سعيد غريّب
من منّا لا يتذكر كلام الشيخ بشير الجميّل، أثناء اعلان ترشّحه لرئاسة الجمهورية، عبر أثير اذاعة صوت لبنان، ومن «بيت المستقبل» في المتن صيف العام 1982؟ عبارة أساسيّة ومصيريّة وخطيرة أطلقها الشيخ بشير، ولم يعر لها أحد أيّ اهتمام جديّ. قال حرفياً: «الخوف ليس على وحدة لبنان بل هو على هوية لبنان»، من دون أن يوضح أكثر مكنونات هذا التحذير، الذي أطلقه في ظلّ التطورات الكبيرة التي كانت تتلاحق على الساحة اللبنانية، وفي مقدّمها الاجتياح الاسرائيلي للبنان.
كان الشيخ بشير حينها في صعود لا يقاوم، وكانت المعارضة له قد بلغت ذروتها من الفريق الداعم لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن من دون فعالية تذكر. فياسر عرفات كان يتحضّر لمغادرة لبنان، والقادة اللبنانيون مما كان يُعرف باليسار أضحوا في تراجع، ولم يكن قد ولد بعد «حزب الله». بعد اغتيال «الرئيس القوي»، تغيّر كلّ شيء، وبدأت الأحداث والتطورات الميدانية تتراكم وتتعاظم، وانعكست تفكّكاً على مستوى الدولة والشعب. وبدلاً من هويّة وطنيّة جامعة نبتت لنا هويّات بأوجه عدّة. واذا كان الرمز المالي لهذه الهوية، الذي طالما عكس قوة لبنان المالية والاقتصادية، يعتبر عنصراً جامعاً للبنانيين، فإنّ انهيار العملة الوطنية حينها شكّل ضربة اضافية لمصلحة منحى التفتيت.
ففي شباط من العام 1984 بدأ الهبوط غير المسبوق لليرة اللبنانية بعدما كانت من أهمّ العملات العالمية، عاكسة صورة الازدهار والرخاء الذي نعم بهما لبنان إلى حدّ بعيد. وقد تمكّنت من الصمود في وجه العواصف، في ظلّ الرؤية الثاقبة للرئيس الياس سركيس. إنّ التدحرج لليرة اللبنانية الذي بدأ في بداية العام 1984 بلغ ذروته في العام 1992، فمن ليرتيْن ونصف الليرة للدولار الأميركي الواحد تراجعت قيمتها حتى وصلت إلى حوالى الثلاثة آلاف ليرة، فيما بلغ الحد الأدنى للأجور في العام 1986 ستين دولاراً فقط.
مع وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم عام 1993، تمّ اعتماد نهج مالي واقتصادي جديد طالما تعرّض للانتقاد من اقتصاديين ومصرفيّين وخبراء ماليين، ولا سيما لجهة تثبيت سعر الليرة على قيمة ألف وخمس مئة مقابل الدولار. قالوا يومها إنّ العملة لا يمكن تثبيتها وهذا الأمر لم يحصل في أيّ بلد من العالم لأنّ العملة بالمطلق يجب أن تترك للعرض والطلب في السوق، صعوداً أو هبوطاً وبهوامش ضيقة. ولمّا اغتيل الرئيس الحريري بقي المؤتمن على الليرة ثلاثين سنة ضارباً بعرض الحائط كل الدراسات التي تدحض تثبيت العملة.
واليوم، ها قد تطوّر الأمر بشكل خطير حتى أصبحت العودة بالعملة الوطنيّة إلى مجدها أضغاث أحلام ولا سيما بعد الدولرة، التي طغت على الساحة والاسواق. وبعد حوالى اثنين وأربعين عاماً على انطلاق هذه الوقائع الدراماتيكية من سياسيّة وماليّة، ترى اللبنانيين على اختلاف طوائفهم واصطفافاتهم قد خسروا تقريباً كلّ شيء. خسروا استقرارهم ومؤسّساتهم وودائعهم ومداخيلهم وعملتهم الوطنيّة، ويكادون يخسرون هويتهم، هذا فيما يتناوبون على اتّهامهم يوماً بالطائفية والعنصرية ويوماً آخر بالعمالة والخيانة. ويوجّهون إليهم التهديدات والتحذيرات فتراهم قابعين في مواجهة الاقدار والمؤامرات. أما في حسابات الطوائف فيمكن القول إنّ الموارنة خسروا فائض القوة باغتيال بشير الجميل، والسنة خسروا فائض القوة باغتيال رفيق الحريري، والشيعة قد يخسرون فائض القوة اذا ما ذهبت الحرب بنا إلى منعطفات خطيرة وغير محسوبة.
وتبقى أسئلة كثيرة ستظل مطروحة حتى الوصول إلى تسوية كما دائماً، لا إلى حلّ يتمناه الجميع. فالتسوية هي هدنة بين حربين، فيما الحلّ هو انهاء الحروب وبداية الازدهار. في التسوية هناك فريق سيدفع الثمن سياسياً، وفي الحلّ تُرفع الصلوات للضحايا، ويعيش الناس بسلام. والجميع يرفع الصلاة لعودة الليرة إلى قواعدها وعودة الوطن إلى الوطن.
***
*نداء الوطن 19-1-2024