سعيد غريّب
في العام 1969، خذل الفرنسيّون رئيسهم الاستثنائي شارل ديغول في استفتاء غير استثنائي رهن به مستقبله السياسي كرئيس للجمهوريّة. في ذلك اليوم، ذهب ديغول إلى منزله، واضعاً لرئاسة فرنسا مستوى لا يسهل بلوغه، وانسحب الأمر تدريجاً إلى معظم الدول الديموقراطية.
وقبل ديغول، خذل البريطانيون بطلهم وينستون تشرشل وأسقطوه في الانتخابات لمصلحة زعيم حزب العمّال، كليمنت اتلي، قبيل الانتصار على النازية. هناك، في مؤتمر يالطا، اجتمع الثلاثة الكبار، روزفلت وستالين وتشرشل، واحتدم النقاش. أبدى البطل البريطاني رأيه في مسالة رسم مستقبل المنطقة، فقاطعه ستالين قائلا: «أنت لست في موقع يسمح لك بابداء رأيك، لقد سقطت في الانتخابات»، أجابه تشرشل: «يكفيني فخراً أنّني انا الوحيد بينكم الذي يستطيع شعبه أن يزيحه ساعة يشاء»، فضحك ستالين بملء فيه. انّها خيارات الناس التي غالباً ما تخطئ في غياب المعرفة والوعي.
فالديموقراطية يلزمها وعي، والانتخابات السليمة تكون بحسن الاختيار، لأنّ حرية الاختيار تكون حكماً تحصيلاً حاصلاً. وقد تراجعت الديموقراطية في العالم وما زالت في تراجع بفعل سوء الاختيار. ولا عجب اذا سقطت في لبنان، فهي في الأساس عندنا مزيّفة في حين أنّ فلسفتها مبنية على التوافق. والتوافق هو نقيض الديموقراطية المطلقة وفلسفتها، ويدحضها جملة وتفصيلاً. فلسفة التوافقيين تقول تعالوا نتّفق على الانتخابات وقانونها وأشخاصها، وعلى القرارات الفوقيّة والعشوائيّة، وعلى توزيع المغانم وخيراتها، وعلى اقتسام الحصص ومردودها، وعلى استغلال الناس بعفويّتها وخوفها.
فلسفتهم تضيف: تعالوا نتّفق على كلّ شيء تطبيقاً للديموقراطية التوافقية، واذا لم نوفّق نذهب إلى المصير والمستقبل المجهول. أليس هذا لبنان الذي عرفناه، كما عرفه أجدادنا وأجداد أجدادنا، بلداً خالياً الّا من الطائفيّة والمذهبيّة وشحن النفوس، والقهر والظلم، والترويع والتركيع، وعند الحاجة الدماء والأرواح؟ واذا أريد لهذا البلد أن يصبح دولة، تعالوا تقول فلسفتنا، نحن المواطنين إلى «ضرب جنون» لعلّ فيه ما يشفي الداء المزمن، تعالوا إلى حكم قد يكون عادلاً وقد لا يكون، ألا يحقّ لنا أن نجرّب جنوناً من نوع آخر، ما دام جنون التوافق أوصلنا إلى هذا الانحدار القاتل! تعالوا إلى حكم نصفه ديموقراطي ونصفه الآخر دكتاتوري، على غرار ما ميّز حكم الالماني الكبير كونراد ادنهوار وتبنى من فكرة المزج المختصرة بكلمة démocrature والتي تتماهى مع ما أطلق عليه الشيخ بيار الجميل المؤسّس من تسمية المستبد العادل.
نعيش اليوم زمن خذلان الديموقراطيّة لنا في البحث عن أوطان أكثر عدلاً واستقراراً وتعزيزاً لحق الانسان والمواطن، وترانا نعيد النظر في تطبيقاتها وأشكالها وانجازاتها، وإن تمسّكنا بروحها وأهدافها. ونكاد نقول: صحيح أنّ الديكتاتورية لن تأتينا بالحريّة لكنّها تعرّفنا على قيمتها، تحت سلطة الدولة وليس في شوارع الزعران والفلتان، ونكاد نقول إنّها تبني دولة فيما نحن بحاجة إلى دولة بكل مفاهيمها، كما نكاد نحنّ إلى زمن الملوك في العالم. بربّكم قولوا لي عندما تسافرون والجميع يسافر في هذه الأيّام ولو بالدَين (بفتح الدال) خصوصاً إلى اوروبا، الامَ تنظرون مشدوهين متسمّرين؟ انّكم تركّزون على ما صنعه الملوك، وتصوّرون المعالم التي بناها وتركها الملوك والأباطرة، وتتمتّعون بما خلّفه اولئك، رغم مساوئهم وبطشهم، في بعض الأحيان، من حضارة لا تزال البشريّة تغرف منها لأجيال وأجيال. نعم، انّكم تسافرون للتمتع بما تركه الملوك، من بنيان حضاريّ وثقافيّ وفنّي، وليس بما خلّفته الديموقراطية، فالديموقراطية كما تمارس اليوم لم تخلّف سوى مزيد من اللّاعدالة، ومزيد من الخلل من سوء الاختيار والخيار للقيادات، إلى انحرافها نحو مبالغة تضرب المعايير الاخلاقية والاجتماعية، كمثل اعطاء الحريّة للأطفال غير المدركين بعد باختيار جنسهم، وذلك في زمن نغرق فيه أصلاً في مشاكل التلوّث على أنواعه، وتحكمنا فيه الهواتف الذكية والمدمّرة، ويسيّرنا الذكاء الاصطناعي.
مع حاكم مستبد عادل لن تكون هناك ضرورة أو حتميّة للطغيان. لقد بنى هؤلاء الدولة في فرنسا، وجاء نابليون بونابرت بعد الثورة يصادر الطغيان، ولكنّه عزّز وأكمل بناء الدولة، ولما مات عادت الملكيّة، إلى حين، ولكن دامت الدولة ومؤسساتها إلى الآن، وبقي قوس النصر والعقد الاجتماعي. عندنا في لبنان الحل بالموجود ممنوع، ممنوع منذ زمن طويل، ربما منذ نشأته وربّما منذ تكوينه. واذا اخترنا المستبد العادل، قد لا نجده في هذه الايام المفتقرة إلى رجال الدولة الحقيقيين، ولم نجده طبعاً في التغييريين المستولدين من البزرة القائمة.
***
*نداء الوطن 9-3-2024