سعيد غريّب
لأنّ السياسة «ما إلها ربّ»، انقلبت المواقف والأوضاع في بلادنا رأساً على عقب، وصار ما لم يكن في بال، منذ ما يقارب خمسة عقود، وحتى اليوم. لا تلبس السياسة عندنا مفهوم الشأن العام الرسولي، بل تلعب على كل الحبال، فتنشئ التحالفات وتفكّها، وتدخل ظافرة في كل المواقع والمؤسسات والاستحقاقات، وتصل حتى إلى تقسيم أبناء العائلة والحي والبلدة. هي لعبة السلطة تشكّل ظاهرة السياسة اللبنانية التي لا مثيل لها في التاريخ الحديث، تمتد حتّى إلى الشأن المحلي والسلطات البلديّة.
وفيما الناس ما زالت تتعلّق بمن تظنّ أنّه يحميها وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام، يجدر التوقف عند ما نقل عن أحد الفلاسفة من نصيحة تقول «لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأنّ قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس، منذ القدم والبشر لا يعاقبون الّا من يقول الحقيقة، واذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها إنّ الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل».
بعيداً من الحق والحقيقة، يتقاتل زعماء لبنان على سلطة أفرغوها من معانيها ونقلوا وطن الرسالة إلى ساحة جهنّم فيتلاقون حول ما يشتركون به من المصالح وحسب. لم يعد المكان عندنا لمشروع الزعيم في لبنان، المكان دائماً للزعيم – المشروع، أمّا المشروع نفسه ففي انتقاء بعض الناس ووقوعها في أحضانه، تطيعه لتصل إلى مراتب يختارها هو لها، ففي لبنان لا بدّ من أن تكون أحداً ما، ألم يقل مكيافيللي عبارته الشهيرة: «من ليس له موقع في هذه الحياة لن يجد حتى كلباً ينبح عليه».
على مدى عقود كاملة، دفع اللبنانيون عموماً أثماناً باهظة لخياراتهم فسقطت دولتهم والمؤسسات لمصلحة السلاح غير الشرعي، ومصلحة الزعيم، ودولة الزعيم، ومؤسسات الزعيم، ايماناً بعدالته وحسن توجهاته وسلوكه. ألم يحن الوقت لكي ينهض اللبنانيون، كل اللبنانيين، ولا سيما من لا يزالون مؤمنين بأشباه أحزاب من كبوتهم، هم الذين ضاقوا ذرعاً بالمشاريع الوهمية والحروب الوهمية والبطولات الوهمية، ولاسترداد حقوق ضاعت أساساً على يد المطالبين باستردادها؟ هل نستحق بعد هذا كلّه قيادة حكيمة؟ أم المطلوب بأن نحصر طموحنا في البحث من جديد عن جلّاد مثقّف؟
إنّ الأحباط حالة يعيشها جميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، إنّهم محبطون من السياسيين لأنّهم لا يستطيعون بناء دولة، ومحبطون لأنّ القانون ليس واحداً على الجميع، ولأنّهم غير متساوين قيمة وحقوقاً وواجبات. من هنا يرى بعض من تبقّى من فكر لبناني أنّ اللامركزية يمكن أن تشكّل أولويّة مطلقة للتخلّص من الوضع المتردّي والمزمن للدولة. ولكنّ المنظّرين للامركزية فاتهم أنّ المسألة مرتبطة بالديموقراطية، وأنّ ممارستها تتطلّب وعياً وثقافة وسعة اطّلاع ما يعني حسن اختيار أعضاء المجالس وحكّامها.
لقد أثبتت تجربة الناس مع البلديّات أنّ خياراتها نادراً ما كانت موفّقة، فرؤساء عدد كبير من بلديات لبنان عاثوا فساداً في مناطقهم، يقطعون الأشجار ويقفلون طرقاً لتمرير مشاريع «انمائية» لأولادهم وأحفادهم، اقتلعوا الصخور وغيّروا مجاري الينابيع وغضّوا الطرف عن مبان سكنيّة مشوّهة ومعرّضة للسقوط، كما حدث في المنصورية وغير منطقة، ولم يبالوا بصرخات الناس لأنّ هؤلاء يصوّتون بفعل القانون البالي في مناطق أخرى. فما الذي يمكن أن يتغيّر في اجراء انتخابات بلديّة يلعب النوّاب ورقتها إجراءً أو تأجيلاً شأنها شأن الانتخابات النيابية الأخيرة؟
إنّها خيارات الناس، أتت بهؤلاء في صناديق الاقتراع، ولكن هل نيأس؟ بالطبع لا، فمن أجل أن تنجح اللامركزية في تشكيل وعي المواطن، علينا أن نفعّلها على أسس متينة لتصل إلى أبعد الحدود. وتستوجب ترميم الثقة بين المواطن وسلطات الدولة. فاللامركزية الفاعلة لا تنفي دور السلطة المركزية بل تستوجب التعامل معها، ولعل بداية ترميم الثقة يمكن أن تبدأ من السلطات المحلية. والأهمّ من ذلك كلّه، هل نحن قادرون على اعتبار اعادة النظر بالمركزية الصارمة للدولة مشروعاً جدّياً للمصير المشترك؟ أم أنّنا سنبقى ننظر إلى هذا المنحى على أنّه مشروع تقسيمي مهدد للوحدة اللبنانية؟
يبقى أنّ المسيحيين، الذين اخترعوا فكرة العروبة والقومية العربية والأحزاب العلمانيّة في المنطقة، تحاول قلّة من المفكّرين لديهم ايجاد صيغة جديدة لهذا البلد، الذي يعتبره البعض مجرّد فكرة لم تتحقّق، والبعض الآخر مجرّد مصيف وإقامة موقتة.
***
*نداء الوطن 26 نيسان 2024.