“الانتشار الماروني في العالم، واقع ومرتجى 1840 – 2010″… موسوعة معمقة بمواصفات أكاديمية(*)

بقلم: د. عبدالرؤوف سنو

الانتشار الماروني في العالم، للعميد الدكتور الصديق د. جوزيف لبكي هو كتاب ليس بعادي يطلع عليه القارئ ويمشي، بل هو موسوعة معمقة جرى abdelra2oufsennoإخراجها بمواصفات أكاديمية راقية، تؤرخ لتاريخ طائفة لبنانية أدت دوراً بارزاً في نشوء الكيان اللبناني، وفي أن تكون صلة الوصل بين الغرب والشرق ومدماكاً من مداميك الحضارة في منطقتنا العربية. ليس هذا فحسب، بل أن أبناء الكنيسة المارونية شكلوا شعلة حضارة لبنانية في بلاد الاغتراب.

 لقد أردف الدكتور لبكي عنوان كتابه بعنوان مكمّل هو “واقع ومرتجى”. وهذا “الواقع” هو في الحقيقة “الحضور الماروني” في العالم وتأثيره الحضاري في الثقافة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الإنسانية. لكن هذا الواقع يطرح الكثير من الإشكاليات: الهجرة التي كانت موقتة ولأسباب اقتصادية في معظم مراحلها تقريباً، تحولت إلى هجرة أدمغة وكفاءات؛ الانتشار على مساحة العالم الذي يقوي لبنان المقيم ويضعفه في آن؛ تناقص أعداد الموارنة في لبنان من جراء الهجرة في مقابل التجنيس في لبنان الوطن لمن لا يستحق الجنسية اللبنانية؛ وتبعثر الموارنة المغتربين في مختلف بقاع الأرض وتباعدهم الفكري والجغرافي واللغوي. أما “المرتجى” من الانتشار الماروني، فهو في كيفية ربط بعضهم ببعض في بلاد المهجر وبلبنان وطناً وكنيسة.

 وفي خضم هذه الإشكاليات نرى لبكي العالِم القدير مشغول البال قلقاً على لبنان المقيم من هذا النزف الوطني لكفاءاته، وعلى المغترب من الضياع في عوالم الاغتراب. فهو من جهة يقدر تماماً الأسباب والظروف التي تدفع الإنسان لأن ينتزع جسده وقلبه وروحه من أرض الأجداد وينتقل إلى وطن بديل حيث “المجهول له رهبته”، كما يقول. ومع أن لبكي يتفهم هذه الأسباب، إلا أنه يدق من جهة أخرى ناقوس الخطر من جراء ضياع الهوية واللغة الأم، ومن ارتفاع نسبة الهجرة اللبنانية والمارونية تحديداً، في وقت يتناقص فيه أعداد المسيحيين في لبنان، ما قد يؤدي إلى “موت لبنان”.

 يتألف الكتاب – الموسوعة القيمة المعمقة من ستة فصول، وتتبعها ملاحق من صور وخارطات وجداول ورسوم وبيانات وإحصاءات دقيقة شاملة، وقائمة مصادر ومراجع طويلة بالعربية والأجنبية تحتوي على وثائق غير منشورة، فضلاً عن التأليف المشترك والدوريات والصحف. أما المنهجية التي اتبعها المؤلف، فهي دراسة الانتشار الماروني في بلدان أميركا الشمالية، وأميركا الوسطى، وأميركا الجنوبية، وفي أوروبا وأوستراليا ونيوزيلنده، وآسيا وإفريقيا – كل على حدة. فيعطي لمحة جغرافية وتاريخية عن بلد الاغتراب، ومسائل اندماج الماروني في مجتمعه الجديد وإشكالياته. وعندما تتذبذب أعداد المهاجرين صعوداً أم هبوطاً، يوضح الأسباب. وهذه المنهجية الصارمة تنسحب على كل فصول الكتاب.

 وفي معالجته لأوضاع المغتربين الموارنة في العالم على حدة، يتطرق إلى اجتماعهم واندماجهم وجمعياتهم وكنائسهم وأسرهم وشخصياتهم البارزة، وما بنوه من صروح حضارية في مجالات العلوم والاقتصاد والصناعة والتجارة والإدارة والأعمال والطب والصحافة والسياسية، وما قدموه من فؤائد لبلدان المهجر وللبلد الأم، وكيف أنه تشبثوا بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم، التي بدأت تتراجع مع الجيل الثاني ثم أخذت تختفي مع الجيل الثالث الذي فقد الكثير من ارتباط بعاداته وبلغته.

 لقد خصص المؤلف الفصلين الأول والثاني لجغرافية لبنان وتاربخه وطوائفه ونظامه السياسي، وللحديث عن جذور الموارنة ومعتقدهم وكنيستهم وبطريركيتهم، وصولاً إلى هويتهم: “إنها ثابت تاريخي قيمي مشترك، ورابطة دينية لها خصوصيتها، ورابطة عاطفية يصعب زوالها في هذه المنطقة أو في أية بقعة في العالم …”، كما يقول المؤلف.

 وفي الفصل الثالث، يحدد الباحث لبكي خمس مراحل لهجرة الموارنة: ما قبل الحرب العالمية الأولى، وخلالها حتى الاستقلال، وما بين الاستقلال والعام 1975، ثم المرحلة الرابعة خلال حرب لبنان (1975-1990)، ثم أخيراً المرحلة من 1990 وحتى العام 2008. أما أسباب الهجرة في كل مراحلها، فتختلط الجغرافية والاقتصادية منها بالسياسية والطائفية والمجتمعية والأمنية، وفق أوضاع لبنان. ويرى أنها سلكت حتى مطلع الحرب العالمية الأولى طريق البحر إلى مصر والأميركيتين وأوستراليا، ويشبهها بالمغامرة المليئة بالصعوبات والأخطار والسمسرات والتكاليف الباهظة. ويربط ما بين تراجع الهجرة بين العامين 1943 و1975 وبين النمو الاقتصادي الجيد في لبنان؛ ثم عودتها إلى الارتفاع مجدداً بشكل كثيف خلال حرب لبنان، عازياً ذلك إلى أسباب اجتماعية واقتصادية وإلى الفلتان الميليشياوي وتراجع سلطة الدولة، فضلاً عن الاجتياحات الإسرائيلية للبنان، والاحتلال السوري وإفساده الحياتين العامة والسياسية ونهب البلاد. ويختم لبكي هذا الفصل بالحديث عن تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مروراً بالاعتصام في وسط بيروت لعام ونصف العام وصولاً إلى اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وكلها محطات مأساوية، زادت من منسوب الهجرة لدى اللبنانيين الموارنة وغيرهم.

 الفصل الرابع، هو زبدة العمل، ويتناول فيه العميد لبكي الانتشار الماروني في العالم، وهو انتشار له حضوره المميّز في آن، حيث ينقلنا لبكي إلى “عوالم” الاغتراب العديدة، ويرى أن الولايات المتحدة بغناها وبرخائها الاقتصادي وحاجتها إلى العمالة الأجنبية، شكلت منطقة جذب للبنانيين؛ فقصدوها على أساس هجرة قصيرة لجمع المال والعودة إلى لبنان. ثم ارتفع منسوب الهجرة عشية الحرب العالمية الأولى وفي خلالها وتحولت إلى دائمة. ويربط لبكي بين تذبذب أعداد المهاجرين الموارنة في المرحلة التالية وبين استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان تحت الانتداب الفرنسي؛ زيرى أن الهجرة بقيت في مستوى منخفض حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين. ثم عادت إلى الارتفاع منذ اندلاع حرب لبنان، ثم انخفضت بعد الحرب واتفاق الطائف، ثم عادت إلى الارتفاع منذ منتصف التسعينيات بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

 يتابع الدكتور لبكي بدقة متناهية وتفصيل ينمان عن مقدرته البحثية وباعه وصبره في تسليط الضوء على أوضاع الموارنة اللبنانيين وإنجازاتهم في بلدان الاغتراب، من أعدادهم وأوضاعهم الاجتماعية والثقافية وجمعياتهم وروابطهم ونواديهم وأدوارهم السياسية والمهنية، من دون أن يغض الطرف عن علاقاتهم بكنائسهم في المهجر، أو إبراز دور شخصيات مارونية لامعة، وهي موجودة بكثرة وفي حقول اختصاص شتى: تجار وصناعيون ورجال أعمال وملاكون، وأطباء وعلماء وقانونيون وإداريون وعسكريون، وأدباء وفنانون وأساتذة ورياضيون. ولا ينسى لبكي أن يفرد صفحات بيضاء للمرأة المارونية المهاجرة: الأم والزوجة المخلصة والعاملة والبائعة التي تحمل الكشة من بيت إلى بيت، والأديبة والصحافية التي تسهم في الاكتفاء الاقتصادي العام للأسرة المارونية، ورأس حربة في الدفاع عن حريتها ومساواتها بالرجل. إن قلق لبكي لا يقتصر على تناقص أعداد الموارنة في لبنان لصالح هجرة لا تحمل تذكرة عودة، بل على هوية لبنانية ولغة ضاعتا أو أضاعها الجيل الثالث من المغتربين.

 الفصلان الأخيران، الخامس والسادس، خُصصا لدراسة مشكلات الهجرة المارونية، مدنياً ودينياً، وما يراه المؤلف من حلول لها، وكذلك، فؤائد الانتشار الماروني ومضاره على لبنان الوطن وعلى لبنان المغترب.

 أخيراً، مؤلّف الدكتور لبكي عمل يستحق عليه الثناء والتقدير، وأتمنى أن يُقرأ من الجميع وتُؤخذ منه العبر، بأن لبنان لا يستطيع أن يعيش إلا بجناحيه المقيم والمغترب، وأن قدره أن يكون رسالة حضارية إلى العالم، ولكن في كثير من الأحيان على حساب لبنان الوطن

*******

(*) محاضرة ألقيت في الندوة حول كتاب جوزيف لبكي ” الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010″ ضمن المهرجان اللبناني للكتاب (1-16 مارس 2014)، في الحركة الثقافية-انطلياس. 

اترك رد