بقلم: مازن القادري (*)
ينطوي التطوّر التكنولوجي على اتجاهين نقيضين: وعد بالفردوس المفقود، وتهديد بنار الجحيم والانقراض، حتى أن الأسئلة التي بات يطرحها فلاسفة اليوم: أي اتجاه سلكته وتسلكه حضارة البشر؟ هذه الحضارة الإنسانية التي يتغنى بها الجنس البشري، هل تسير في الاتجاه الصحيح؟ وما قيمة الحضارات الإنسانية التي تراكمت عبر تاريخ البشرية الطويل؟ هل تقتصر التنمية على الصعيد الاقتصادي وحده، على الجانب المادي من دون الجوانب الأخرى الروحية والعقلية والنفسية عند الإنسان؟ ما هي المغازي التي تنطوي عليها الأساطير القديمة؟ وهل تتضمّن إجابات يسعى بعض المفكرين إلى الكشف عنها؟
في الأسطورة الإغريقية، بروميثـيـوس وأخوه إبـيـمـيثـيـوس هما رمزان لنوعين في الجنس البشري: الغافل الجاهل (وهذا هو معنى اسمه بالإغريقية Epiméthée) الذي لا يدرك الأمر إلا بعد وقوعه، والعاقل المتبصّر (وهذا معنى Prométhée) الذي يعرف الأمور قبل وقوعها فيستدركها. ولما كان بروميثيوس محباً لأخيه ويريد أن يقيه مساوئ وقوعه في كوارث جهله فقد أراد أن يُعطيه القدرة على التبصر فسرق النار، وقدّمها له، بوصفها معرفة ودفئاً وضوءاً، متحمّلاً في سبيل ذلك غضب زيوس عليه، لأنه وقع في غفلة أين منها جهل إبيميثيوس، فهو لم يُدرِك مدى خطورة النار على بني البشر.
وبحسب الميثولوجيا الأوروبية، لوسيفير Lucifer الذي كان أمير جنة عدن، هو الذي يحمل النور إلى كل شيء، فهو جالب المعرفة بأكل التفاحة المحرّمة، وهو أيضاً مصطلح فلكي روماني يعني “نجم النهار”. وباللاتينية “لوسيفير” تعني “حامل الضوء” (lux أو lucis “نور وضوء”، و ferre “يحمل وينقل”). لكن هذا الملاك المخلوع لا يلبث أن يصبح أمير الظلمات، وذا سلطة مطلقة على نار الجحيم ـ وهنا يكمن التناقض، الذي يهمّنا ـ فتنزلق هذه الشخصية من حيّز “الخير” إلى حيّز “الشر”، لينزلق معها معنى النار وقيمتها التي كانت موضع تقديس وعبادة في أزمنة غابرة، وفي حضارات بائدة، وبخاصة في العالم الهندوروبي، حيث كانت لها قيمة إيجابية راقية، فهي الضوء والدفء وإنضاج الطعام.. ثم ما لبثت أن أصبحت مرذولة ذات قيمة سلبية في الديانات التوحيدية الثلاث.
قد يكون الفكر الميثولوجي القديم، بأبعاده المتعددة المعاني مُسعفاً ومعيناً لنا على التبصّر بالمشكلات التي يعاني منها البشر في عصر التكنولوجيا. والذين سأستعين بهم من المفكرين لم يُخطئوا عندما استعانوا ببعض الأساطير القديمة ليدحضوا بها أساطير معاصرة جعلتنا ضحية لها، وذلك على نحو ما فعل إيفان إيليتش Ivan Illich وغونثر أندرس Günther Anders اللذان استأثر بروميثيوس باهتمامهما في سياق اهتمامهما بعصرنا الحديث.
إذا صدّقنا التأويل القائل بأن نار الأمس تمثل عالم العلم والتكنولوجيا اليوم، وقد أُعطِيَت للبشر تعويضاً لهم عن ضعفهم، ما يُتيح لهم أن ينموا ويتطوّروا، فإن هذه الأُعطِيَة لم تكن كافية، وظلَّ زيوس خائفاً على الجنس البشري من الانقراض. فهذا الجنس يبقى بحاجة إلى العدالة والأخلاق والتأني، لضمان السيطرة على هوج النار وأجيجها، وهو أمرٌ لا يُتيحه إلا امتلاك المعرفة السياسية الضرورية لـ”إنشاء نظام المدن وخلق المدنية” و”علاقات الصداقة التي تجمع أبناء البشر”؛ فالتكنولوجيا ما زالت بعيدةً عن أن تكون دليلاً على جبروت الإنسان، لا بل إنها خلافاً لذلك، ما زالت دليل ضعفه وعجزه، فهي بالأحرى بمثابة عكّاز يُقاس مدى قوته بمقدار قوة ومدى العجز الذي تسعى التكنولوجيا إلى تعويضه وتغطيته. بطبيعة الحال، يمكن لأي كان الاعتراض بقوله إن عجز الإنسان أو ضعفه، أو هشاشة وجوده، هو بالضبط ما يصنع قوته ويجعله (بسبب عاهة الضعف والهشاشة) جباراً.
بيد أننا لو تتبَّعنا منطق الفيلسوف هايدغر لقادنا هذا المنطق إلى اعتبار أن المسألة تُطرَح حول معرفة ما إذا كانت هذه “القوة” ما زالت قوته، أم أنها افلتت من يده، وقد ترتد عليه، وتنقلب ضّده؟ وما إذا كانت التكنولوجيا التي هي متعلقة بعجز الإنسان وضعفه، والتي يُفتَرَض بها أن تكون قوته، ما زالت تعمل في خدمته؟ وما إذا كانت هذه القوة لم تنفصل بعد عن الإنسان، وباتت قائمة بذاتها، وتعمل بالاستقلال عنه، وعلى نحو أعمى، وقد تستعبده، وتسوقه أمامها كالغنم، وتجرّده من إنسانيته؟
المعرفة التقنية غير كافية، فهي وحدها لا تجنّب الإنسان الأخطار، بل يلزم المعرفة السياسية للحفاظ على هذا الجنس ودرء المخاطر عنه. وحلّ المشكلات التي تواجهنا اليوم لا يمكن إلا أن يكون سياسياً. والسياسة تقتضي صفات ومواصفات متوافرة في كل إنسان تقريباً (التواضع والحياء وضبط النفس وحسّ العدالة وحسن الخلق والمساواة). كان الإنسان يمتلك معرفة بتحصيل العيش وأساليب البقاء على قيد الحياة، من دون أن يمتلك معرفة سياسية؛ لذا ظلّ زيوس قًلِقاً على الجنس البشري من الانقراض، فبعث هرمس حاملاً إلى البشرية العدالة والتواضع من أجل “إنشاء نظام المدن وعلاقات الصداقة التي تجمع أبناء البشر”، بحسب ما يقول أفلاطون في حواريته “بروتاغوراس”.
يكثر الحديث اليوم عن “التنمية المستدامة”، من دون أن يغوص المحدّثون في المعنى العميق لكلمة تنمية؛ فمثلما يكون كل كلام لا يبوح من المعاني المبطنة التي يختزنها إلا ما يطفو منه على السطح، كذلك فإن التنمية لم تعد تعني إلا ما هو طافٍ منها على سطح المعنى، أي شيء من التقدم أو الازدهار الاقتصادي. بيد أن التنمية هي إخراج الدفين في الداخل وإطلاقه في الخارج، بعثه في الحياة، إخراجه من الظلمة إلى النور، أي هي إطلاق الطاقات الكامنة، أو الخوافي، بحسب تعبير الشاعر: التي يُعمَل على إظهارها وإحيائها، حتى لا تبقى كامنةً أي شبه ميتة، وإن كانت حية بالضرورة :
ربيته وهو فرخ لا نهوض له ولا شكير ولا ريـــش يواريه
حتى إذا ارتاش واشتدت قوادمه وقد رأى أنه آتت خوافيه
مـدَّ الـجـنـاحـيـن مداً ثم هزهما وطار عني فقلبي فيه ما فيه
فكرة التنمية إذاً قوامها إظهار الخوافي، وبالعودة إلى المقابل اللاتيني لعبارةdéveloppement (تنمية) لتفحّص معناها، نجد أن dé-veloppement (كشف الغطاء، ) هي نقيض en-veloppement التي تعني التغطية والستر والإخفاء. فعندما نتحدث عن تنمية، ما هو الخفي الذي يُراد بالتنمية إظهاره؟ هل هو الأمل؟ هل هو الحياة؟ هل هو الحرية؟ هل هو اقتصادي بالضرورة؟ تلك هي المسألة ذات الأولوية التي تتقدم على التنمية الاقتصادية “المستدامة”. وإذاً فإن فكرة التنمية، بموجب معناها وتعريفها، تُحيل أولاً إلى فكرة جعل ما هو كائن بالقوة كائناً بالفعل، إخراجه من الوجود المستور إلى الوجود المعلَن، من الظلمة إلى النور، وأن يتمدد في الزمان والمكان.. من هنا تقارب معنى التنمية والتطور اللذين تستضمنهما في اللاتينية عبارة واحدة développement، أي الانتقال من حال إلى حال أخرى كانت ماثلة بالضرورة وتمّ إخراجها بالفعل.
حين نتفحص التنمية نغوص في جوهر الحداثة ومستقبل المجتمعات البشرية. أين كنا؟ أين أصبحنا؟ وكيف؟ وماذا سيكون مستقبلنا؟ ماذا سيحدث؟ وماذا سيخرج إلى العالم، من هذا المستور الخبيء (بالتنمية) في العالم؟ ماذا سيخرج من الصندوق، صندوق باندورا، الذي يقترح علينا إيفان إيليتش في كتابه “مجتمع بلا مدرسة” (Une société sans école) أن نعود إلى تلك الأسطورة في فصل من الكتاب يحمل عنوان “عودة إبـيـمـيـثـيوس”. ولنتذكَّر التناقض، الذي أظهره نيتشه، بين أبولون وديونيسوس؛ وهو تناقض بين التدبير والتفريط.. فأبولون يمثّل الجمال والعقل والوضوح والتبصُّر.. في حين أن ديونيسوس يمثل التلقائية والارتجال والطبيعة والحياة.. فالإنسان الأبولوني العقلاني استطاع بواسطة العلوم والتكنولوجيا أن يؤطّر العالم ويقيّده، وهو يجسّد سيطرة العقل على الحياة. هذه الحياة التي تقاوم الخضوع للسيطرة، وتتميّز ببعدها المأسوي، مليئة بالآلام التي كانت محبوسة في “صندوق باندورا” (المرض، الهرم، العجز، الحرب، البؤس، الجوع، الجنون، الغش، الخداع، العيب، الشهوة، الانفعال.. وكذلك الرجاء والأمل والخلاص..)
يرى المربّي والفيلسوف إيفان إيليتش أنه يجب إعادة الاعتبار لـ”إبيميثيوس” في مواجهة “بروميثيوس”، كما يجب مؤازرة نيتشه في مواجهة أبولون”، هذا الإنسان ذو العقلية البروميثيوسية الذي أنشأ مؤسسات كان عليها أن تسجن الآلام المنفلتة. إن تاريخنا ـ كما يقول نيتشه ـ هو “تاريخ انحدار الأمل، وصعود التطلّعات المتعاظمة باستمرار. فالأمل éspoir بمعناه العميق هو الثقة بالحب وبطيبة الطبيعة، في حين أن التوقع أو التطلّع يعني الثقة بما ينتج عن المشروعات التي يخطط لها الإنسان وينفذها. فالأمل هو انتظار أن يُعطيك، أو أن يهِبَك أحدهم شيئاً ما، أن يقدّم لك هديةً من دون مقابل. أما التطلّعات أو التوقعات (ésperance) فهي، خلافاً لذلك، تجعلنا ننتظر إشباع رغبتنا بـ”بروتسيس” قابل للتوقع ومن شأنه أن يولّد ما لنا ملء الحق في طلبه والحصول عليه. الروحية (أو الخلقية) البروميثيوسية تخنق الأمل، وخلاص الجنس البشري متوقف على إعادة اكتشافه بوصفه قوة اجتماعية”.
ما يراه إيفان إيليتش، هو أننا نعلّق آمالاً كبيرة على التكنولوجيا، وعلى الدولة وعلى المؤسسات.. إلخ. ولقد وضعنا ثقتنا كلها في هذه البنى وآمنا بها حتى أننا فقدنا ثقتنا بأنفسنا وبالطبيعة وبالآخر.. وهو يدعونا إلى العودة إلى شيء أكثر تلقائية وعفوية.
********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) كاتب فرنسي من أصل لبناني