بقلم: الدكتورة مهـى عزيزة سلطان (*)
فنان وناقد متمرس هكذا تعرفت إليه حين كنت في مقتبل العمر، قبل أن نرسم معاً الدرب الطويلة التي مشينا فيها سوياً كزوجين وصديقين متلازمين في قدرية الكتابة ثم زميلين في التعليم في معهد الفنون الجميلة- الجامعة اللبنانية. ولو لم يكن فيصل سلطان صديقي لسعيت لمصادقته، ليس لأنه مثقف مرهف الحس بل لأنه عميقٌ وحميم: هو شاعر على ما وصفه الراحل الكبير أنسي الحاج.
ولئن كانت المناسبة هي الاحتفاء بكتاباته المستعادة من ذاكرة فنون بيروت طوال سبعة عشر عاماً من إنتاجه النقدي في جريدة السفير، إلا إننا نستعيد معه ذلك الوجه المضيء لبيروت عاصمة الألم والحب والفن والإبداع، عاصمة الثقافة التي ظلت طوال الحرب بعيدة عن الانقسامات المذهبية والطائفية. تلك التجربة رسخت لدى فيصل قناعةً بأن أهلَ الثقافة هم عائلة واحدة غير متنازعة كما أوجدت في سلسلة أعماله الأخيرة مفهوماً صاغه في شعار: “أنا لا أومن بالسياسة أنا أؤمن بالثقافة”. فقد وجد فيصل انه طوال سنوات الحرب الأهلية كان كل شيء يتداعى في خرابه ما عدا الثقافة التي ظلت حية تعيش على صحوة فكرية مندفعة نحو السلام والحرية.
فيصل سلطان من خميرة مثقفي وفناني طرابلس- الفيحاء في عصرها الذهبي، نشأ منذ طفولته على حب الرسم والمطالعة وهواية الموسيقى، بدأت تظهر مواهبه حين انتسب الى دار المعلمين والمعلمات، التي وطدت علاقته بالفن والأدب والشعر والمسرح، كما ظهرت ميوله في الكتابة الأدبية المنبثقة من وحي الجبل المُلهَم لشارل القرم ومؤلفات بودلير وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وسواهم. وفي كنف مدينة العلم والعلماء مدينة التعايش والتسامح الديني في ذلك الزمن الجميل، كان الكتاب رفيقاً لفيصل في نزهاته الحلوة بين البساتين المنتشرة على حافة تلك المدينة التاريخية، وكان بيت العائلة على ربوة معلقة بين قلعة سان جيل الصليبية التي تشرف على المدينة المملوكية بأحيائها التراثية، وفضاء المدينة الحديثة ببيوتها ومساجدها وكنائسها المتعانقة في تواشج يغيم ويمتد حتى يبلغ زرقة البحر.
على تلك الربوة الطليقة بين الغيوم المحملة بالوعود وطيور المواسم وأناشيد الطبيعة أنشأ فيصل محترفه الأول وراح يطارد أحلامه اليافعة ويقطف حلاوة نتاجه الفني المبكر حين انتسب إلى معهد الفنون الجميلة في بيروت، دون أن يدري يوماً أن هذا النتاج الأول من الأعمال سوف يؤول إلى النار. فأثناء جولات المعارك تعرّض محترفه للاحتلال من قبل المسلحين الذين استخدموا تلك اللوحات لتغطية النوافذ المكسورة أو لحاجات التدفئة. قليلة هي الأعمال التي نجت من الهلاك، فسلمت منها بعض اللوحات الجدارية التي شكلت معرضه الأول في جمعية الفنانين للرسم والنحت عام 1974، كان موضوعها جلسات الذكر ورقص الدراويش التي وصفها الناقد جوزف طرّاب بأنها تعبّر في نشوتها الروحانية عن تقصيّات فكر مثمر.
أتاحت له سنوات الدراسة في معهد الفنون الاحتكاك مع كبار أساتذة الفن الذين أضحوا أصدقاءه المقربين ومعارضهم محط اهتمامه ومتابعته. إلا انه تتلمذ في النقد التشكيلي على نفسه، معتمداً على تشجيع بعض أعلام الثقافة والفكر العربي من أمثال الشاعر العراقي بلند الحيدري، الذي اعتبر أن الإلهام الشرقي في نتاج فيصل قد أضاف دينامية جديدة إلى تيار الحروفية، واكتشف ان لديه موهبة في الكتابة بمقدورها أن تمد الحركة التشكيلية في لبنان بدفق جديد من شأنه أن يتنافس ويتكامل مع من سبقه من الأساتذة من نقاد ذلك الزمن.
فيصل سلطان هو من حملة الدكتوراه في تاريخ الفن له العديد من المؤلفات بالعربية والأجنبية التي تناولت الحركة التشكيلية في لبنان على مدى مئة عام، ولكنه تميز كناقد تشكيلي أنشأ مفترقاً جديداً للكتابة النقدية قائمةً على الاحترافية والمخزون المعرفيّ الذي يمتلكه أساساً كفنان. فقد أخرج النقد من باب التأويل والانطباعات المسطحة والمحاباة أو المجافاة والمزاجية الحادة التي كانت تسود العلاقة بين الفنان والناقد، إلى نهجٍ من التحليل والتقييم للإنتاج الفني. كما أن فيصل سلطان شكّل جزءاً من إشكالية العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة، كونه من مؤسسي تجمع الفنانين العشرة في طرابلس الذي أنشئ في العام 1973. إلا أن تداعيات الحرب أخذت تفكك عناصر تلك الجدلية بامتدادها العربي الشاسع، لصالح استيعاب المآسي الإنسانية الآتية من مقتربات الواقع اللبناني المأزوم. لذا فقد عكست لوحات فيصل التي تعود للعام 1977، مناظر الخراب ودمار الأسواق وسقوط الضحايا في أول معرض نظمته جانين ربيز مع عارف الريّس في الصالة الزجاجية في الحمرا تحت عنوان: “لبنان 1978”. فكان أول معرض أيقظ الشعور بضرورة المواجهة بعد حرب السنتين.
منذ ذلك الحين لم تتوقف المعارض ولم تتوقف كتابات فيصل في جريدة السفير التي واكبت أهم النتاجات الثقافية التي شهدتها سنوات الحرب. فكان معظم العاملين في الشأن الثقافي ينتظرون الإحصاء السنوي والتقييم الذي يكتبه في نهاية كل عام. وكم كانت نتائج تلك الإحصاءات مدهشة وغزيرة وكم كان الجو الثقافي تنافسيّ وطليعي وعميق لكأن الثقافة كانت الوجه الحقيقي والعميق لبيروت وليس سواها كما يقدم فيصل لكتابه يقول: “استعيد في هذا الكتاب وجهين عايشتهما بعمق: وجه الصحافة الثقافية ووجه الفن في بيروت. الوجه الأول اكتسبت من خلاله سر التعرف الى وهج الحياة الفنية، والوجه الثاني ناضلت معه دفاعاً عن الصورة المشرقة لذاتيتنا الثقافية في أزمنة التصدي لجنون الحروب المفتوحة على أهوال المتاريس والدمار وفقدان الذاكرة. كانت الثقافة حينها رئة التنوع والانفتاح وسط تحديات العيش والإصرار على الإنتاج الفني ورفض الاستسلام”.
كتابات فيصل سلطان ليست سوى بصمات يده المشتعلة بالفكر، الآتية من زمن الحبر والورق والسهر في الليالي البيض في ارتقاب صدور الجريدة مع الخبز الساخن صباحاً، قبل أن نفيق على أحداث جديدة تلتحم فيها أخبار السياسة ومحاور القتال مع نشاطات المعارض في مفارقات غريبة. كانت مقالات فيصل تجمع متناقضات الأحداث وتخترق خطوط التماس بين البيروتين، في مسارها التصاعدي حين في ظلمة الحرب الحالكة لم يكن ثمة من نور سوى نور الكلمات. كانت الكتابة بمثابة حالٍ دفاعية لذا ظلت تعيش في إشراقات دائمة، وكانت الثقافة ملجأنا ومتراسنا ودليلنا إلى الأمن في وجه الشقاء. كنا نصدق نبلها وتعاليها على الأحزان وروحها المتمردة على الاستسلام وقدرتها على مقاومة الموت بالحياة. لذا تميز النتاج الثقافي خلال الحرب الأهلية بالأهمية والتفوق والتجاوز لمكونات المجتمع اللبناني وانقساماته السياسية، نحو قواسم ابداعية مشتركة حفاظاً على وهج بيروت الثقافي في وجه القنوط والانحدار.
من يقرأ كتابات فيصل سلطان على مدى تلك الأعوام، يجدها مليئة بنبض غريب، مثل أجنحة وأعماق وذاكرة على الماضي ومتابعة للحاضر بين المحلي والعربي والعالمي ناهيك عن الحوارات التي أجراها مع الفنانين في محترفاتهم والمقالات التي تناول فيها إطلالات الجيل الجديد المنبثق من أعماق جراح الحرب. وكانت جريدة السفير في تلك الحقبة “صوتَ الذين لا صوت لهم”، نداً ومرجلاً للأفكار وموئلاً لأهل الثقافة من أدباء وشعراء وفنانين ومسرحيين لبنانيين وعرب، كانوا يقصدون القسم الثقافي في الجريدة، التي كانت تضم وقتئذٍ نخبة من الأقلام في شتى الميادين، حيث تنعقد اللقاءات وتدور النقاشات وتُضرب المواعيد مع الزمن الآتي وتنبثق الأفكار التي تبدأ في السفير ومن ثم تنتقل إلى المقاهي المنتشرة في شارع الحمرا. كانت السفير منبراً حراً مفتوحاً على لبنان ودنيا العرب.
ثمة لحظات لا تمحى من ذاكرتي حين كنت أزامل فيصل في الصفحة الثقافية في السفير (بإدارة الكاتب الصديق إلياس الخوري) وكان القصف العشوائي قد أودى بحياة الشاعرة سامية توتنجي التي كانت من ابرز سيدات المجتمع والمعروفة بتنظيمها للمعارض الفنية في دارتها الكائنة في منطقة المتحف. إزاء هذه الصدمة كان لا بد لنا من نقل هذا الحدث على صفحات الجريدة ولم نجد بداً برغم القصف على منطقتي الحمرا والروشة من الذهاب الى صديقتها جانين ربيز للحصول على نسخة من ديوانها المفقود. واتذكر ان جانين ما إن رأتنا حتى اتهمتنا بالجنون ولكنها رتّبت لنا فيما بعد موعداً للمساهمة في معرض “بيروت طبعاً”. لم يكن يهمنا شيء كنا طوباويين مثل كل مثقفي ذلك الزمن العرفانيّ، مندفعين للعطاء بحثاً عن ذواتنا الضائعة وكانت الكتابة لنا نوعاً من الوجود وملاقاة الآخر. فقد مشينا في حقول ألغام وتنقلنا بين الحواجز والمتاريس وفقدنا أصدقاء وزملاء ومصورين صحافيين… تجاوزنا الكثير من المحن. كان بيننا وبين الموت شعرة الحياة. كان الموت يحاذينا يحوم حولنا ولكننا نجونا بمعجزة الخالق وإيماننا بالقدر.
لئن كانت كتابات مستعادة هي جزء من ذاكرة فيصل سلطان وذاكرة معارض بيروت على السواء، فمن يحمي ذاكرة الفن اللبناني من الضياع والتشتت في غياب متحف للفن الحديث، ومن ينقذ كتابات النقاد من الاندثار، لاسيما وان كبار نقادنا أمسوا يعيشون في عزلة. تلك الصرخة نطلقها ونحن في مرحلة الفوضى الكبرى التي تكتنف الفن المعاصر نعيش مرحلة تقهقر مهنة النقد التشكيلي والتسيب الحاصل، الذي أدى إلى استبدال النقاد بتجار الفن ومدراء المعارض الأجانب أو المحليين الذي أصبحوا باتوا يمسكون بزمام الأمور ويتحكمون بالسوق الفنية والمشاركات في المعارض العالمية واختيار أسماء الفنانين وانتقاء أسماء الجيل الشاب وفق اعتبارات غالباً ما تكون غاياتها تجارية، بما يؤدي الى غياب الذاكرة التشكيلية العائدة إلى مرحلة الحداثة وما بعدها. أليس غريباً أن يكون النقد مزدهراً في مرحلة الحرب، ويؤول إلى الذبول والتقهقر في الزمن الراهن؟ هنا مكمن الخطر.
******
(*) ناقدة تشكيلية وأستاذة في معهد الفنون الجميلة- الجامعة اللبنانية
(*) محاضرة ألقيت في الندوة حول كتاب الدكتور فيصل سلطان “كتابات مستعادة من ذاكرة فنون بيروت” ضمن المهرجان اللبناني للكتاب الذي نظمته الحركة الثقافية أنطلياس (1-16 مارس)، شارك فغيها الدكتور الياس ديب (رئيس جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت) وأدارتها الدكتورة نجاة الصليبي طويل