة سيادية، حكرا ً على الطوائف الأربع الكبرى، فوفرت على الصغرى همّ السيادة. أما الحاكم فأصبحت الحكومة مجتمعة. إسم على غير مسمّى. جسم برأسين، إن اتفقا، ولاتفاقهما سعره، حسب البورصة المتداولة اختصرا مجلس الوزراء وتاليا ً الحكم. وإن اختلفا طار المجلس وطار الحكم، لعدم وجود الحَكَم، وصيا ً عند البعض أو مندوبا ً ساميا ً عند البعض الآخر. مؤسسة مجلس الوزراء، كما أكتشفها صلاح وأمثاله هي مؤسسة وهمية يختصرها بضعة أشخاص، على أبعد تقدير، أكانوا في المجلس أو حضر فيه طيفهم. هؤلاء هم أمراء الطوائف، حكام البلد الحقيقيون.
صلاح سلمان الكاتب
أن ينشط صلاح إجتماعيا ً فلا غرابة. هذا دأبه. أمَّا أن يزيد نشاطه بعد تقاعده ويتعداه للكتابة فأمر ملفت. في هذه الحقبة أصدر كتابيه: الأول بالإنكليزية عن إحياء دور الطبيب والثاني باللغة الأم، في حكومة لم تحكم. يبقى منه لنا وللأجيال الطالعة مؤلفان في الطب والسياسة وضع فيهما عصارة خبرته ونتاج تجربته. في كليهما غلب طابع النقد للمتداول من ممارسة، سواء في السلطة هنا أفي المهنة الانسانية هنا وهناك؟ حيث ترك العمل الطبي عام 2009 وعاد إلى لبنان.
قال لي بعد عودته، “تصوّر أنه بعد عمل دؤوب لمدى عشرين عاما ً، ما بادلوني به هو بطاقتا معايدة في رأس السنة”. شعبنا مهما تألبت عليه الظروف وعانى من صعاب، يبقى أكثر وفاء وأشد إخلاصاً. يبقي للعلاقات الإنسانية حرارتها ويحفظ للود مكانه وللصداقة أواصرها. عاد صلاح إلى لبنان وعادت إهتماماته بشأنه وقضاياه. فتح فيكتابه عن حكومة لم تحكم نقاشا ً عن الحكم وفيه وعن معاناة الوزير الغير ملتزم إلا ّ بالقضايا العامة والغير منحاز إلا لقضايا الناس والوطن.
طالعني يوما ً عن مشروع للعمل مع الشباب في الجامعات، لتغيير واقع الحال والتقدم إلى الأفضل. وأنا مثقل بجروح الحروب الطائفية والإصطفافات المذهبية وخائب من كل ما آلت إليه أمور الوطن. شاهد على نهش ما تبقى من دولة ونهبها ويائس من صورة طلاب الجامعات يتحمسون لأحزاب مذهبية ضيقة، ينخرطون في صفوفها. أحزاب يتربع أمراء الطوائف على عروشها سعيدين مطمئنين، لانقياد أتباعهم وعصبياتهم العمياء. والمحزن الأكثر فيها طوابير الجامعيين إياهم. لا أحد أحسن من أحد: كلنا في الهم ّ شرق.
لن نناقش صلاح، بلباقته المعهودة، تدني معدل التسامح وتفشي ظاهرة العنف وإرتفاع سيمة التعصّب، فالسيماء على الوجوه أينما اشحنا نظرنا. لن نناقش معه هذا. ففيه تجهيل للفاعل وتبرئة لجيلنا من المسؤولية. لكن الحقيقة تبقى جارحة في تحديها، ميئسة في فجاجتها. ونتساءل: هل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
المؤلم في آن أن لا نحن العطارين ولا الإصلاح وارد.
نفوسنا تعبت في مرادها الأجسام.
ولكن لندع صلاحا ً يحاول.
********
(*) كلمة ألقيت في تكريم الدكتور صلاح سلمان ضمن المهرجالن اللبناني للكتاب (1-16 مارس) الذي تنظمه الحركة الثقافية- أنطلياس