منيرة مصباح
الأزمة الخانقة التي يعيشها الانسان في هذه المرحلة من الزمن لم تأت كحدث ولد في لحظة ما، انما هي نتيجة حتمية لعدة عوامل كوَّنت تاريخ منطقة الشرق الاوسط خلال أكثر من مئة عام تقريبا، ومن يعرف هذا التاريخ على امتداد تلك المرحلة لن يفاجأ ولن يقف مذهولا أمام المجازر البشعة التي ترتكب الآن على الأرض الفلسطينية. ونظرة شاملة على الواقع تجعلنا نستنتج أهداف هذا التطْهير العرقي والإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لكل ما هو منتم لفلسطين وسط ضجيج الأفكار والمعتقدات الإقليمية والدينية.
ان صور الأطفال والأمهات والشيوخ تدفع الى تكريس أيديولوجيا الخوف، الذي فُرِضَ بفكر إحْلالي وإحْتلالي وصُوِّر على انه واقع أصيل ونتاج تاريخي قام على التوازن السياسي الخاص. كل ذلك من خلال عملية تزييف التاريخ والتعتيم على جوانب كثيرة مشرقة منه ظهرت وتظهر في كتابات العديد من الكتاب وفي اعمال الشعراء والفنانين الفلسطينيين وغيرهم.
ولن يكون الانسان المقاوم للاحتلال ذلك الثمل بالهَمّ، الساقط كورقة خريف ذابلة، يرى العالم الأخرس والأبكم والأطرش أمامه دون ان يعمل ويدافع عن أبسط حقوقه في الحرية والتحرر، ولن يتطلّع إلّا الى “بروميثيوس” الذي تجاوز صخرة “سيزيف” وامتلك سرّ الوجود في إضاءة العالم المظلم الذي قال فيه الفيلسوف اليوناني “أرسطو طاليس” يجب التحرر من الذين يفرضون القهر بالكلام.
ان الاعمال الأدبية والفنية بكافة تجلياتها واشكالها الواقعية والتجريدية واللغوية التي تدخل في نطاق الفرادة الابداعية في وجودها وامتدادها التاريخي والانساني، هي التي تجعلنا نؤكد على أهمية الثقافة التي ترتكز على متابعة كل الابعاد الزمنية للعمل الفكري النابع من احساس فني ومعاناة إنسانية حول ما يحصل حولنا. هذا الاحساس لا يدخل في نطاق العصرية او التقليدية، لانه ينفذ الى الحاضر ليبتعد بالتالي عنه، ثم ليعود اليه بحركة التفافية تواكبه بشكل مميز.
وفي أزمنة السقوط ليس من شيئ مغلق أمام أبواب الدهشة المتفتحة على قارة الخيال التي تكشف مولدات الواقع المعاصر المبني على اليقين المؤجل تجاه طغيان الأزمات الخاصة والعامة المتجددة في رؤيا الانسان. فالحياة في دورتها تختلف عبر تدفق التأملات والرؤى وتدافع الأفكار ليكتشف العقل والقلب كل يوم صورة العبث المهلك عند الذين يعيشون مرض العصر في “أيديولوجيا الخوف”. ان الخوف الممنهج مرض تحاول الألة العسكرية بثّه في عقول وقلوب كثير من الشعوب، والذي يتبناه كثير من المثقفين في العالم، في هذا العصر الذي أصبحت الصورة فيه مرافقة للخبر المنتشر بسرعة الهشيم في النار. ان شعراء فلسطين استطاعوا التغلب على هذه الأيديولوجيا وهم تحت سلطة الاحتلال أو خارجه، منهم فدوى طوقان، أسمى طوبا، توفيق زياد، محمود يرويش، سميح القاسم، سالم جبران، معين بسيسو، وغيرهم. أما الذين يعيشون في هذا الزمن أذكر منهم ومنهن، رفيف زيادة، روضة مرقص، إبتسام بركات، ثريا ملحس، الياس صنبر، أيمن اللبدي، وغيرهن وغيرهم كثيرون لا مجال لذكرهم الأن.
وهنا سأتناول الديوان الذي توفّر لقراءته “مانفستولا، أي بيان لا” للشاعر والكاتب أيمن اللّبدي الذي حمل همّه الفلسطيني القديم والمعاصر مع هموم عربية أخرى جديدة.
ففي القصيدة التي تحمل عنوان الديوان يقول الشاعر:
(على أسمائها الحسنى سلامٌ لا يبارى.. وفي ملكوت عِزَّتِها ..
وفي أنسام جنَّتها.. ورايةِ مَجْدِها.. أفدي قتيلا)
في هذه الابيات نستشف تداخل الرمز، الأرض الأم، التي تفتدي ابناءها من أجل عزّتها وكرامتها، من اجل حريتها واستقلالها. هنا ماذا نرى على حافة الكلمات في هذا الزمن الذي لا يحتمل سؤالا واحدا او كلمة، هذا الزمن الذي شبع من الكلمات، لا يقبلك الا مجردا من اصابعك وعينيك وحتى حبك لذاك الوطن!
ان الشاعر يوزع كلماته في كل بقاع الارض، ربما ليستجمع شتات ذلك الوطن النابت في كل مفصل من مفاصل الديوان، او المُشْرق من خلف هضاب الكلمات، والداخل الى ثنايا الروح المسافرة في بحر الشعر..
ان الوطن هو تلك الارض الدائمة في العطاء، الانثى المتمردة الرائعة، هي الفعل الذي منه تبدأ كل الافعال لتشكيل الواقع، انه تلك القصائدة التي تصرخ في وجه العتمة الحالكة.
واذا كان الكاتب والاديب”العراقي جمعة اللامي” قد قال بصوت المرأة في احدى قصصه (ان خلاص العالم يكمن في تغلبه على خوفه الدائم)، فان المرأة في قصائد أيمن اللبدي تصرخ.. تضحك.. تصمت، ليتحول صمتها الى دوي يهز الكيان، انها كل الأشياء في هذا الخارج من الجرح، المتشكل شعرا في نزيف هذا الوطن الى معبر مريم:
عَبرَتْ مريم،
قامَتْ، نهَضَتْ، صَرَخَتْ، وَثَبَتْ
بين سُفوحِ الصَمْتِ الأجْدَبْ
مثلَ الوَرْدَةِ هَبَّتْ مريم
منذ دقائقَ عَبرَتْ مريم
فوقَ صباحِ الثَلْجِ الواقِفِ بابَ الروح
أوسع من بابِ التاريخِ وأعظم من حُكْمِ المُعْجَمْ
عبَرَتْ مريم
نظرَ الجُرْحُ الى عَيْنَيْهِ، قاسَ الأرْضَ على قَدَمَيْهِ
فبكى دَهْرا ثم أفاقَ، ليس الباب ببطنِ الحوتِ، ولكن الجُرْحَ تَألَّمْ
ان اللبدي ليس أول الشعراء الفلسطينيين الذي يقول في شعره ما يجب ان يقال، وربما يقول الكلمة التي تَحَشْرَجَتْ في حناجر الكثيرين، حتى تحولت الى سكين ماض يجرح كيفما تحرك. وهو ليس الشاعر الأول الذي ثار على لغة الهزيمة، ثار على سلسلة الهزائم واشباه الانتصارات، لكنه اعطى الانتصار الحقيقي كل ما عنده، لذلك كانت قصيدته صفعة موجعة للغةِ الهزيمة.
واقفًا على طَللٍ.. ما تبَقَّى منه غير الذاهِباتِ.. واخْتِراعِ المُبْكِياتِ
وادِّعاءاتِ البَراءَة.. وانْتِفاخاتِ البطولة.. والأماني الرَتيبة.. والحُروفِ الخائنات.
في ضوء الوطن ينفتح جرح الشاعر، لينزف صوت الأمهات اللواتي اعتدن على الانتظار المرير، ذاك الوطن الذي يكبر بمقاومة أبنائه لا بخلافاتهم. عندها تحيا كل المعاني التي يمكن ان تؤلف صورة الوطن ذلك الذي يعيش في ذاكرة الشاعر حلما جميلا قابلا لأن يتحقق.
ان الشاعر يصرخ في ديوانه، حتى يهز الاعماق، لكن المأساة مستمرة ومنتشرة والصرخة تصارع الانسان. لذلك نراها قد شكلت هذا الشاعر كما عجنته قضيته الفلسطينية ومأساته العربية. ان المقاومة لا تغيب عنه ابدا، ولا تتوارى عن هذه الامة، انها ترتدي كل الوجوه، وجه القضية والوطن، وجه الحبيبة والارض في الوداع واللقاء، وجه القيامة والعدم، تبتسم تتوجع تتكلم وتصمت.
لا تفجِّر نفْسها حِبْرًا ثقيلاً،
وتَرْوي جوعَها في الأرْضِ عِشْقا، وسَيْفًا لم يُغادِرْها ولم يُصْبح عليلا،
وتُشْعلُ في مواقِدِها غدا أمسى لها ذكرى، اذا ما هانَ فارِسُها، ومَسَّ سِوارها ضَيْم
وسَلَّمَ زِنْدَها عارا.. ومات على سوى سور الكتاب، وأضحى دون عزَّتها ذليلا
في هذا الشعر نرى زمنا ما سيبدأ ، ونعلم اننا سنكون هناك في الحقيقي، قرب الحقيقي، الذي يحاول ان يعلن الحقيقة. هذا الزمن يعلن ما سوف يولد حيث نرى ما يجب ان نراه حين نقترب من الحافة، حافة الرمز التي تملؤنا بتاريخنا وتاريخ أوطاننا يقول:
الى الماضي الذي أخفى شُقوقًا يومَ خان، تنكَّرَ
الى ابن العلقمي العائد الوجه المحنط في الزيوت
الى طروادة الأخرى الجديدة
الى الزباء نجمةٌ.. على طريقةِ حاجبٍ في ذهنِ قيصر
الى كل الخطايا باسم كسرى واسم عنتر.
هكذا تحتل الارض العربية افكار الشاعر عبر التاريخ لتصبح فلسطين رمزا للماضي الحاضر والمستقبل.