تسلّم وتسليم بين المخلّفات الثقيلة

 

   سعيد غريّب

 

على إيقاع التحوّلات الكونيّة الكبرى والتطورات الاقليميّة الدراماتيكيّة، يتسلّم العام 2024 من العام 2023 مخلّفات ثقيلة. وعلى الرغم من ذلك، يثبّت شعبنا، لمرة أخرى، تلك الظاهرة الكونيّة في الترحيب بفرح جديد وآمال آتية، يمثّلها عبور وهمي من زمن إلى زمن.

وكالعادة، يبدو هذا العبور وداعاً لسنة فائتة كأنّها العدو، واستقبالاً لسنة جديدة وكأنّها الصديق الآتي بالترياق. فهي المحبوبة سلفاًـ لأنها تحيي في النفوس الشيء العميق المختصر بعبارة: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». فما بالها بارقات الأمل تبحث عن مكان لها، وسط دوائر العبث والفراغ المدمّر القائم حالياً، والمخطط له أن يتعمّق اكثر في المرحلة المقبلة، إن بقي الحال على حاله؟

صحيح أنّ بنا شوقاً وتوقاً كبيرين لأن يصحّ الصحيح وتعود الحقوق إلى أصحابها، على مستوى الأفراد والأوطان، ولأن يسود بعض العدل أرجاء العالم الذي يسوده القهر ويغزوه التخلّف. الا أنّ الجردة التقليديّة لعام مضى تظهّر لنا الحجم الهائل من المشكلات الناجمة عن إدبار البشرية عن التزاماتها الانسانية، وتراجعها عن معايير الحفاظ على الطبيعة، والتفافها على معايير الخير والحق. وفيما تتراجع الموارد الطبيعيّة، ويتعرض المناخ الكوني إلى تغييرات مخيفة، وحدها أعداد السكان في ارتفاع مضطرد، ووحدها الأحقاد تغذّي العالم. واذ بنا نودّع عاماً فيه من الأحقاد ما يكفي لترثه أجيال وأجيال، تغذّيها حروب الطمع والاستبداد، التي تأخذ في دربها القضايا المحقة وتنحر الأطفال بلا ندم.

ونودّع عاماً كادت البشرية فيه أن تقع في محظور بعد أكبر لولا روادع الواقع المكبّل أحياناً. كما نستعد لنستقبل عاماً مقبلاً فيما تأتي كل مغامرات الانسانية كأنها عشوائية، لا قرار فيها، وكأنّها ليست الا حصيلة سلسلة من ضربات الحظ.

وسط هذا الاضطراب العالمي، يتحفّز لبنان وأبناؤه للمجهول الآتي، بكلّ صمود، ويواجهون المستقبل مهما حمل، فيبدو لبنان البلد الوحيد، ربما على وجه الأرض، الذي يكمل حياته بالمعجزات وبإرادة شعبه القويّة من دون أيّ حياة للمؤسّسات الدستورية. فالبلد الذي لم يعرف أو يذق طعم الدولة، طوال عمره القديم والحديث، باستثناء بضع سنوات في بداية خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يكيّف حاله أيضاً مع هذا العالم الصعب، المفتقد إلى الفكر والقيادة الحقيقية.

أما في الداخل، فيعوّل اللبنانيون منا، كما في مطلع كل سنة، على خير السنة الجديدة. ويحلمون بتغييرات فعلية تسمح بإعادة ترتيب بيتهم، بدءاً من ملء فراغ كرسي الرئاسة الاولى، وانتظام مؤسساتهم واعادة أموالهم، واستعادة وطنهم دوره الرائد. هم يأملون في رؤية نجم جديد في السماء لم يسبق لهم أن رأوه. فهل يمكن أن يأملوا في تحوّلهم إلى شعب ينتخب ولا يصوّت، وفي ايصال سياسيين يريدون انتخابات لا مقاعد، وفي الغاء طائفية سياسية تعزّز حكامهم وحسب، هم الذين لم يتبدلوا منذ عقود الا بالأبناء والفروع والأصهرة؟ وهل يمكن أن يأملوا أنّ الوطن «راجع يتعمر» على قياس لبنان الأجداد، بثورة روحية وتربوية واجتماعية وفكرية وثقافية، يقوم بها شعب واحد حر واع ليكون ديموقراطياً؟

الأكيد أننا نريد وطناً شامخاً وذكياً وعفيفاً وهادئاً، عائلاته متّحدة لا تفرّقها الخيانات والأطماع. رجاله شامخون وأذكياء، لا يكون هاجسهم الوحيد الصفقات. يسوده عيش هنيء ومريح، لا تعكّره اطلالات المنجّمين والفلكيين، بل تقوم مساحة أمانه على قيادات حقيقية، عميقة جذورها في الوطن وليس في المهجر، وعلى مسؤولين بضمائر حية.

فنأمل أنّ ما سنأكله ليس فاسداً، وما نقرأه ونسمعه ونشاهده ليس كاذباً. نأمل بحياة خالية من التصنع النفسي والتصنيع الجسدي وبألّا نتعامل بعد اليوم بالتزوير والتهريب والدعارة والسعي إلى الفساد. السنة جديدة وآمالنا قديمة: دولة نظيفة وادارات نظيفة وشاشات نظيفة.

***

*نداء الوطن  14 كانون الأول 2023

اترك رد