تسع وأربعون سنة

 

   سعيد غريّب

 

كانت الساعة تشير إلى الثانية من بعد ظهر الأحد الواقع فيه 13 نيسان، عندما أرسل آمر فصيلة الدرك في فرن الشباك إلى القيادة العامة في قوى الأمن الداخلي البرقية الآتية: «إلحاقاً ببرقيتنا الرقم 2668 تاريخ اليوم، أقفلنا شارع مار مارون في عين الرمانة بدوريتين لمنع مرور عناصر فدائية، ولكن سيارة فيات فيها مسلحون مرّت عنوة ولم تمتثل، وما إن وصلت إلى منتصف الشارع المذكور حتى تبادلت اطلاق النار مع عناصر من المحلة.

وكانت النتيجة أن جرح فدائي وشخص آخر من الكتائب يدعى جوزف أبو عاصي ويشاع أنّه توفي. ويوجد اوتوبيس بداخله عدد من القتلى والجرحى لم نتمكّن من الوصول اليه بسبب اطلاق النار بغزارة – حالة الأمن مضطربة جداً ويمكن أن تجرّ إلى حوادث دامية – انّها تتضاعف تدريجياً وتتطلّب التدخّل السريع لتطويق الحادث على مستوى عال. سنفيد. التوقيع: النقيب عصام عبد الساتر». بهذا الايجاز البالغ، وصف صاحب البرقية حادث عين الرمانة الشهير الذي أصبح، في غضون ساعات، بمنزلة اعلان حرب ستنتهي ميدانيّاً بعد نيّف وخمس عشرة سنة، وستستمرّ بأشكال مختلفة إلى تاريخ لم يحدّده بعد لا القرار الدولي ولا الشعب اللبناني.

تسع وأربعون سنة مضت، ولم يعرف بعد لا الذين أطلقوا النار من سيارة الفيات، ولا الذين هاجموا «الباص» ولا الشرطي البلدي الذي أشار إلى سائق الباص بوجوب سلوك طريق عين الرمانة. ولمّا انتهت الحرب في لبنان وعليه في أواخر العام 1990، خفنا من السلام لانّ الحرب هي تحدّي الموت، فيما السلام هو تحدّي الحياة، ولأنّنا لم نكن جاهزين للسلام. بعد تسع وأربعين سنة، لم يعد لدينا وقت لنضيّعه، لقد ضاق الزمن، وكلّ لحظة فيه قياساً إلى ظروفنا تعادل عمر انسان. بعد تسع وأربعين سنة، لم يعد لبنان يشبهنا، ولم نعد نؤمن كثيراً بانّنا مقبلون على لبنان جديد «يطلع من التجربة» بعد تسع وأربعين سنة، بقيت المشكلة الكبرى لأنّ دماء الشهداء، كلّ الشهداء، بقيت ثمناً لحصص في الحكم والسلطة. بعد تسع وأربعين سنة، يستمرّ اللاعبون بأولادهم عملاً بالقول المأثور «مين خلّف ما مات». ولكنّ الحقّ يقال إنّ ما من شعب في العالم يستطيع أن يتحمّل تسعاً وأربعين ساعة، من تسع وأربعين سنة، أمضاها اللبنانيون الذين خسروا كلّ شيء، القيم والعلوم الانسانية وما أورثهم إياه الأجداد وأجداد الأجداد. والحقّ يقال أيضاً إنّ هذا الشعب المتعب لا يزال يعمل، بكلّ قواه، لاستعادة ما خسره بكلّ الوسائل الحضاريّة والديموقراطيّة. تسع وأربعون سنة مضت، وكأنّنا نحاول المستحيل، نحاول وعند كلّ نكسة نعود فنبدأ من الصفر.

وللحقيقة نقول أيضاً إنّ مأساة لبنان لا شبيه لها، فالنظام اللبناني أعطى الدليل تلو الدليل على عجزه عن أداء الدور الطبيعي الذي يؤديه عادة أيّ نظام ديموقراطي، أي دور صمّام الأمان، واستطاع أن يستدرج الخارج لمعظم مشاكله، وفي مقدّمها رئاسة الجمهوريّة لأنّه لم يستطع عبر السنين أن يتحوّل إلى وطن، ولأنّ شعبه لم يتوصّل إلى شفاء الذاكرة وتنقيتها من رواسب الحرب والأزمات المستعصية منذ انشاء دولة لبنان الكبير، قبل أكثر من مئة عام، في حين استدام اللاعبون بأولادهم وأحفادهم وأصهرتهم وأشقائهم، وفيما باتت الحريّة مجرد كلمة تتشدّق بها مؤسسات تجاريّة ناطقة بالكلام بعدما كان الاعلام اللبناني صناعة هي الأغلى في الشرق وربّما في العالم. ماذا ينتظر لبنان اليوم؟ كثيرون يعوّلون على صفقة على غرار ما حصل في العام 1990 وآخرون بدأوا يتوجّسون منها. ولا بدّ هنا أن تعود بنا الذاكرة إلى واقعتين عن السياسة الأميركية. في العام 1983 سأل الرئيس تقي الدين الصلح سفير الولايات المتّحدة الأميركية في لبنان: «هل أنتم في لبنان من أجل الاهتمام من أجل لبنان أو من أجل قضيّة أخرى؟» فابتسم السفير واكتفى بالقول: «لقد أعجبني السؤال». وتذكّر الرئيس الصلح عام 1958 عندما جاء الأسطول السادس الأميركي إلى بيروت وكان الظنّ أنّه جاء من أجل الاهتمام بلبنان، فتبيّن أنّ تاريخ وصوله وهو 16 تموز، كان بعد يومين على ثورة العراق يوم 14 تموز. وقبل أيّام من اندلاع ثورة 1958 قال الرئيس شمعون للصحافي ميشال ابو جودة «اشتغل مع الأميركان في كل شيء الّا في السياسة، يطلعون معك في المصعد إلى الطابق الثمانين ثم يكبسون الزر الأربعين وينزلون من المصعد، ويتركونك وحدك تصعد إلى الطابق الثمانين حيث لا أحد».

وفي هذا الظرف التاريخي نردّد سؤالاً طرحه رئيس وزراء فرنسا كوف دو مورفيل مع بداية حرب لبنان: «اذا ضاع لبنان فأيّ لبنان نضع مكانه؟».

***

*نداء الوطن 6-4-2024

اترك رد