*
كَم كانَ يُطرِبُنِي أَنِينُ الرِّيحِ، في عُمرِي الصَّغِيرِ
كُنَّا رِفاقًا نَلتَقِي إِبَّانَ تُمعِنُ في الصَّرِيرِ
نَطوِي الرَّوابِي راكِضِينَ لِغَيرِ ما هَدَفٍ قَرِيرِ
ونَهِيمُ فَوقَ المُنحَنَى، فَتَرُوحُ تَعبَثُ في الصُّدُورِ
وتَبُثُّ في الأَوداءِ مُوسِيقَى الحَفِيفِ بِأَلفِ صُوْرِ(1)
كَالجِنِّ مَسعُورًا يُوَلوِلُ بَينَ أَلسِنَةِ السَّعِيرِ
ولقد كَبِرْتُ، وباتَ حُبِّيها يُعَشِّشُ في جُذُورِي
نَسَمًا يُدَغدِغُ وَجنَةَ الدُّنيا، ويَعبَقُ بِالعَبِيرِ
أَو صَرْصَرًا(2) تَغزُو الذُّرَى، هَوجاءَ، طاغِيَةَ المُرُورِ
إِنْ يُشْجِنِي نَحْبُ الرِّياحِ، وإِنْ يُخَدِّرْ لِي شُعُورِي
أَهواهُ حَتَّى باتَ لِي هَجْسًا، ولا أُخفِي حُبُورِي
أَهوَى النَّسائِمَ هادِئَاتِ الوَقْعِ، تَصفِرُ في السُّحُورِ
كَمَباخِرِ العِطْرِ الشَّهِيِّ، لُهاثُها ضَوْعُ البَخُورِ
ويَشُوقُنِي هَبُّ الأَعاصِيرِ العَواتِي في البُحُورِ
أُختاهُ… يا أُختًا لِشَمَّاءِ الجِبالِ ولِلنُّسُورِ
هَيَّا اضرِبِي، فَبِمَوطِنِي حَكَمَ الفَسادُ مَعَ الفُجُوْرِ
وتَسَلَّلِي حَتَّى زَوايا الدَّسِّ في حَرَمِ القُصُورِ
شُقِّي السِّتارَ، وحَطِّمِي صَنَمَ الرِّياءِ على الصُّخُورِ
وبِكُلِّ كُوخٍ مُنْزَوٍ، رُشِّي السَّلامَ مع العُطُورِ
هُبِّي، حَنانَكِ، وانشُرِي نَفَحاتِ بَرْدِكِ في حُرُورِي
يا تِرْبَ أَمداءٍ تَرامَت، يا مُعانِقَةَ الدُّهُورِ
ثُورِي، أُحِبُّكِ كُلَّما زادَ الهِياجُ بِكِ، فَثُورِي
كَم كانَ صَوتُكِ يَزرَعُ الوَثَباتِ في أَمرِي العَسِيرِ
ولَكَم رَأَيتُ بِعَصْفِكِ العاتِي نَذِيرًا بِالنُّشُورِ(3)
يَأتِي لِيَطوِينا، وقد ساقَ الحِسابَ مع النَّذِيرِ
أَتُراكِ مِن غَيْبٍ نَأَى خَلفَ الحَواضِرِ(4) والعُصُورِ؟!
شَمطاءَ جَعَّدَها الزَّمانُ، بَدَت تَنُوحُ على المَصِيرِ
تَبكِي على عَهْدِ الصِّبا، وتَهِيجُ كَالأَسَدِ الهَصُورِ
أَم أَنتِ رائِعَةُ الرُّوَا(5)، حَسناءُ مِن عُمرِ الزُّهُورِ؟!
كَالبَلسَمِ الشَّافِي لِجُرحِ القَلبِ مَلمَسُكِ الحَرِيرِي
في الصُّبْحِ بارِدَةُ الأَكُفِّ، وفي المَساءِ كَدِفْءِ حُوْرِ
يا رِيحُ هَبِّي، واعصِفِي، وعلى مَدارِ الأَرضِ دُورِي
فَأَنا نَظِيرُكِ هائِمٌ في الأَرضِ والفَلَواتُ دُورِي(6)!
***
(1): الصُّوْر: شَيءٌ كَالقَرْنِ يُنْفَخُ فِيه
(2): الصَّرصَر: صَوتُ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ البارِدَة / رِيحٌ صَرْصَر: شَدِيدَةُ البَردِ، أَو
شَدِيدَةُ الصَّوْت
(3): النُّشُور: بَعْثُ المَوتَى يَومَ القِيامَة
(4): حَواضِر: جَمْعُ حاضِرَة وهي العاصِمَةُ، أَو المَدِينَةُ الكَبِيرَة
(5): الرُّوَاء: حُسْنُ المَنظَرِ في البَهاءِ والجَمال
(6): دُوْر: جَمْعُ دار