سعيد غريّب
ماذا ستفعل المطابخ السياسيّة الدوليّة؟ بل ماذا تستطيع أن تفعل في حال تعطّلت الأقمار الصناعيّة أو توقّفت عن العمل لغير سبب؟ هل يعاود طبّاخوها القراءة وتصفّح الكتب، تمريناً لعقولهم وايقاظاً لفكرهم الغارق في سبات عميق؟
رداً على هذين السؤالين الافتراضيّين قد يأتيك الجواب، مسهباً في التقنيّات البديلة وتأثير التعاون الدولي، في مواجهة تحدّ عالمي بهذا الحجم، ومركّزاً على استحالة التعويض عن وظائف هذه الأقمار التقنية والحيوية بالأنشطة الفكرية.
إنّ هذه التساؤلات تعكس صراع العبور السريع بين عالمين متناقضين، في ظلّ اضمحلال قيم وتوجهات واهتمامات، يفتقد إليها معايشوها، الطامحون دوماً إلى عالم أجمل، يحمل ملامح ذلك الزمن الساعي إلى تعزيز قيم الانسانية، وتجلّيها استقراراً وازدهاراً وفكراً وأدباً وفناً. وبالنظر إلى واقع الحال اليوم، فإنّ الأكيد في الألفية الثالثة أنّ النقص في الفكر والأدب السياسي على مستوى العالم جعل الانحطاط يكبر وينتشر أفقياً. فالفكر والعلوم الانسانيّة في غيبوبة بدءاً من المدرسة والجامعة وصولاً إلى الاعلام والمؤسسات وسائر أنماط الحياة. وباتت لعبة المال والنفوذ وحدها اللاعب الاوّل والأخير، على مستوى الأفراد والدول، حيث أصبحت الكفاية لمن يحمل مالاً ويملك نفوذاً، وبات القرار بيد من لم يقرأ كتاباً في حياته.
أمّا في لبنان الذي كان منارة الشرق ومغناطيس الغرب، وموقع الخلطة السحرية التي مزجت الفلسفات والديانات والافكار والآداب وأعلت العلوم العلمية والانسانية، فتثبتت هويته المميزّة والخاصة، فيعاني من هذا العبور القسري ويتمسّك بهويّته، رغم التحلّل السائر بسرعة قياسية والفاتك بدولته ومؤسساته واعلامه. وفيما ينصبّ اهتمام الناس على يوميّات الجرائم و»التيك توك» وغيرها، وهم غير راغبين بصرف الأنظار عبرها عمّا يحاك للبلد، ويتطلّعون إلى سوق المرتكبين إلى العدالة، يسود الاستياء لما يمكن للاعلام الجديد أن ينحرف اليه ولمجاراة الاعلام التقليدي له.
ولعلّ في ما يمر على شاشاتنا انعكاساً واضحاً لهذا التدهور سواء في الأهداف أو المضمون العام أو الأداء حتّى انّه قد يحاكي خطورة ما تبثّه وسائل التواصل الاجتماعي. فالسعي إلى تحصيل المشاهدين ولفت الأنظار بأيّ ثمن وتقديم انتاجات ومقابلات خطيرة وتافهة معاً، يجريها الطارئون على المهنة، كفيلة بتحلّل ما تبقّى من قيم، حيث ينقلون إلى بيوتنا كلّ سموم المجتمعات الهابطة فيما يحاضرون في العفّة. ولا عجب أن تتوجه شريحة، قد لا ينقصها الشباب اليوم، بحنين، إلى انتاجات الماضي اللامعة من برامج وتمثيليات آنست الناس، وعززت تعلّقها بوطنها وأرضها ومجتمعها فتستعيد الحنكشيات وزوار المساء وندوة الثلثاء ووجه جان كلود بولس وغاستون شيخاني وعادل مالك وليلى رستم وكميل منسّى وايلي صليبي ورياض شرارة وفؤاد فرام البستاني ومي منسى وأبو ملحم وأبو سليم.
لا بدّ أن يعلم جيل اليوم أنّه، وقبل الأجساد المعروضة، كان هناك أدب وشعر وصحافيون حوّلوا المقاهي منابر، وقبل السياسيين الجدد كان الأخوان رحباني وزكي ناصيف ووليد غلمية وروميو لحود ومحمد شامل وشوشو يبنون لنا وطناً هادئاً وهانئاً. أمّا الأخطر اليوم في معظم شاشاتنا فهو تراجع الهويّة اللبنانية في الانتاجات والاداء. فلغتنا غائبة في الشارات والدراما والكتابات، وكلّ ما يقدّم مستورد فكراً وفعلاً ولهجة حتّى أنّ الطباخ والرياضي والمزارع والمذيعين يعتمدون لغة عربيّة ركيكة ممزوجة بكلمات باللغة الانكليزية، فيما تشتاق نشرات الأخبار للجمل المسبوكة والقواعد الصحيحة.
فليتذكّر جيل الآباء والأمّهات، ومنهم إلى أولادهم، بأنّ هذا الوطن لا يشبه في شيء ما كان عليه قبل نصف قرن، لا في هويته ولاجوهره ولا اعلامه، وأنّ الفساد لم يكن مستشرياً كما هو اليوم. وإن كان بعض الشاشات تحوّل إلى مؤسسات تجاريّة ناطقة لا تبغي سوى الربح والمنافسة غير المنضبطة فتسمّم العقول والأخلاق، فلا بدّ من القول، وبالاذن من الديموقراطية الزائفة، إنّ الكلمة النهائيّة يجب أن تكون لدولة نظيفة وديموقراطية صحيحة للبتّ في كل ما يتعلّق بالمنتج التلفزيوني، لأنّ الشركات الخاصة وإن حرصت على المصلحة العامّة، فانّها لا تخرج عن كونها شركات تمثّل مجموعات لها مصالح وميول خاصّة في بلد تنخره الطائفية والمذهبية ويأكله الفساد.
***
*نداء الوطنن 18-5-2024