بقلم: الدكتور ربيعة أبي فاضل
1- بين التّأصيل والتحديث
يتّفق الباحثون في اللّغة وشؤونها، والقراءَة وأَنماطها، على أنّه يتعذّر التّفاهم والتواصل في فحوى موضوع معيَّن إذا كانت حدودُ المصطلحات ومفاهيمُها، حول الموضوع، مشوَّشة وتفتقر إلى التَّقييس (وضع المقاييس) والتوَّحيد (توحيد المصطلح أو المعايير المؤديّة إليه)، والتّرسيم والتنظيم[1].
وفي مجال توضيح هذه الحدود، ووظائفها، نلاحظ أنّ المؤلّفات النقديَّة تتطوَّر بشكل سريع، منذ العقد الأَخير من القرن الماضي، وهي تستوحي بشكل لافت ومتصاعد، معجم المصطلحات النقديّة، في الغرب، وأُفق استخدامها، وطبيعة مقامها. فبينما توقّف إحسان عبّاس عام 1971 ، على السّرقات متتبِّعًا المفاهيمَ التّراثية، من جودة ورداءَة، وتفوّق[2] ، رأينا زكي نجيب محمود يُحدّث عام 1979، عن القارئ الذي يدركُ ما وراء النَّص، ويكون قارئًا لقارئ، أي ناقدًا يكشف أَبعاد المقروء وأعماقَه، ولمسنا عنده إشاراتٍ إلى فرويد ويونغ و”الأرض اليباب لإليوت[3]. وتزامنًا (1979)، رأَينا كمال أَبو ديب، في “جدليّة الخفاء والتجلّي”، يَستوعب المقوّمات الجوهريّة للبنيويّة، لفهم دلالات مكوّنات النّص وإشعاعاته، شأن الثنائيات المثقلة بالدّهشة والمفاجآت، وأَسرار المعاني[4]. وبعد بضع سنوات كتبَ محمد مفتاح، عام 1985، “تحليل الخطاب الشّعري” (استراتيجيّة التّناص)، وكان شأنَ سابقه “أبو ديب”، متضلّعًا من الثقافتين، العربيَّة والغربيَّة، وحاول إيجاد تعريف جامع مانع للتّناص، على أنَّه تعالقُ نصوص مع نَصّ، يُعيدُ إنتاجًا سابقًا في حدود من الحريّة[5]. وراحت تترى، عام 2000 ، التَّرجمات والاجتهادات لنقل نصوص حول التأويل والتّفكيك والمناهج والمصطلحات[6] ، على قاعدة تحديث التّراث النَّقدي، وتأصيل الحداثة (الردّ إلى أُمّ مباشرة أو جدّة من التراث).
2- الآداب والنقد المنهجي
وقد عايشنا في كليّة الآداب – الفرع الثّاني نهضة، نقديّة، في فضاء هذا التّطور النّاتج من تفاعل الثقافات والحضارات، على غير صعيد. ومنذ كتب د. نبيل أيّوب “النّقد النّصي” عام 2004 ، بعد “التّعبير ومنهجيّتُه وتقنيّاته”، وبعد توسيع أُفق نقده، نظريّاتٍ ومقاربات، عام 2011، في كتابيه :”النقد النصّي وتحليل الخطاب” و”نصّ القارئ المختلف وسيميائية الخطاب النقدي”[7]، حدث تحوّل على مستوى المنهجيّة والمناهج، والثقافة النقديّة، ما تطلّب مرحلة انتقاليّة للتحوّل من القراءَة التقليديَّة إلى الأُخرى التي تنهج نهج آباء النقد شرقًا وغربًا. ولم يكن لأَيّوب فضل الخروج على النقد الانطباعي المكرّر، وحسب، إنّما أَطلق مناخًا لطيور مباركة، طليعتها، في مقام النّقد، أديب سيف في كُتبه، ومنها : “الملاءمات النّقديّة من عالم الدلالة إلى معالم التأويل”، و”سيمياء العدد والقلق الأكاديمي”[8]. وميزة أيوب وسيف أنّهما يجيدان فهم المناهج الغربية بلغاتها، من دون رتابة التّكرير والتَّرجمة المصطنعة، وتشويه المصطلحات، من هنا كونُهما، حتمًا، ناقدين عالمين، وقارئين تأويليَّين بارزَين. ولا شكّ في أَن كتابي هدى رزق ويوسف عيد مثّلا محطة جديّة، ومسؤولة، وتنويريّة، في سياق النّقد العلمي، الـمُـشرق، النابض بالنَّباهة والحياة: –
[Petites clefs pour grandes oeuvres [9
وجعُ العبور إلى النّص الآخر”[10]
وإذا كانت ليليان سويدان أَشارت إلى مهارة رزق ناقدةً ، وشغفِها بالقراءَة والكتابة، فَإنّ ما حاول تقديمُه صاحبُ :”وجعُ العبور إلى النّص الآخر”، هو محاولاته الجادّة لفهم مصطلحات النَّقد قديمًا وحديثًا، وتوظيفها في قراءة الشّعر، شأن ما حقّقت هدى رزق في مقاربتها الحارّة لنص ﭘول إلوار (SANS ÂGE). وتبقى محاولةُ الدكتور عيد مرتكزةً في إطار إزالة الخلط أو الالتباس عن مصطلحات ومفاهيم، قد لا يكون لها مواز في تراثنا.
3- البحث عن حقيقة المفهوم
وأمام دخول المفاهيم “برج بابل النَّقدي”، كما قال عيد، وبإزاء تحوّل الانفتاح على نظريات الغرب النقديّة إلى انبطاح، وكثرة الالتباسات المفاهيميّة، رأيناه يتوقّف على معجم من المصطلحات، منها : الشّعرية، التّناص، التضمين، العبور النّصيّ، الفضاء التأويلي، السّبك، التكرار، الانزياح، الإحالة، التّضام، الحذف والحبك، العدسة النقديّة، ديناميةُ التناص واستراتيجيّتُه، البنية، الحِزَم الدَّلالية، الاستدانة، الاسترجاع، السَّرقة، السلوك النَّصّي، أساطير النظريات، الجنون النّظري، فينيشيّة النّص، النقد المحايث، القراءَة، التوازي، المفاتيح، الخطابات، الترابطات المتناظرة، قانون التبادليّة، التأويل، الثنائيات… القوة الإنجازية، التصحيف (paragramme). ولم يكتفِ النّاقد بتحديد موجز للتناص أَو للشعرية، وغيرها، إنّما كان يكرّر ويذكّر، في معظم فصول كتابه، بماهية التّناص والشّعرية، ويبسط التّفاصيل، مستعينًا بالمصطلحات الغربية – الألسنية تارة، وأُخرى بالنقد العربي الكلاسيكي. وكلُّ نَص كما رأى، هو مخزون لنصوصٍ لا حدود لها، ويشكّل حقل التّناص، إذًا، بناءً متعدّد الأَصوات والقيم[11]، والتفاعلات، على تنوّعها (امتصاص، تذويب، إبداع ألخ)، وقد استعان بـGérard Genette، وآخرين، للكلام على أنماط التّناص[12] وأصنافه[13]. وهكذا توقّف على الشعريّة التي تعتمد المجازات اللغوية لكشف قوانين الإبداع في النّص الأدبي، شعرًا ونثرًا. وقد ميَّز الشعريّة وَحُكمَها العلميّ، من الجمالية وحكمها الحدسيّ[14]، وهي اجتهادات نجدها تتردّد في كتابات مغربية وجزائرية، وعربيَّة، وقد وجَدت حضورها الموضوعيّ، عندنا، مع كتابات الدكتور نبيل أيّوب حول النقد النصّي، والقراءات، والمناهج. والذي أَضافه عيد، في رؤيته، هو عدم الاكتفاء بالتفكيكات الميكانيكيّة للنّصوص الشعريَّة، والعبور نحو الروح الإنسانية، في النقد الشّعري، والعوالم الروحيّة[15]. وباختصار أراد وضعَ الطّاقة الألسنيّة في خدمة التجربة وجوهرها الخفي والراقي[16]، أي الذّهابَ بالتأويل إلى قراءَة الحاضر والغائب معًا. وتجلّى ذلك في قراءَته لبعض شعر درويش والخال وأبي شبكة وأبي فاضل.
4- البحث عن مفهوم الحقيقة:
وبناءً عليه، كانت قراءَته لرمزيّة الأزرق، والأرض والسّماء، في قصيدة محمود درويش[17]، وإشارتُه إلى البيت الشّعري، المقرّ الدافئ لسكن الرّوح الشّاعرة[18]، وإلى لا نهائية اللون، وبالتالي التّجربة التي صدرت عن الإنسان، لكنّها أبعدُ من المكان والزمان. وفي المقابل، فإنّ يوسف الخال، بدلاً من الرَّحيل الأزرق وراء نقاء آخر، كما فعل درويش (من المفيد العودة إلى كتاب مهى جرجور :”محمود درويش قراءة جديدة في شعره، الدلالة الثانية “دار العودة، ط1، 2009، (البحر، ص65)، عاد إلى بئر القلب، إلى ماء الرّوح المجدّد الذات والحياة، والمحرّر من العقم ومأسويّة الوجود[19] ، إلى بحر المسيح بحثًا عن نقاء لا يُلوَّث[20]. لذلك، فالعبور إلى النّص، في نقد عيد، هو مرحلة تؤسّس للعبور إلى النّفس، وبالتالي إلى مثالها عبر رمز ابراهيم، وهذا ما سمّاه الناقد “العبور الدِّيني”، في حياة الخال، ورحلته[21]. ومن أزرق درويش إلى الولادة بالماء، لدى الخال، وإلى توبة الانتصار على الثنائيات، في معاناة أَبي شبكة، والعبور من الصّراع إلى الانسجام[22] ، حاولنا أن نرى كيف أَنّ البنية الشعريّة والجماليّة هي في خدمة الموقف والرؤية، أَي في مقام البحث عن الحقيقة. أولم يقل أفلاطون إنّ الفيلسوف الحقّ لا يغدو إنسانًا نبيلاً إلاّ عبر شغفه بالحقيقة؟
“[L’attachement à la vérité, qu’il doit prendre pour guide et poursuivre en tout, et partout…”[23
وفي هذا المقام، لا يحقّ لي هنا، أن أتكلّم على قراءَة عيد لتجربة الشَّاعر في :”عطشان يحنو على الينبوع”، فهو يتمتّع بمنتهى الحريّة والطّاقة لتذوّق أقرب النصوص إلى قلبي، لكنّي أكتفي بالقول إنّ صفات العزلة والمعرفة ورحلة العبور نحو الينبوع – الله، والعطش إلى الحريّة، والبعد الكوني في المعاناة، كلّها مفاتيح تساعد على فهم عالمي الخفي والظّاهر، وعلى تذوّق لغتي المشحونة بالتخيّيلات والتمزّقات والزّهو الخالق. وقد ألبسني الله نعمةً، وكرامةً، وأنا أكاد أُنهي ربع قرن من حياتي الجامعيّة، بأن جمّل زماني وحياتي بصداقات زارت حديقتي، وسقت أزهاري بغيث المحبَّة والأنس والوفاء : ديزيره سقّال، نبيل أيوب، ربى سابا، أديب سيف، ناتالي خوري، طوني الحاج ، بيار شلالا، يوسف عيد، موريس عوّاد. وأكتفي بالقول الآن، إنّ البحث الذي تضمّنه الكتاب، حول البعد الصّوفي في قصيدتي العطشى، هو غنيّ وعميق، وقد كُتب بحبر الرّوح، لأنّ عذوبة العذاب، لا يُعبَّرُ عنها بالعاديّ والمألوف[24]. وكل ما أستطيع قوله، في هذا الموضوع، أَنّ كتابة هذه القصيدة لم تكن بقوّة الوعي أو اللاوعي بل بنعمة الانخطاف، حيث يغدو الزمان والمكان والإنسان سحابةً تلفّ الكائن، وهو داخلها، يتناغم مع ذاته والأشياء، ويبعث من صمته البليغ نشوة تتردّد وسطَ هياكلِ المساحة الكونيّة. بهذا المعنى، لم يعد الشعر لعبة بلاغيّة بل هو حقل القيم المتفتّحة على المطلق، والـمـُعانَيات المفوِّحة فضاءَها ، والعالم، والحقيقة الحرّة المطمئنة.وتبقى قراءَة عيد الدّيوان محاولةً للدّخول في عرفانية الارتقاء، لدى الشّاعر، وهو لم يلتزم نهج تراث قال عن الدّنيا : “مَنْ عبَرها سَلِمَ ومَنْ عمَّرها نَدِمَ” بل استمرَّ قياميًّا، خبزُه الفرحُ، ولو عاريًا على صليب الزّمان والمكان! وقد وضع الناقدُ اصبعه على هذا الجرح الطَّيِّب!
5- خاتمة:
إنّ محاولة الدكتور عيد، بعد تجارب الدكتور أيوب، في مجالات تحديث النَّقد واستكمال الدكتور سيف الرِّسالة الصَّعبة، اتّسمت بالحرص على تقريب المفاهيم من القارئ. وإنّ معجمًا بالمصطلحات النقدية الحديثة الغربية، يُستلّ مما كتب الثلاثة الباحثون، يُشعرنا بأزمة حادة، وبمشكل، يجعلنا نكرّر بأَلسنة طلاّب اليوم، وهم القرّاء الأَقرب مِنّا إلينا :”لماذا لا تكتبون ما يُفهم”؟ على طريقة أَبي تمام، فيُجيب هذا الأخير : “لماذا لا تفهمون ما أكتب!”، الحقيقة أنّ الفلسفة اليونانية التي أغنت الشّعر، بناءً وتحليقًا، تحوّلت، في هذا النّقد الرّزين إلى تلقيح أدبنا الوصفي بالكثير من الإبداع العلميّ، وبمئات المصطلحات الفرنسية والإنكليزية، التي من المتوقَّع أن تُنميّ خطابنا النقدي، ومفاهيمنا، وتنهض بثقافتنا . لكن، إلى أيّ حَدّ تستمكن هذه الترجمة التأصيليّة (العلم بمقاصدها ووضوح أهدافها)، من التواصل مع المتلقّي، وإدماج النّص المترجم في البيئة المعرفية واللغوية للثقافة المتلقيّة، لتكون قادرة على الانتاج الفكري؟[25]، ولتناسب الخصائص التَّداولية لمجال المتلقي؟ إنّ احتكاكنابطلاَّبنا، في غير معهد وكليّة، جعلنا نلاحظ أنّ مادّة النّقد الصّعبة، الـمُمنْهجَة، المثقلة بحقول المعرفة، وجدت تجاوبًا لدى قِلّةٍ نخبة من الأَحبّاء، فإلامَ يعود الأَمر؟ هل هو عجزٌ عن فهم المصطلحات الأَجنبية، وعن الخوض في تعقيدات النّظريات الحديثة؟ هل هو تقصير، وإشاحة عن الأصعب لاختيار الأَقرب؟ وما العمل لتبسيط التلاقح، على صعيد النّقد، ما بين الأصيل التراثي والـمُحدث الـمُستجلب من الثقافات الأُخر؟
إنّ عملك، يا صديقي يوسف، ولو في مَقام القراءَة، إنَّما كُتبَ بحبر الروُّح والوفاء، وبعمقٍ ورقيّ، بَرْهَنا أَنّ الشاعر عندما يكتب نقدًا أَدبيًّا، يَمنحُه بعدًا مختلفًا، وتأويلاً نبيلاً.
هوامش
[1] – علي القاسمي، علم المصطلح، مكتبة لبنان، ناشرون ط1، 2008، ص 355.
من المفيد العودة إلى محاضرة أَحمد شفيق الخطيب، مكتبة لبنان، 1989 (التقّييس والتوحيد المصطلحيّان في الوطن العربي)، ص 8
[2] – إحسان عبّاس، تاريخ النّقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1971 ، ص 279 ، 301 (ط4، 1983)
* راجع أيضًا حامد قنيبي، دراسات في تأصيل المعرّبات والمصطلح دار الجيل، دار عمار، الأردن ط1، 1991.
[3] – زكي نجيب محمود، في فلسفة النقد، دار الشروق، بيروت، 1979، ص109 – 110.
[4] – كمال أبو ديب، جدليّة الخفاء والتجلّي، دراسات بنيويّة في الشعر، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1979، ص 11،13، 14، 294.
[5] – محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، (استراتيجية النّص)، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1985، ص 121، 124،
[6] – راجع مثالاً : سعيد بنكَراد، أومبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكيّة، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2000.
[7] – مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 2011.
[8] دار العلم للملايين، 2006، 2014.
[9] – Dar el- Machreq, Beyrouth, 2010
[10] – دار نعمان للثّقافة، ط1، تموز 2013.
[11] – ن. ص 18 – 19.
[12] – ن.ص 31.
[13] – ن. ص 39.
[14] – ن.ص 79 – 80.
[15] – ن.ص 216.
[16] – ن.ص 217.
[17] – ن. ص 140.
[18] – ن. ص 141.
[19] – ن. ص 186.
[20] – ن. ص 188.
[21] – ن. ص 190.
[22] – ن. ص 213.
[23] – Platon, la République, Eds. Gonthier, Paris, 1963, p. 490
[24] – وجع العبور إلى النّص الآخر، ص 117 (إنّ الرّوح يتطلّب طعامًا وماءً روحيّين).
[25] – علي القاسمي، علم المصطلح، مكتبة لبنان، ط1، 2008، ص 177 .
******
(*) محاضرة ألقيت في الندوة ندوة حول كتاب الدكتور يوسف عيد “وجع العبور الى النص الآخر” ضمن المهرجان اللبناني للكتاب الذي نظمته الحركة الثقافية- أنطلياس (1-16 مارس) وشارك فيها: دكتور ربيعة أبي فاضل والدكتور عبد الفتاح الزين، ادارة الأستاذ نعوم خليفة