سعيد غريّب
ليس غريباً أن تعيش الديموقراطيّات في العالم حالة عجز، فالكون بأسره يمرّ بحالة انفصام خطيرة. وتشهد البشريّة غياباً، يكاد يكون كاملاً، لمفهوم السلطة إن في المدرسة وإن في العائلة، عبر تنامي عدم الاحترام للمسؤولين والأساتذة والأب والأم. ولم تعد الأزمات العالميّة سياسيّة بقدر ما هي أزمات أخلاقية واجتماعية. لقد أصبحت الآليّات الديموقراطيّة مسخّرة، بفعل سلطات أربع تجمّعت في كتلة واحدة، وهي، وفق الدكتور أنطوان مسرة: «المال والانتلجنسيا والسياسة والاعلام». الكبار منشغلون اليوم بنشر فلسفة جديدة في مفهوم الديموقراطية، فيفرضونها متفلّتة من أيّ ضوابط في أمكنة، ويتركونها جدليّة في أمكنة ثانية، ويضربونها بوسائل ظاهرها ديموقراطي وباطنها ديكتاتوري، في أمكنة ثالثة.
أمّا لبنان فيتخبّط بأمور لا تحصى، ويسلّم قدره لهؤلاء الكبار المنشغلين حتّى آذانهم بديموقراطية تديرها الشركات بديلاً من الدول وتتحكّم بها مصالح البترول والمصانع الكبرى. لقد بات لبنان في هذا البحر الهائج مجرّد باخرة مثقوبة، يتقاتل من على متنها لقيادتها وهي تغرق. وبلدنا لا يحاول اليوم أن يُترجم رسالته الكبرى التي نصح بها القديس البابا يوحنا بولس الثاني، لينتصح منها العالم أجمع، وتكون جوهراً جديداً وأساساً متيناً للحضارات ومخزوناً روحياً وثقافياً لسائر الشعوب. فحكّام لبنان لا يزالون هم هم، بالجينات عينها، يتحكّمون بالناس ولا سيما الشباب.
إنّ كفاح الشباب اللبناني اليوم يذهب سدى وهدراً لأنّهم مشتّتون وضائعون و»مبلوعون» في أفواه الحيتان، حيتان المال والطائفية والاعلام. وهم، لن يستطيعوا، بجهود خجولة، تصويب البوصلة والبدء بعملية اصلاح مضنية. مما لا شكّ فيه أنّ الظاهرة التي تلازم الشباب اللبناني هي الحيرة، ونستعير هنا توصيفاً لاوغست موريس باريس ينطبق عليه تماماً، اذ إنه أمسى «مقتلع الجذور، يتخبّط وسط تيّارات متضاربة متكاسرة».
هل يعرف شباب لبنان ممّن، هم دون الأربعين من العمر، أنّ الاستحقاق الرئاسيّ لم يعد استحقاقاً بالمعنى العمليّ، منذ شهر أيلول 1988؟ يومها انكسر الاستحقاق، واضحى التعطيل «موضة» جديدة وثقافة جديدة. يومها، خيّر اللبنانيون بين مخائيل الضاهر والفوضى، فاختار الزعماء الفوضى، وخسروا الجمهورية الأولى، ولم يربحوا الجمهورية الثانية. هل يعرف شباب 14 آذار، أنّ الباقة التي صنعوها بايمانهم قبل تسعة عشر عاماً في ساحة الشهداء تبدّدت بعدما غرف الساسة التجار وحدهم من أريجها، وتنشّقوا وحدهم رائحتها، واستفادوا وحدهم من خيراتها طوال عقدين من الزمن، فيما خسر لبنان أفضل وجوهه؟ أمّا اليوم، فماذا ينتظر شباب لبنان من بلد بلا رأس، من مسرح مفتوح لانتخاب رئيس، من عرس حضره المدعوّون وغاب عنه العريسان؟ وهل يدري شباب لبنان المسيحي والمسلم أنّهم مدعوّون لأخذ القرار بيدهم وحدهم، وأن يلتقوا على الايمان على فلسفة لبنانية يجتمعون حولها؟
يا شباب لبنان، ذووكم أنهكتهم الحروب والأزمات المتعاقبة. هم أكلوا الحصرم وأنتم تضرسون. معركتكم في سبيل الدولة الفضلى ليست معركة سياسيّة بحتة، انما هي معركة بناء المجتمع من منطلقات أخلاقية ووطنيّة ثابتة. فهل تقدمون على تحدّي التاريخ وتبنون لانفسكم دولة وتاريخاً؟ لا تصغوا، رجاء، لمدّعي الفلسفة والمنافقين والمخادعين، وهم كثر، ولا تتأثروا بمواقفهم. هم يفاوضون فقط من تحت الطاولة لانّهم جبناء وكذّابون.
***
*نداء الوطن 23-3-2024