سعيد غريّب
بعد يومين على حادثة عين الرمانة أي يوم 15 نيسان 1975 كتب الصحافي ميشال أبوجودة مقاله اليومي «من حقيبة النهار» تحت عنوان «حرب لبنان»، جاء بمنزلة نبوءة وأورد فيه المقطع الآتي: «فشل كيسنجر واغتيال الملك فيصل وأحداث لبنان والنزاعات العربية الجانبية بين مصر وسوريا وبين العراق وسوريا، كلّها تدخل في مسلسل خلط الاوراق، الذي سيستمرّ ويتصاعد ليؤدّي إمّا إلى جنيف، وإمّا إلى تحقيق أخطر هدفين: الأوّل انهاء المثال اللبناني الذي يضايق اسرائيل، والثاني إلهاء العرب عن اسرائيل بمعاركهم الداخلية». هل صحّت هذه النبوءة بعد تسع وأربعين سنة؟
المثال اللبناني أصابته تشوّهات كبيرة بلغت اليوم حدّ التحلّل. وإلهاء العرب عن اسرائيل بمعاركهم الداخلية تحقّق وتصاعد مع ما سمّي «الربيع العربي». تسع وأربعون سنة مضت وكأنّها تسعة وأربعون أسبوعاً، بل تسع وأربعون دقيقة. عمر بكامله مضى. أحبّة غادرونا، وكبار رحلوا، وأخذوا لبنان الذي نحبّ معهم، والمقصود هنا لبنان العلم والفكر والثقافة والسياسة والازدهار المضطرد. عمر بكامله أمضيناه مغلوبين بالوقت والتطوّرات المتدحرجة الينا، من كلّ حدب وصوب، فضلاً عن كلّ ما عرفه الانسان المعاصر من تغييرات أساسية، فرضها تطوّر التكنولوجيا ووسائل التواصل. عمر بكامله أمضيناه، بالساعات والشهور والسنين، نكافح بالأمل والبحث عن الضوء، من دون أن ندري أنّ أجمل ما وهبنا ايّاه الله، وهو الفرح، كالزئبق ينزلق من حياتنا. التهينا بالحرب وتداعياتها، وأزماتنا لا تزال تتفاقم كلّ يوم. اعتقدنا أنّها ختمت، واكتشفنا أنّها ختمت على زغل، لأنّها نتيجة تسوية غير مرضية. واذ أنّ التسوية بالمفهوم العلمي هي هدنة بين حربين، فإنّ الاتفاقات والحلول التي تختم على زغل هي تلك التي تتمّ هرباً من الاعتراف المتبادل بين الأطراف المباشرة.
يقول عارفون إنّ القضيّة اللبنانبة، بأبعادها المختلفة، هي على بساط البحث في الأروقة الفرنسيّة الضيّقة، في حضور ملائكة أميركا. وقد توصّل من كان في هذه الأروقة إلى قناعة بأنّ النظام الذي أخذ به لبنان منذ الاستقلال قد فشل فشلاً ذريعاً. فالأمور تقاس بنتائجها، ونتيجة التجربة، في ظلّ النظام الذي اعتمده لبنان، كانت في الواقع سلسلة من الأزمات المتعاقبة، منذ الاستقلال، بلغت ذروتها في الانفجار الكبير عام 1975، في حين لم تفلح محاولة لملمة الوضع اللبناني بعد العام 1990، لاعتبارات ترتبط بدور اللاعبين الخارجيين، من جهة، والثغرات الداخلية القائمة، من جهة ثانية.
ما المطلوب اليوم لمنع الانفجار الأكبر؟ المطلوب، وبالحاح، هو اسراع من تبقّى من مسؤولين إلى ايجاد حلول مجدية وسريعة لأزمة النزوح السوري، بمعزل عمّا يريده الغرب ورغبته بابقاء النازحين في لبنان، حتى لو غضب هذا الغرب. والمطلوب أيضاً التعاطي بحزم وحكمة، في آن، مع هذا الملف فلا يتحوّل إلى منزلق يوقع اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين، في أفخاخ تصادمية على الأرض مع النازحين السوريين. ليس لدى لبنان ما يخسره وربّما تكون فرصته الأخيرة للخروج التدريجي من أزمته. فليغضب الغرب ومنظماته، وإن كانت دوله لا تفهم الّا لغة القوّة والفرض. إنّ ملفّ لبنان يجب أن يعود فعلاً إلى يد اللبنانيين، فيأخذ الواقع الدولي بالاعتبار التطوّر اللبناني الجديد. ويسلّم بالأمر الواقع، فيسحب أجندته في الملفين السوري والفلسطيني.
ممّا لا شكّ فيه أنّ تقاطع الحديث، من قبل كثيرين، عن خطورة الأوضاع يعتبر مؤشّراً خطراً، يثبت حساسيّة المرحلة الراهنة وخطورتها، ولكن، هل هذه الأجواء غريبة عن لبنان الأمس واليوم؟ الحقّ يقال إنّ لبنان المستقلّ والمستقرّ أفضل لكلّ محيطه القريب والبعيد. وسيتأكّد هذا المحيط أنّ مصلحته أن يكون لبنان معافى، لأنّ لبنان المريض هو مشكلة ليس لهذا المحيط، فحسب بل للعالم كلّه. كذلك فإنّ صمود لبنان السياسي اليوم هو أفضل منقذ للبنان الغد. وإنّ قدر لبنان الحالي هو أن يكون له رئيس غير عادي لمرحلة غير عاديّة، أصبح فيها الخطر على المواطن والوطن شيئاً عادياً ويومياً.
***
*نداء الوطن 15-4-2024