الكلمة التي ألقاها الشاعر حبيب يونس في حفل توقيع كتاب “القيم الإنسانيّة في شعر عبدالله شحاده” للباحثة الدكتورة يسرى_البيطار، على مسرح ثانوية البترون الرسمية، بدعوة من منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي ناشر الكتاب، وبرعاية وزارة الثقافة. وذلك في إطار احتفاليّة طرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024.
أسعد الله قِيمَ حضوركم
ليس مصادفةً عابرة أن يقعَ هذا الاحتفالُ في الذِّكرى العاشرة لارتحال الشَّاعر القِيَميِّ الإنسانيِّ الكبير جوزف حرب، كأنَّا اليوم على موعدٍ مع القيم التي لا بد تلتقي، ما طال غياب.
أستذكر، بداية، صاحب “المحبرة”:
عَشْرٌ غِيَابُكَ… وَالْغِيَابُ
بَابٌ عَلَى الذِّكْرَى، وَبَابُ
فِي ظِلِّ قَامَتِكَ ارْتَدَى
أَبْهَى سُطُورِكَ، فَالْكِتَابُ
أَنْتَ الْكِتَابُ ثِيَابُهُ
لَا يَلْبَسُ الْحَرْفَ التُّرَابُ
أَنْتَ الْقَوَافِي وَهْجُهَا
مَا أَجَّ جَمْرٌ أَوْ شِهَابُ
أَنْتَ الْمَحَابِرُ غَيْمُهَا
يُغْوِيكَ أَنْ يَهْمِي السَّحَابُ
أَنْتَ الْأَحِبَّةُ كُلُّهُمْ
حَضَرُوا… وَمَا فِي الْبَالِ غَابُوا
أَلْبَابُ مَفْتُوحٌ فَجِئْ
لَنْ يَمْنَعَ اللُّقْيَا الْغِيَابُ.
فعلى غرار ما انتهجته الدُّكتورة يسرى في قراءتِها الموضوعاتيَّة لشعر شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، مضيئةً على قيمه من خلال أبيات من قصائده، ومستعينةً بمخزونها الثَّقافيِّ المعرفيِّ، في الشِّعر والدِّين، لتقيمَ مقارناتٍ بين شحادة وشعراءَ آخرين، وجدتُني أستهلُّ هذه الكلمة. فما بين شحاده وحرب… أنَّهما التقيا على القيم، ولو لم يلتقيا.
اعتمدَتْ صاحبةُ “منازل العشق”، في قراءتها، أسلوبًا جذَّابًا، مختصرًا مباشرًا. فلا مطولاتَ معلَّبة، ولا تبريراتَ أو مسوِّغات. دخلت من بيت الشِّعر الكثيف المعنى لتكشِفَ المعاني جميعًا، تعزِّز بها قِيميَّة عبدالله شحادةه وتجاوزت تلك الغاية إلى دورٍمغاير للشِّعر، ووظيفةٍ له في منزلة الرِّسالة. شاءت الشِّعر حارسَ قيم، وما القيمُ سوى الجمال… وآآآآه لو يحكمُ الجمالُ العالم.
انطلقت صاحبة “عطر من الشوق”، من البيت الواحد لترسم مسارًا يجمع في نهايته، الَّتي لا نهايةَ لها، منظومةَ قيمٍ تُفتقَد، ولا بد من عودتها لتَسود، وإلا أَسَرَنا نظامُ التَّفاهةِ القائم، بحسب ألان دونو… فيتحكَّمُ بنا أشباهُ مثقفين، أشباهُ مواهب، أشباهُ قامات، انفسح لهم الهواء، فملأوه تلوثًا فكريًّا واجتماعيًّا وأمراضًا وعُقدًا، تقضي على الأخلاق والعائلة والجمال.
هل يعرفُ هؤلاء التَّافهون أنَّ سقف الحرية ما هو إلَّا الحقيقة، وأنَّ قول السَّيِّد المسيح “تعرفون الحقَّ والحقُّ يحرِّركم”، لا تطويه دُرجةٌ أو “تراند” على وسائل التَّواصل؟ قوله ككنيسته أبواب الجحيم لن تقوى عليها… فليعتبروا.
وكما كادت من المحبة تسقط، قيِّضَ للكفيفانيَّة أن تقبِض على مفاتيح مشروع عبدالله شحاده الوطنيِّ، وقوامه أربعُ قيم جوهريَّة:القيمة الأولى، أنْ زمنُ الإقطاع ولَّى، والثَّورة عليه والوَحدة بين أبناء الوطن على أثرها، من فضائل قيام الدَّولة والمجتمع. القيمة الثَّانية أن الحريةُ لأقلام الشُّعراء. القيمة الثَّالثة أنِ الفكر أمضى من السَّيف، كأنِّي بعبدالله شحاده يردِّد مع نابوليون “الصِّراع في الأرض بين السَّيف والكلمة، لكنَّ الغلبة هي دائمًا للكلمة”. أمَّا القيمة الرَّابعة فالمساواة بين أبناء الوطن، حقوقًا وواجباتٍ، ذكورًا وإناثا.
كلُّ هذا سبرته ابنة الأدب والقانون، بسلاسة مطلقة، وبعمق واعٍ، وبحرْفيَّة أكاديميَّة، جعلتني في جلسة واحدة، أنهل من الكتابِ جميعَه. وحسبي أنَّها سارت على درب المفكِّر البريطانيِّ جون كونراد، في إحياء قيميَّة عبدالله شحاده، وهو القائل إنَّ”على حامل الرِّسالة ألَّا يتعب أو يهدأ، قبل أن يسلِّم الرَّسالة”.
غاب عبدالله شحاده، منذ خمسة وثلاثين، لكنَّ سلَّم قيمه، أي رسالتَه الَّتي لم يسلِّمها يدًا بيد، أُحيِيَ وهو في القبر، فأصبح سلَّمًا لا يَخْفى، قُل مَدينَةً عَلى جَبَل، وسِراجًا موقَدًا عَلى منارَة، فلنجعلْه يُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. كيف؟ بفضيلة الوفاء الَّذي يعبر حاجز الموت، كما كان عبدالله شحاده يقول، وبالمنتدى الذي أسَّسته كريمتُه المهندسة ميراي، على اسمه، فجمعت إرثه، قصاصةً قصاصة، وبدراسة الدُّكتورة يسرى المملوءةِ سلالُها جنًى وخيورًا وكنوزا.
ولقيمة الوفاء، العابرِ حاجزَ الموت، أفرعٌ ثلاثة: العائلة، والحبُّ، والصَّداقة. وكان تبادلُ أدوار فباتَ الأبُ ابْنًا، والابْنُ أبًا، كما عاش عبدالله شحادةه وما زال له هنا في هذا الصَّرحِ البترونيِّ حضورُ القامات العاليات، وكما قلت ذات قصيدة، في ميراي وأبيها، وهذه أبيات منها:
ذَا الشَّاعِرُ اسْتَفَاقَ مِنْ رَقْدَةٍ
عَلَى يَدَيْنِ، جَوْهَرِ الْوَطَنِ
صَبِيَّةٌ شَالَتْ بِهِ، خَافِقًا
فُؤَادُهَا بِالشَّوْقِ وَالشَّجَنِ
طَافَتْ بِهِ الدُّنَى كَأَنْ رَايَةٌ
“أَبِي هُنَا حَيٌّ وَلَمْ نَخُنِ
لَا كُورَةً خَضْرَاءَ، لَا أَدَبًا،
لَا قَلَمًا، لَا دَفْأَةَ الْوُكُنِ.
صَبِيَّةٌ مِنْ دَمِهِ وَاسْمِهِ
مُذْ مَزَقَتْ إِغْفَاءَةَ الْكَفَنِ
نَادَتْهُ: “عَبْدَاللهِ قُمْ، بَيْنَنَا
أَنْتَ هُنَا كُنْتَ، وَلَمْ نَكُنِ
وَنَحْنُ مَا إِلَّا هُنَاكَ نَعِي
أَنْ مَجْدُكَ الْغَابِرُ فِينَا بُنِي”
أَبِي تَعَالَ… مِنْكَ أَرْجُو: عَسَى
فَارْجُ أُبَيَّ، مَا تَشَاءُ، مِنِي.
والشَّاهدة على كلامي جميعِه كبيرة الشَّاعرات، يُسرانا المحفوفةُ بالقوافي، المتَّضعة بعطر الوفاء:
مَنْ يُقِمْ لِلْمَوْتِ، فِي الْأَيَّامِ، ذِكْرَى
يَشْقَ، حَسْبُ الدَّمْعِ قَدْ ضَيَّعَ مَجْرَى
دَعْ حُضُورًا فِي غِيَابٍ لَا يُبَالِي
أَانْتَهَى الْعُمْرُ أَمِ اخْضَوْضَرْتَ عُمْرَا
وَاجْعَلِ الذِّكْرَى وَفَاءً بَعْدَ مَوْتٍ
دَائِمًا… إِنَّ بُعَيْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا.
مباركة الدُّكتورة يسرى للكتاب. وها زيتونة جديدة مباركة تنبت في حديقة عبدالله شحاده، طاب زيتُه وفيؤه.
***
* شارك في الحفل : الأديبة مي سمعان التي ألقت كلمة ترحيب، الشاعر حبيب يونس، الدكتور ساسين عساف، الأستاذ سعد الدين شلق، الدكتور سهيل مطر، الدكتورة كلوديا أبي نادر، الدكتورة مايا بطرس، المهندسة ميراي شحاده (رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي) التي ألقت كلمة شكر، المحامي شوقي ساسين الذي ألقى كلمة راعي الحفل وزير الثقافة محمد وسام المرتضى، المؤلفة الدكتورة يسرى البيطار. قدمت الحفل الدكتورة يسرى البيطار.