“حَصادُ الشَّوك”… باتَ سَنابِلًا على الوَرَق!       

 

 

 

 (قِراءَةٌ في رِوايَةِ «حَصادُ الشَّوك» لِلعَمِيدِ الدُّكتُور إِمِيل مُنْذِر)

 

حِيَن نَذكُرُ حَربَ لُبنانَ المَشؤُومَةَ (1975 – 1990)، تَتَوالَى الغُصَصُ في حَناجِرِنا مع تَوالِي الصُّوَرِ السُّودِ مِن ذلكَ الزَّمَنِ الَّذِي ذَبَحَ فِينا حَلاوَةَ العُمرِ الرَّبِيعِ، والعَيشِ الهانِئِ، وأَسدَلَ على رُؤَانا الزُّهْرِ دِثارَهُ الحالِك. فَكَيفَ الأَمْرُ إِذا كانَ مَن يَعُودُ بِالفِكرِ إِلى تِلكَ الأَيَّامِ أَدِيبًا يَنضَحُ الإِحساسُ مِن رُوحِهِ، وهو ابْنُ الجَبَلِ المَكلُومِ الَّذِي عانَى مَرارَةَ القَتلِ والتَّهجِير…

يَقُولُ فرَنسوا مُورياك: «إِنَّ أَكبَرَ الحِكاياتِ وأَفضَلَها هِي الَّتي تَصدُرُ عَن القَلب».

والرِّوايَةُ الَّتِي نَحنُ بِصَدَدِها، استَلَّها صاحِبُها مِن أُوارِ الحَنايا، ومِن نَجِيعِ الجُرْحِ القَدِيمِ، الَّذِي ما زالَت نُدُوبُهُ تَنِزُّ في جَوارِحِهِ…

إِنَّهُ المُبدِعُ، اللُّغَوِيُّ الفَهَّامَةُ، العَمِيدُ المُتَقاعِدُ الدّكتُور إِمِيل مُنذِر، إِبْنُ الشُّوفِ الأَبِيِّ الَّذِي دَفَعَ الضَّرِيبَةَ الكُبرَى عُقْبَى أَخطاءِ مَن تَوَلَّوْا شُؤُونَ الأَنامِ فَقادُوهُم إِلى المَوتِ الزُّؤَام.

لَم يَكتُبْ صاحِبُنا مِن خَيالٍ، بَل مِن حَمْأَةِ الواقِعِ، وضَرَمِهِ المُستَعِر. وَ «لكِنَّ صَوتًا صاعِدًا مِن أَعماقِ نَفسِهِ ظَلَّ يَضِجُّ في لَيالِي سُهدِهِ، ويُلاحِقُهُ إِلى مَخدَعِ وَحدَتِهِ صارِخًا في أُذُنَيه: مَن لا يَلتَفِتُ إِلى الماضِي ويَنظُرُ إِلى أَخطائِهِ، لَن يَتَبَيَّنَ إِلى المُستَقبَلِ طَرِيقًا آمِنًا» (ص 5). وهُنا نَتَذَكَّرُ قَولَ الشَّاعِرِالدَّاغِستانِيِّ أَبُو طالِب: «إِذا أَطلَقتَ نِيرانَ مُسَدَّسِكَ على الماضِي، أَطلَقَ المُستَقبَلُ نِيرَانَ مَدَافِعِهِ عَلَيك».

تَعَرَّفتُ بِهِ مِن وَقتٍ قَصِيرٍ، فَقَدَّمَ إِلَيَّ رِوايَتَهُ «حَصادُ الشَّوك».

شَرَعتُ في قِراءَتِها، فَاستَعَدتُ بِها ماضِيًا أَلِيمًا، وشَطْرًا عَزِيزًا مِن شَبابِنا وَأَدَهُ سَعِيرُ تِلكَ الحَربِ، ولكِنَّهُ بَقِيَ نابِضًا تَحتَ رَمادِ الزَّمَنِ العَصِيبِ، نَضِنُّ بِذِكراهُ، ونَأمَلُ أَنْ لا نُجَرَّ ثانِيَةً إِلى تَجرِبَةٍ مَثِيلَة.

هي تَحكِي، بِصِدقٍ، نُتَفًا مِن عَهْدٍ كالِحٍ، بِقَلَمٍ مُرهَفٍ يَقطُرُ الأَسَى مِن مِدادِه. خَرَجَت إِلى النُّورِ بَعدَ أَكثَرَ مِن ثَلاثةِ عُقُودٍ على انتِهاءِ الحَربِ، على أَنَّ هذه الفَترَةَ الطَّوِيلَةَ عَجِزَت عن أَن تَمحُوَ مِن قَلبِ عَمِيدِنا لَهَبًا مِن نارِهِ المُوقَدَةِ، فَإِذا الكَلِماتُ تَحمِلُ الوَجَعَ كَأَنْ حَدِيثُ الوِلادَةِ، والنَّقْمَةَ الَّتِي نَمَت وما خَبَت. وقد يَكُونُ هذا مِنَ النِّعَمِ على القارِئِ الَّذِي حَظِيَ بِرِوايَةٍ تُمسِكُ الأَنفاسَ لِما فِيها مِن حَسْرَةٍ وظُلْمٍ وأَلَم. وصَدَقَ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين إِذ قال: «لَعَلَّ الجِرَاحَ تَخُوْنُ الجَرِيْحَ إِذْ تَنْدَمِل؛ فَمَتَى زَالَت لَسْعَةُ الأَلَم زَالَت لَسْعَةُ العِظَة»!

وهي سِيرَةُ قَومٍ كانُوا هانِئِينَ في جَبَلِهِم وقُراهُم، يَسكُبُونَ عَرَقَهُم في الأَرضِ فَتَهَبُهُم خَيراتِها سَخِيَّةً طَيِّبَة. ثُمَّ عَصَفَت بِهِم رِيحُ الحَربِ المَجنُونَةِ، حامِلَةً المَوتَ في أَجنِحَتِها، فَأَذاقَتهُمُ مَرارَةَ القَتلِ والتَّهجِيرِ، وشَرَّدَتهُمُ عَن مَرابِعِهِمِ الخُضْرِ، ومَدارِجِ أَحلامِهِم ورُؤَاهُم، ومَطارِحِ ذِكرَياتِهِمِ العِذاب.

تَقَمَّصَهُم أَدِيبُنا وِجدانِيًّا، فَاستَطاعَ قَلَمُهُ أَن يَرسُمَ عَذابَهُم، بِقَدْرِ ما رَسَمَ جَمالَ طَبِيعَتِهِم في قُراهُمُ الوادِعَةِ، والَّتِي أَخرَجَ أُنشُودَتَها مُثقَلَةً بِأَعذَبِ الرَّنِينِ، وأَدفَإ الأَلحان. وكانَ بارِعًا في تَطوِيعِ الكَلِماتِ، فَنَقَلَ زَقزَقَةَ العَصافِيرِ، وسَقسَقَةَ الغُدرانِ، ووَسوَسَةَ القَصَبِ على السَّواقِي، وحَفِيفَ الأَغصانِ، وعَبِيرَ الرَّوابِي، إِلى كَلِماتِهِ فَعِشناها مَواوِيلَ، وبُحَّاتِ ناي…

وكَم تَمَلَّكَنا غَضَبٌ شَدِيدٌ مِن ظُلمِ تِلكَ الأَيَّامِ ونَحنُ نَتَصَفَّحُها في مَوضِعٍ مِنَ الرِّوايَةِ، ثُمَّ استَأثَرَ بِنَا حُزنٌ شَدِيدٌ في زاوِيَةٍ أُخرَى، ثُمَّ غُصَّةٌ ودُمُوعٌ في مَكانٍ آخَرَ، ثُمَّ نَشوَةٌ ونَحنُ في حَضرَةِ طَبِيعَةِ الشُّوفِ الرَّائِعَةِ تَثَنَّت على قَلَمِ هذا المُبدِعِ كَمَلِيحَةٍ حَسناءَ، وكُلُّ هذا يُحسَبُ لَهُ إِذ استَطاعَ أَن يَزرَعَ في قَلبِنا هذه المَشاعِرَ المُختَلِفَةَ والمُتَناقِضَةَ أَحيانًا، وهذا يَدُلُّ على حُنكَتِهِ في نَقْلِ القارِئِ مِن عالَمِهِ الخاصِّ إِلَى عالَمِ القَصِّ بِطَواعِيَةٍ ورَغبَة.

***

 

هذه الرِّوايَةُ هي مِن النَّمَطِ الكلاسِيكِيّ. تُراعِي التَّسَلسُلَ الزَّمَنِيَّ الطَّبِيعِيَّ، وتَتَوَفَّرُ فِيها إِنشائِيَّةٌ ضافِيَةٌ، وأُسلُوبٌ رَفِيعٌ أَنِيقٌ، وبَعضُ الوَعْظِ والإِرشادِ، وتَدَخُّلُ الرَّاوِي أَحيانًا ما يُفسِدُ عَفَوِيَّةَ وتِلقائِيَّةَ الأَحاسِيسِ والسُّلُوك. وتَتَخَلَّلُها  وَقَفاتٌ يَنسَرِحُ فِيها فِكْرُ الرِّوائِيِّ في شَطَحاتٍ تَأَمُّلِيَّةٍ يَتَقَبَّلُها بَعْضٌ، ويَرفُضُها أَنصارُ القَصِّ الجَدِيد. ونَتَمَثَّلُ على رَأيِنا هذا بِالحِوارِ الَّذِي جَرَى بَينَ الحَياةِ والمَوت (ص 49).

ولا يَخفَىإِقحامُ نَفْسِهِ فِي السَّرْدِ، ساعِيًا إِلى بَثِّ أَفكارِهِ، حَتَّى بِلِسانِهِ هو، فَإِذا السَّرْدُ الوَعْظِيُّ الَّذِي كان سائِدًا في النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ القَرنِ العِشرِينَ، يَحتَلُّ حَيِّزًا في العَمَلِ الَّذِي نَتَناوَلُهُ هُنا، ونَتَمَثَّلُ بِمُطالَعَةِ الكاتِبِ عَنِ الأُمِّ (ص 50)، وعَن بَيرُوت (ص 59)، وَ (ص ص 165، 245).

وهذا التَّدَخُّلُ أَساءَ إِلى عَمَلِهِ (ص 144)، وأَضَرَّ بِعَفَوِيَّةِ واستِقلالِيَّةِ ومَنطِقِيَّةِ الجَوِّ النَّفسِيِّ المُتَوَلِّدِ مِن تَضارُبِ آراءِ ومَواقِفِ الشُّخُوص. في المَفهُومِ الحَدِيثِ لِلقَصِّ يُعتَبَرُ عالَةً على النَّصِّ، ومَفسَدَةً له. أَمَّا في مِيزانِ القَصِّ الكلاسِيكِيِّ، فهو مِنَ المُقَوِّماتِ المُعتَبَرَةِ، ولا يُؤْخَذُ كَهَفوَةٍ أَو كَبْوَة.

هذه الرِّوايَةُ، في المُصَنَّفاتِ التَّقلِيدِيَّةِ هي عَمَلٌ ناجِحٌ بِمُقَوِّماتِهِ، مِن أُسلُوبٍ راقٍ أَنِيقٍ، ذُو رَونَقٍ عالٍ، وجَرْسٍ لَطِيفٍ، وخَيالٍ رَقِيقٍ، واستِعاراتٍ بَهِيَّةٍ، وعَوْنٍ لِمَن يُرِيدُ بَيانًا صُراحًالا يَشكُو تَخَلخُلًا، وبَلاغَةً ثَرَّة. إِلَى لُغَةٍ سَلِيمَةٍ إِنشائِيَّةِ الحَبْكَةِ، وعِبَرٍ قَيِّمَةٍ استَلَّها الكاتِبُ مِن أَخطاءِ زَمَنٍ أَسوَدَ جَلَّلَ الوَطَنَ وشَكَّ الجَبَلَ بِحِرابِهِ السَّامَّةِ، فَإِذا هي ذُخْرٌ نَفِيسٌ لِلأَجيالِ عَساها تَستَقِي مِنها ما يَقِيها العَثَراتِ الكِبارَ في قابِل. وعَسَى أَن لا يَصِحَّ فِيها قَوْلُالإِمَامِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِب: «أَلَا ما أَكثَرَ العِبَرَ، وما أَقَلَّ الاعتِبار»…

في القَصِّ الحَدِيثِ تَكُونُ التَّعابِيرُ، والإِنشاءُ، ونَسْجُ الفِقَرِ، أَسلاكًا لِحَزمِ الحَوادِثِ في دِيباجَةٍ مُتَرابِطَةٍ تَنسابُ في مَسامِّها الوَقائِعُ، وُصُولًا إِلَى البُؤْرَةِ المَرسُومَةِ، فَالنِّهايَةِ المَنشُودَة.

عِندَ صاحِبِنا قد تَنعَكِسُ الآيَةُ أَحيانًا، فَإِذا مَجرَياتُ الأُمُورِ في الحَلْبَةِ تَمهِيدٌ لِلدُّخُولِ في عُرُوضٍ تَحمِلُ آراءَ الرَّاوِي، وتُسَجِّلُ مَواقِفَه. إِنَّها تِقْنِيَّةُ القَصِّ القَدِيمِ، شَهِدناها عِندَ جُبران خَلِيل جُبران، وكَرَم مِلحِم كَرَم، ومِيخائِيل نُعَيمَة، ومُحَمَّد حُسَين هَيكَل، وغَيرِهِم.

ومِمَّا يُلحَظُ تَوَسُّلُ الكاتِبِ إِلى القارِئِ بِمِيلُودرامِيَّةٍ تَستَدِرُّ الدُّمُوعَ وتُثِيرُ الأَسَى. وهذا أَيضًا مِن عَتادِ القَصِّ الكلاسِيكِيِّ الَّذِي تَنَكَّبَ عَلَيهِ صاحِبُنا. ولكِنَّ جُرعَتَها زادَت أَحيانًا عَمَّا يَحتَمِلُهُ جَسَدُ الرِّوايَةِ اللَّيِّنُ الرَّقِيقُ، وهي، إِذ تُبكِي قُرَّاءً، تَفتَحُ عُيُونَ النَّقَدَةِ المُتَزَمِّتِينَ الَّذِينَ لا يَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَن زَلَّةٍ، ولَو صَغُرَت.

إِلى ذلكَ فَإِنَّهُ اصطَنَعَ، أَحيانًا، مَواقِفَ وأَحداثًا، لِخِدمَةِ رِسالَةٍ أَرادَ تَوجِيهَها. مَثَلًا ما حَصَلَ لِلأَخَوَينِ ناجِي ومَنصُور مراد ( ص 190 وما يَلِيها)، لِيَقُولَ إِنَّ صِراعَ الكِبارِ يَمتَدُّ إِلى داخِلِ العائِلاتِ فَيَتَسَبَّبُ بِالمَوتِ والخَراب. حِينِ أَنَّ المُسَلَّمَ بِهِ أَنَّ اللَّاغَائِيَّةَ شَرطٌ رَئِيسٌ لِنَجاحِ القَصّ.

***

 

مِنَ الحِواراتِ الَّتِي جَرَت على أَلسُنِ شَخصِيَّاتٍ غَيرِ عامَّةٍ مَعرُوفَةٍ مِنَ النَّاسِ، نَستَشِفُّ وُقُوفَ الكاتِبِ في نُقطَةٍ وَسَطٍ بَينَ أَجنِحَةِ السِّياسَةِ الَّتِي حَكَمَت لُبنانَ في تِلكَ الفَترَةِ السَّوداء. وهو أَعلَنَ في المُقَدِّمَة: «إِنطلاقًا مِن قَناعَتِي في أَنَّ الجَمِيعَ مُذنِبُونَ وكُلُّهُم شُرَكاءٌ في “الجَرِيمَةِ” بِالتَّكافُلِ والتَّضامُنِ، فقد نَأَيتُ بِنَفسِي في الرِّوايَةِ عن لَعِبِ دَوْرِ الحَكَمِ الَّذِي يَدِينُ هذا ويُبَرِّئُ ذاك» (ص 7). لَقَد بَرَّ بِوَعدِهِ، فَأَسبَغَ الاحتِرامَ على مَقُولِهِ، وباتَ جَدِيرًا بِثِقَةِ قُرَّائِهِ على نَزَعاتِهِم المُختَلِفَة.

ومِن أَفضالِهِ أَنَّهُ ثَبَّتَ، في الحَواشِي، الوَقائِعَ التَّارِيخِيَّةَ المَيدانِيَّةَ، مَنقُولَةً عن مَظانِّها، ما يُساعِدُ القارِئَ الَّذِي ما عاصَرَها أَن يَفهَمَ السِّياقَ خِلْوًا مِن كُلِّ إِبهام.

مُكنَتُهُ في إِعطاءِ صُورَةٍ صادِقَةٍ عَنِ المَآسِي الَّتِي حَلًّت بِقَومِهِ وتَهجِيرِهِم مِن دِيارِهِم في حَربِ الجَبَلِ في ثَمانِينِيَّاتِ القَرنِ العِشرِينَ، تَدعُو إِلَى الإِعجابِ، لَكَأَنَّ قَلَمَهُ آلَةُ تَصوِيرٍ لا تَفُوتُها دَقائِقُ الأُمُورِ، ولَها حَساسِيَّةُ إِضفاءِ المَشاعِرِ على الصُّوَرِ الباهِتَةِ، فَإِذا المَشاهِدُ لَوحاتٌ فَنِّيَّةٌ يَبرُزُ فِيها الأَسَى، والدَّمْعُ، والدَّمُ، ونَكَدُ المَصِير. ونَتَمَثَّلُ بِالصَّفحَةِ 98 وتالِياتِها، فَفِي اقتِباسِها تَهشِيمٌ لِوَحدَتِها وجَمالِها.

وهُنا يَجدُرُ القَولُ إِنَّ الرِّوايَةَ نَجَحَت تَحتَ مِجْهَرِ الأَدِيبِ مارُون عَبُّود القائِل: «القَصَصِيُّ كَالمُصَوِّرِ، فَبِقَدرِ ما تَكُونُ المَلامِحُ ناتِئَةً، وَالأَلوانُ مُنسَجِمَةً، تَكُونُ القِصَّةُ ناضِجَةً، فَإِذا لَم نُعْنَ في إِبرازِ مَلامِحِ شُخُوصِ قِصَّتِنا فَلا تَدُبُّ الحَياةُ فِيها»(1).

لَم يَكُنْ صاحِبُنا مُؤَرِّخًا، ولكِنَّهُ التَزَمَ الحِيادِيَّةَ، وما عَبَثَ بِالوَقائِعِ خِدمَةً لِغَرَضٍ سِياسِيٍّ شَخصِيّ. ونَحنُ نُكبِرُ تَنَحِّيهِ عَن الفُرَقاءِ كافَّةً، وضَبْطَ قَلَمِهِ، ولَجْمَ انفِعالاتِهِ، لاسِيَّما أَنَّهُ مِن قَريَةٍ اكتَوَت بِالنَّارِ المُستَعِرَةِ، وعانَت ما عانَت في ظِلِّ أُناسٍ مُتَعَطِّشِينَ لِلقَتلِ والانتِقام. هُناكَ، «حَيثُ تَزُوغُ الأَبصارُ، وتَبلُغُ القُلُوبُ الحَناجِر»(2)، «في تِلكَ القُرَى الَّتِي زَنَّرَها السَّوادُ وسَكَنَتها الوَحشَةُ، وفي البُيُوتِ الَّتِي خَفَرَ المَوتُ أَبوابَها، كانَ على الوَلَدِ المُختَبِئِ تَحتَ السَّرِيرِ أَن يَسمَعَ صُراخَ أُختِهِ ويَراها تُجَرُّ مِن شَعرِها وتُذبَحُ على قَيْدِ خُطوَةٍ مِنهُ ولا يَصرُخ. وكانَ على الأُمِّ أَن تَجْثُوَ على رُكبَتَيها، وتُقَبِّلَ قَدَمَي المُسَلَّحِ، وتَرجُوَهُ أَن يُبقِيَ على حَياةِ طِفلِها، لكِنَّهُ كانَ يَقتُلُهُ أَمامَ عَينَيها صارِخًا: كلاب» (ص 99). ذلِكَ أَنَّ الأَوامِرَ والتَّعلِيماتِ كانَت بَربَرِيَّةَ الرُّوح: «لا رَحمَة. لا أَسرَى. كُلُّ حَيٍّ يَجِبُ أَن يَمُوت» (ص 99).

حَقًّا إِنَّها صُورَةٌ يَقُفُّ الشَّعْرُ إِزاءَها، وتَتَلَوَّى الرُّوحُ أَلمًا…

إِلَى هذا الدَّرَكِ آلَت حالُ الجَبَلِ، وشَرَخَتهُ الفُرقَة. لَكَأَنَّ ما كانَ قَدِيمًا(3) عادَ لِيَذُرَّ قَرْنَهُ في تِلكَ النَّواحِي الَّتِي مَنَّ عَلَيها الخالِقُ بِأَجمَلِ طَبِيعَة. أَو كَأَنْ «ضَرَبَتهُمُ الرِّيحُ العَقِيمُ، فَما وَذَرَت شَيئًا أَتَتْ عَلَيهِ إِلَّا جَعَلَتهُ كَالرَّمِيم»(4).

لَن يَخرُجَ القارِئُ ذُو الإِحساسِ المُرهَفِ مِن رِحلَتِهِ القِرائِيَّةِ إِلَّا مُنقَبِضَ الصَّدرِ، دامِعَ القَلبِ، لِما اطَّلَعَ على جَوْرٍ أَصابَ أُناسًا لا حِيلَةَ لَهُم في الشَّأنِ الجارِي، يَتَلَقَّونَ الضَّربَةَ تِلَوَ الأُخرَى، ولا مِن مُنصِفٍ ولا مِن نَصِير.

هذا…

ولكِنَّهُ شَنَّ حَملَةً شَعواءَ على زُعَماءِ المَسِيحِيِّينَ كافَّةً لِأَنَّهُم، بِرَأيِهِ، أَوصَلُوا مِنطَقَتَهُ إِلى الوَيلاتِ الَّتِي حَلَّت بِها. فَخاطَبَهُم: «… كِتابٌ جِئْتُ أَقُولُ فِيهِ لِلزُّعَماءِ المَسِيحِيِّين: كُلُّ شَيءٍ كان بَينَ أَيدِيكُم. وعِندَما تَنازَعتُم في ما بَينَكُم خَسِرتُم كُلَّ شَيء. بِأَيِّ حَقٍّ تَقُودُونَ إِلى المَذَلَّةِ شَعبًا أَكَلَ في تارِيخِ كِفاحِهِ الطَّوِيلِ تُرابًا، ولَم يَحْنِ لِلمُحتَلِّ رَأْسًا!» (ص6).

لَم يَسلَم رِجالُ الدِّينِ، مُمَثَّلِينَ بِكاهِنٍ، مِن شَظاياهُ فَجاءَ هذا الحِوار: «صَلَّى الكاهِنُ لِراحَةِ نَفسِه. ثُمَّ عَدَّدَ مَناقِبَ الرَّجُلِ الَّذِي لا يَعرِفُهُ، وذَكَرَ مِنها على قَدْرِ ما نَقَدَهُ حَبِيبُ مُسبَقًا مِن أَجْر. وفِيما كانَ يَتلُو عِظَتَهُ داعِيًا إِلى المَحَبَّةِ والرَّحمَةِ […] راحَ حَبِيبُ يَستَرجِعُ في ذاكِرَتِهِ ذاكَ الحِوارَ القَصِيرَ الَّذِي دارَ أَمْسِ بَينَهُ وبَينَ رَئِيسِ لَجنَةِ وَقْفِ الكَنِيسَةِ حِينَ سَأَلَه:

-أَتَسمَحُونَ بِأَن أَدفُنَ أَبِي في مَدافِنِ رَعِيَّتِكُم؟

-بِاستِطاعَتِي أَن أُقنِعَ أَعضاءَ اللَّجنَةِ إِن أَنتَ دَفَعتَ ما يَتَوَجَّبُ عَلَيكَ دَفعُهُ مِن مالٍ لِقاءَ ذلك.

-ولكِنَّكُم تَعرِفُونَ أَنَّنا مُهَجَّرُونَ مِن بُيُوتِنا وَ…

-هذه لَيسَت مُشكِلَتِي. فَإِن كُنتَ لا تَملِكُ المَبلَغَ، بِاستِطاعَتِكَ أَن تَحمِلَ أَباكَ إِلى قَريَتِكَ، وتَدفُنُهُ هُناك» (ص 137).

سُخرِيَةٌ سَوداءُ تَمُرُّ في قَلَمِ المُؤَلِّفِ، مُغَمَّسَةً بِالإِحباطِ والخَيبَةِ، حَولَ حِصارِ دَيْرِ القَمَر:«أَبوابُ كَنِيسَةِ سَيِّدَةِ التَّلَّةِ بَقِيَت مَفتُوحَةً لِمِئَةِ يَوم. مَن كانَ في قَريَتِهِ لا يَزُورُ الكَنِيسَةَ إِلَّا يَومَ العِيدِ، أَصبَحَ في دَيْرِ القَمَرِ يَجِيءُ لِلصَّلاةِ كُلَّ يَوم. لكِنْ هذا لَم يَكُنْ كافِيًا لِتَليِينِ قَلبِ اللهِ واستِدرارِ عَطْفِ السَّيِّدَةِ، لِذلِكَ دَعا البَطرِيَركُ مار أَنطُونيُوس بُطرُس خُرَيْش إِلى الصَّلاةِ مِن أَجلِ دَيْرِ القَمَر. أَمَّا في إِسرائِيلَ فَقالَ النَّاطِقُ بِاسمِ الحُكُومَةِ عَبْرَ مَوجاتِ الأَثِيرِ إِنَّهُ على زُعَماءِ لُبنانَ المَسِيحِيِّينَ أَن يَتَعَلَّمُوا السَّيرَ على أَقدامِهِم» (ص 103).

ونَقُولُ نَحْنُ: «مَنْ لَهُ أُذُنانِ سامِعَتانِ فَليَسمَع»!

وهذا البَطَلُ، حَبِيب، عَينُهُ، يُوصِي زَوجَتَهُ، وهو يُصارِعُ المَوت: «وَصِيَّتِي لَكِ أَن تَفعَلِي ما بِوُسعِكِ لِلخُرُوجِ بِوَلَدَيكِ مِن هذه البِلادِ؛ فهي لَيسَت لَنا ولِلَّذِينَ مِثلِنا. إِنَّها… لِلذِّئَابِ وَ… قُطَّاعِ… الطُّرُق» (ص 156).

وهو، بِتَمرِيرِ بَعضِ الشُّؤُونِ عَمَّا دارَ في الجَبَلِ، شاءَ أَن يُوصِلَ إِلى القارِئِ الَّذِي يَعِي، أَنَّ ما دَهانا في أَحداثِ 1840 وَ 1860 الطَّائِفِيَّةِ ، عادَ، وبِزَخْمٍ أَكبَرَ، وذلك دَلِيلٌ بَيِّنٌ على عَدَمِ اتِّعاظِنا مِنَ التَّارِيخِ والحَياة. لَقَد صَحَّ فِينا ما قالَهُ الإِمامُ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طالِب في «نَهْجُ البَلاغَة»: «ما أَكثَرَ العِبَرِ وأَقَلَّ الاعتِبار»!

عَمِيدُنا خَبَرَ الحَربَ إِذ خاضَغِمارَها حَيثُما دَعاهُ جَيشُه. وقد أَدرَكَ الخُيُوطَ الخَفِيَّةَ في السِّياسَةِ الَّتِي راهَنَ عَلَيها كَثِيرُونَ، واضِعِينَ في أَتُونِ المَعارِكِ شَبابًا غُرِّرَ بِهِم فَدَفَعَتهُمُ الحَمِيَّةُ إِلَى سَعِيرِها، فَاحتَرَقُوا، ومَن نَجا حَمَلَ في جَسَدِهِ كُلُومَها، وفي قَلبِهِ مَرارَتَها والخِذْلان. يَقُول: «يَصُولُ فِيها اللَّاعِبُونَ ويَجُولُونَ وهُم لا يُدرِكُونَ أَنَّهُم لَيسُوا سِوَى دُمًى تُحَرِّكُها أَيادِي مَن هُم أَكبَرُ مِنهُم وأَقوَى» (ص 46).

رُغمَ أَنَّ الكاتِبَ أَعلَنَ أَنَّ رِوايَتَهُ هذه «لَيسَت كِتابَ تارِيخ» (ص 6)، فَإِنَّها، في واقِعِها، مَحبُوكَةٌ بِخُيُوطِ الأَحداثِ التَّارِيخِيَّةِ، والوَقائِعِ المُسَجَّلَةِ في مُدَوَّناتِ الحَربِ، مع بَعضِ التَّدَخُّلِ مِنَ المُؤَلِّفِ، تَعلِيقًا أَو إِبداءَ مَوقِفٍ ورَأْيٍ، يَجُرُّهُ، أَحيانًا، مُقادًا بِهَوَى الرُّوحِ، إِلى مَطارِحَ كانَ في نِيَّتِهِ تَحاشِيها، ولكِنْ ﴿ما أُبَرِّئُ نَفسِي إِنَّ النَّفسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ(5)

تَتَّضِحُ نَقمَةُ صاحِبِنا على الَّذِينَ استَلَمُوا قِيادَ الوَطَنِ فَقادُوهُ إِلى الهَلاك، في أَفواهِ شُخُوصِهِ حِينَ المَقُولُ تَقرِيرِيٌّ خَطابِيٌّ يَعلُو على مَسلَكِ ومُستَوَى القائِلِ؛ فَحِينَئِذٍ يُعَبِّرُ عَن هَوَى الكاتِبِ، ويَبُثُّ فِكرَهُ. يَقُولُ أَحَدُهُم (ص 63): «رِثاءٌ لِوَطَنٍ زُعَماؤُهُ آلِهَةٌ وشَعبُهُ في هَياكِلِهِم يُضِيءُ الشُّمُوع. رِثاءٌ لِوَطَنٍزَعِيمُهُ فَوقَ القانُونِ، وقانُونُهُ فَوقَ النَّاسِ الَّذِينَ لا زَعِيمَ لَهُم. رِثاءٌ لِوَطَنٍ كَثُرَ حُكَّامُهُ وقَلَّ حُكَماؤُه. رِثاءٌ لِوَطَنٍ مُتَّحِدٍ في قُلُوبِ أَبنائِهِ، ومُقَسَّمٍ في سِلالِ حُكَّامِه. رِثاءٌ لِوَطَنٍ يَزرَعُ الشَّعبُ حُقُولَهُ، ويَجنِي الزُّعَماءُ غَلَّةَ بَيادِرِه».

ثُمَّ يُضِيفُ: «رِثاءٌ لِوَطَنٍعِبادُهُ أَحرارٌ، وأَسيادُهُ عَبِيد».

ونَسأَل: كَيفَ يَكُونُ «العِبادُ أَحرارًا» وهُم، في أَكثَرِيَّتِهِم، «مع كُلِّ خَيْلٍ مُغِيرَة»…

وهل يَكُونُونَ «أَحرارًا» وما كانَ الَّذِينَ تَرَبَّعُوا على قِمَّةِ الهَرَمِ لِيَتَوَقَّلُوا فِيهِ إِلَّا على ظُهُورِهِمِ المُنحَنِيَة؟!

أَلَا رَحِمَ اللهُ الشَّاعِرَ وَدِيع دِيب إِذ قال:

فَالَّذي صَيَّرَ المُلُوكَ مُلُوكًا     شَمَمٌ ماتَ في نُفُوسِ العَبِيدِ!

***

 

مِمَّا يُشارُ إِلَيه بِالبَنانِ لُغَةُصاحِبِناالمُصَفَّاةُ مِن كُلِّ راسِبٍ دَخِيلٍ وعُجْمَةٍ وخَطَأٍ نَحْوِيّ. ولا غَرْوَ فَهو مِن سَدَنَةِ العَرَبِيَّةِ، ومَرجِعٌ ثِقَةٌ فِيها، يَخفِرُ ذِمارَها بِالقَلَمِ الماضِي، والثَّقافَةِ الرَّفِيعَة. وهو، على حَدِّ قَولِ مارُون عَبُّود«لا يُزاحَمُ في المَضِيق». وقَد لا نُبالِغُ إِذا رَدَّدنا فِيهِ مع المُتَنَبِّي:

أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِها        وَيَسهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ.

وقد حَبانا، مَدَّ سِفْرِهِ، بُرْدَةَ أَدَبٍ، خالِصَةً، مَشحُونَةً بِالمَشاعِرِ الصَّادِقَةِ، مُكتَنِزَةً بِالتَّعابِيرِ الإِنشائِيَّةِ الصَّافِيَةِ، فَهِيَ لُقْيَةٌ لِكُلِّ مُثَقَّفٍ نَبِيهٍ يَهُزُّهُ البَيانُ السَّامِقُ الرَّهِيف.

ونَتَمَثَّلُ، كَي لا يَكُونَ الكَلامُ هَباءً في الرِّيحِ، بِاللَّوحَةِ القَرَوِيَّةِ الحَيَّةِ الآتِيَة: «وتُكمِلُ الحَياةُ دَورَتَها فَتَكتَمِلُ حِينَ يَجِفُّ الدَّمُ في عُرُوقِ أَوراقِ الشَّجَر؛ فَتَتَساقَطُ صَفراءَ شاحِبَةً مُتَمايِلَةً على أَجنِحَةِ رِياحِ الخَرِيف. ويَأوِي السُّنُونُو إِلى أَعشاشِه. ويَهجُرُ ناطُورُ الكُرُومِ عِرزالَهُ بَعدَ أَن تَكُونَ الدَّوالِي قد ارتاحَت مِن أَثقالِها، وامتَلَأَتِ الخَوابِي بِدِماءِ عَناقِيدِها. حِينَئِذٍ يَعُودُ الفَلَّاحُونَ إِلى الحِراثَةِ والزَّرْعِ على أَمَلِ أَن يَستَحِيلَ الخَرِيفُ رَبِيعًا، ويَخرُجَ المَيْتُ مِن بَطْنِ الأَرضِ حَيًّا، يُعطِي الحَياةَ لِأَبناءِ الحَياة» (ص15).

الله…

أَخَذَتنا هذه المَشاهِدُ الرَّائِعَةُ، إِلى طُفُولَتِنا وقَريَتِنا، فَحَنايانا تُرَدِّدُ مع شَفِيق المَعلُوف:

ما أَرَدنا لُبنانَ إِلَّا كَما نَهوَى       شِفاهًا يَمْصُصْنَ صَدْرَ الدَّوالِي
وعَصِيرًا مِلْءَ الخَوابِي وأَغمارًا    ـــــــــــ   على التَّلِّ مِن وَفِيرِ الغِلالِ
ودُرُوبًا إِلى الأَعالِي، ونَهرًا          واثِبًا بَعدَ كَبْوَةِ الشَّلَّالِ

أَلَا سَقْيًا لِقُرانا ولِلحَياةِ الدَّافِئَةِ النَّقِيَّةِ في مَرابِعِها وسَمَرِها والسَّهَرات!

أَمَّا الطُّلَّابُ المُستَزِيدُونَ مِن صِحَّةِ وجَمالاتِ لُغَتِهِم مِن دُونِ أَن يُعانُوا جَفافَ النَّحْوِ، وجَهامَةَ الصَّرْفِ، فَإِنَّنا نَنصَحُهُم بِقِراءَتِها، فَإِنَّ لَهُم فِيها، إِلى المُتعَةِ المُحَقَّقَةِ، فائِدَتَين:

-أُمثُولَةً خَطَّتها بِالدِّماءِ مَسِيرَةُ أَسلافِهِم في مَرحَلَةٍ دَقِيقَةٍ مِن عُمْرِ رُبُوعِنا الحَبِيبَة، يَقتَبِسُونَها دَرسًا مُضَرَّجًا بِنُسْغِ الحَياةِ، ويَتَمَنطَقُونَ بِها زادًا لِآتٍ فِيهِ الوُرُودُ وفِيهِ الأَشواكُ لِأَنَّ عَيشَنا الوَطَنِيَّ مَحكُومٌ بِمُعادَلاتٍ دَقِيقَةٍ، يَخُضُّها الخارِجُ بِمُداخَلاتِهِ المَشبُوهَةِ، ويُزَعزِعُها الدَّاخِلُ بِضَعفِهِ، وارتِهانِهِ، ولاوَعْيِهِ السِّياسِيِّ المُرتَوِي مِن طائِفِيَّةٍ بَغِيضَةٍ لازَمَتهُ ولا تُبارِح.

-اكتِنازُ لُغَةٍ قَلَّ وُجُودُها في ما تَقذِفُهُ المَطابِعُ بِلا حَسِيبٍ أَو رَقِيب. ومِن هذه اللُّغَةِ العَذبَةِ نُورِدُ الآتِي: «حَتَّى إِذا لاحَ الرَّبِيعُ وسَرَت دِماءُ الحَياةِ في عُرُوقِ الطَّبِيعَةِ، خَرَجُوا إِلى حُقُولِهِم وكُرُومِهِم يَحرُثُونَها ويَعتَنُونَ بِها. ولَيسَ أَلَذُّ لَدَيهِم وأَحَبُّ على قُلُوبِهِم مِن حُلُولِ الصَّيفِ، فَصْلِ الحَصادِ وجَنْيِ ما زَرَعَت أَيدِيهِم، وما رَوَى عَرَقُ جِباهِهِم السُّمْر. ومَن لَم يَغْدُ مع الحَصَّادِينَ فَجرًا إِلَى سُهُولِ القَمحِ حَيثُ تَنحَنِي السَّنابِلُ الذَّهَبِيَّةُ مُثقَلَةً بِحَبَّاتِها، ومَن لَم يُرافِقْهُمْ إِلَى بَيادِرِ الخَيْرِ، ولَم يَسمَعْ أَناشِيدَهُم وأَغانِيَهُم، لا يَعرِفُ أَنَّ السَّعادَةَ الحَقَّةَ تُولَدُ في مَهْدِ الحَياةِ البَسِيطَة» (ص 14).

وهذا القَولُ الأَخِيرُ يَنزِلُ مَنزِلَةَ الحِكمَةِ، ويَتَعَشَّقُهُ القَلبُ لِأَنَّهُ يُلامِسُ شَغافَه.

وَكَم جَمِيلٌ قَولُه: «قد لا تُحِبُّ السَّعادَةُ زَخرَفَةَ القُصُورِ وبَهرَجَتَها […] وتَخرُجُ مِن أَبوابِها الواسِعَةِ العالِيَةِ، وتَلجَأُ إِلى كُوخٍ فِيهِ أَولادٌ يَلعَبُونَ ويَضحَكُونَ في ضَوْءِ قِندِيلِ زَيْتٍ خافِت» (ص 151).

ومِن خِبرَتِهِ العَسكَرِيَّةِ الطَّوِيلَةِ في صُفُوفِ الجَيشِ اللُّبنانِيِّ، اكتَسَبَها بِعَرَقِهِ وجِراحاتِهِ في أَرضِ القِتالِ، ومِنَ المُواجَهاتِ الدَّامِيَةِ الَّتِي خاضَها هذا الجَيشُ بِكَفاءَةٍ، وعِزٍّ، وتَرَفُّعٍ عَن وُحُولٍ أَغرَقَت شَوارِعَ الوَطَنِ وأَزِقَّتَهُ، مِن هذهِ كُلِّها، ومِن تَبَصُّرِهِ العَمِيقِ، أَتحَفَنا بِالحِكمَةِ الآتِية: «فَالقائِدُ، إِنْ لَم تَكُنْ لَهُ قُوَّةُ الأَسَدِ، عَلَيهِ امتِلاكُ دَهاءِ الثَّعلَبِ لِأَنَّ لا بَقاءَ لِغَيرِ هذا في غابَةِ الآساد» (ص 84).

ونَذكُرُ، لِمُناسَبَةِ هذا القَولِ، ما جاءَ عِندَ ابْنِ خَلدُونَ في مُقَدِّمَتِهِ المَشهُورَة: «لا وُثُوقَ في الحَربِ بِالظَّفَرِ وإِنْ حَصَلَت أَسبابُهُ مِنَ العُدَّةِ والعَدِيد. فَهُناكَ أَسبابٌ خَفِيَّةٌ، مِنها خُدَعُ البَشَرِ وحِيَلُهُم في الحُرْب. ويُقِرُّ بِأَنَّ أَكثَرَ ما تَقَعُ الهَزائِمُ عَنِ الأَسبابِ الخَفِيَّة».

كَما نَذكُرُ الحَدِيثَ الشَّرِيف: «أَلحَربُ خُدْعَة»؛ وأَيضًا المَثَلَ العَرَبِيّ: «رُبَّ حِيلَةٍ أَنفَعُ مِنْ قَبِيلَة».

يَقُولُ الكاتِب: «فَيا لسُخرِيَةِ القَدَرِ الَّذِي يَرمِي النَّاسَ الأَفاضِلَ في الأَكواخِ الوَضِيعَةِ، ويَفتَحُ لِأَبناءِ الأَفاعِي أَبوابَ القُصُورِ العالِيَةِ والمَراكِزِ الرَّفِيعَة» (114).

نَعَم… هو القَدَرُ، هِوايَتُهُ اللَّعِبُ بِمَصائِرِ النَّاسِ، مُذ كانُوا في الوُجُود. وها الشَّاعِرُ جَحْظَة البَرمَكِيّ يَرفِدُ أَدِيبَنا بِقَولِه:

أَيا دَهرُ وَيْحَكَ ماذا الغَلَط         وَضِيعٌ عَلا ورَفِيعٌ هَبَط!

لِصاحِبِنا رَأيٌ قَد يُثِيرُ العَجَبَ لِمُخالَفَتِهِ ما هو مُتَعارَفٌ في النَّاس. يَقُولُ، مُتَحَدِّثًا عَن حُبٍّ وُلِدَ مِن نَظرَةٍ أُولَى بَينَ شابٍّ وشابَّة: «لِأَنَّ الحُبَّ الَّذِي يُولَدُ في القَلبِ صَغِيرًا، ويَنمُو على خُبزِ الأُلفَةِ والتَّفاهُمِ، لَهُوَ حُبٌّ ضَعِيفٌ لا يَعِيشُ طَوِيلًا. أَمَّا الحُبُّ الَّذِي لا يَمُوتُ فَهُو الحُبُّ الَّذِي يُولَدُ مارِدًا يَستَطِيعُ أَن يَنقُلَ الجِبالَ مِن مَكانٍ إِلى مَكان. هذا الحُبُّ لا يَأكُلُ مِن غَلَّةِ حُقُولِ الأَرضِ، ولا يَشرَبُ مِن يَنابِيعِها، إِنَّهُ يَتَغَذَّى مِنَ الخُبزِ الإِلهِيِّ، ويَرتَوِي بِنَدَى السَّماء» (ص 113).

وقد خَبَر النَّاسُ، وعَلَّمَتهُمُ الحَياةُ، أَنَّهُ مِن دَعائِمِ الحُبِّ الباقِي «الأُلفَةُ والتَّفاهُم»، أَمَّا الحُبُّ مِنَ النَّظرَةِ الأُولَى (Coup de foudre)، فَقَد يَكُونُ باعِثُهُ جَسَدِيًّا، وحافِزُهُ شَهوَةً تَذوِي بَعدَ فَترَةِ وِصال.

ولكِنْ…

نَستَدرِكُ فَنَقُولُ بِأَنَّ الحُبَّ حالَةٌ تَتَعَلَّقُ بِطَبِيعَةِ الشَّرِيكَينِ، وتَختَلِفُ بِاختِلافِ الأَمزِجَة. ونَقُولُ، تَنَدُّرًا: إِنَّهُ جَمِيلٌ مُدَغدِغٌ في كُلِّ حالاتِه!

ولا تَغِيبُ الأَسئِلَةُ الفَلسَفِيَّةُ الوُجُودِيَّةُ فَصاحِبُنا مُفَكِّرٌ عَمِيق. يَقُول: «مَنْ يا تُرَى يُحَرِّكُ سَفِينَةَ العُمرِ في بَحْرِ الوُجُود؟ أَهو القَضاءُ الأَعلَى الَّذِي يَرسُمُ خَطَّ الإِبحارِ، ويَضبَطُ السَّاعَةَ، ويُعَيِّنُ المِيناءَ، ويَأمُرُ المَوجَ والرِّيح؟ أَم هو البَحَّارُ الَّذِي يُمسِكُ بِالدَّفَّةِ، ويُحَرِّكُ المَجاذِيف؟» (ص 196).

كَما لَم تَنْجُ الماوَرائِيَّاتُ مِن اهتِمامِهِ، فَنَضَحَ إِيمانُهُ بِاللَّهِ، وبِعَدلِهِ، وبِعِنايَتِهِ بِالكَونِ كُلِّهِ، فَنَرَى الغَيبَ يَتَدَخَّلُ صُراحًا (ص 244) لِدَرْءِ الرَّدَى عَن طِفلَينِ بَرِيئَينِ كادَ يُقضَى عَلَيهِما.

***

خِتامًا

هذه الرِّوايَةُ، ذاتُ الحَبْكَةِ المُرَكَّبَةِ في صِدْقٍمَوضُوعِيٍّ، هي مِنَ الأَعمالِ الكلاسِيكِيَّةِ التَّقلِيدِيَّةِ العالِيَةِ في صِنْفِها. بِنْيَتُها اللُّغَوِيَّةُ صُلبَةٌ مُتَماسِكَةٌ، ومُعَالَجَتُها الفَنِّيَّةُ والبِنائِيَّةُ سَلِيمَةٌ، وإِن شابَتها بَعضُ التَّدَاخُلاتِ، والخَطابِيَّةُوالتَّقرِيرِيَّةُ أَحيانًا. وهي تَرفِدُ القُرَّاءَ مَعرِفَةً وافِيَةً عن أَحداثِ الحَربِ اللُّبنانِيَّةِ في مَرحَلَةٍ مِفصَلِيَّةٍ مِنها في الجَبَلِ الشُّوفِيِّ الَّذِي اختَبَرَهُ الدَّهرُ مِرارًا بِالدَّواهِي، كَما حَباهُ الأَمجادَ في تارِيخٍ ناصِعٍ امتَدَّ لِعُقُود.

صَدِيقَنا

سَلِمَ قَلَمُكَ، فَمِن شَقِّهِ يَهمِي الجَمالُ في زَمَنٍ أَطبَقَ عَلَينا بِالنَّوائِبِ تَتْرَى، وباتَ شَغَفُنا إِلى البَدْعِ يَتَرَصَّدُ مَكامِنَهُ النَّادِرَةَ، وقَلِيلًا ما تَحِقُّ مُناه!

***

(1): (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 5، «على الطَّائِر»، ص 184)

(2): ﴿… وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾

                                  (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الأَحزاب، الآيَة 10)

(3): اشتَدَّتِ الخُصُومَةُ بَينَ الأَمِيرِ بَشِير الشَّهابِيِّ الكَبِيرِ والشَّيخِ بَشِير جُنبُلاط، فَقالَ الشَّيخُ الجُنبُلاطِيُّ:

 «البِلادُ لا تَسَعُ بَشِيرَين»، فَأَجابَهُ الأَمِير: «المَكْعُوم يَرحَل».

(4): ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ – مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم﴾

   (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الذَّارِيات، الآية 41، 42)

(5): ﴿وما أُبَرِّئُ نَفسِي إِنَّ النَّفسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم﴾

                                            (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ يُوسُف، آيَة 53)

 

اترك رد