سعيد غريّب
بعد انتهاء أحداث العام 1958 بشعار «لا غالب ولا مغلوب»، اتّصل الرئيس الجديد للجمهورية، اللواء فؤاد شهاب، بالشيخ بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب، طالباً منه اقفال اذاعة «صوت لبنان»، التي كانت بدأت البث مع بداية الثورة، «لأننا نريد بناء دولة». استجاب الشيخ بيار، وأبلغ الأمر إلى الأستاذ جوزف أبو خليل. وكانت رسالة الوداع بصوت الأستاذ الياس كرم، الذي أنهى وداع المستمعين بالعبارة الآتية حرفيّا: «مستمعيّ الاعزاء، لست أدري متى وكيف وأين سألتقيكم من جديد، هنا صوت لبنان، صوت الحرية والكرامة».
أقفلت الاذاعة حوالى سبع عشرة سنة، لتعاود البث مع بداية ما أطلق عليها الجولة الرابعة من حرب السنتين وتحديداً في ايلول 1975 مع تمدّد الحرب إلى الشمال، وبداية انقطاع المحروقات، وتوسّع رقعة الاشتباكات. وكرّت سبحة الاذاعات الخاصّة، لتبدأ في الثمانينات فورة التلفزيونات الخاصّة. وعمّت الفوضى إلى أن سوّي الأمر في عهد الترويكا (الهراوي، بري، الحريري) باصدار «قانون المرئي والمسموع». وتوزّعت الحصص على قاعدة ستّة وستّة مكرّر، مانحة أصحابها صكوك ملكيّة يورّثونها إلى أولادهم والأحفاد.
اليوم وبعد تسعة وعشرين عاماً على القانون النفعي، تجري مناقشة قانون الاعلام في لجنة الادارة والعدل، وهي بحسب النائب جورج عدوان «تسير بشكل جيد. وتحترم معايير الحريّة والحداثة والشفافيّة الماليّة». أما وزير الإعلام زياد مكاري فاعتبر أنّ اللجنة لم تأخذ بملاحظات وزارة الاعلام، فيما أبدت جهات اعلامية وحقوقية تحفظات على القانون الذي وضع «على نار حامية».
يعيد طرح موضوع قانون الاعلام المقاربة الشاملة لهذا الشأن المحوري الذي يعكس صورة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي برمّته. فبين المنحى الرسولي الذي يراد لدور الاعلام كحام للحقيقة والديموقراطية والوطن، وبين الصورة الواقعية للاعلام الغارق في متاهات ضياع الهوية وتوزيع الحصص وتراجع المهنيّة، تبدو «نار القانون الحامية» هذه موضع تساؤل يمتدّ إلى مآل طبخة البحص التي يتم تحريكها منذ سنوات من دون نتائج حاسمة.
ولا عجب! فالواقع السياسي المأزوم وحال الاعلام المتحوّل في العالم يرخي بثقله على المشهد العالمي والمحلي. في لبنان، المسألة أكبر من الوطن الصغير. والبحث عن اعلام حقيقي صانع لرأي عام واع ومتحرك ومبادر، يبدو من شبه المستحيلات، في ظلّ بلد تتنازعه الطوائف، ومع اعلام خاص يصعب معه إعلاء قيم الموضوعية والشفافية. إنّ ثقافة الالغاء، التي زرعت في مجتمعنا منذ عقود، انتجت أحقاداً وكراهية وغضباً بلا حدود، والمشكلة الكبرى في واقعنا الاعلامي أنّ الأطر الموضوعة في بنود قانون المرئي والمسموع، والمحددة بشروط الترخيص، لم تكن كافية لتنجو الساحة الاعلامية من توزّعها عملياً بين قوى سياسيّة وطائفيّة أساسيّة، علماً أنّ هذا التوزيع السياسي انسحب على الاعلاميّين العاملين في هذه الوسائل. أما في المضمون فلم يعد ثمة جديد يقوله مع صياح الديك فوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية على عشوائيتها وخطورتها تلعب بأعصاب الناس على مدى الثواني. فيما الأقلام أصبحت سيالة وباتت الكلمة تخجل من نفسها ولم تعد تعرف ذاتها لا فكراً ولا مضموناً ولا شكلاً.
ووسط تخلّف جديد يمعن في ضياع هوية لبنان وتقاليده، يمكن تلمّس مظاهر الحالة المرضية التي يعبر فيها وطننا واعلامنا، وفي مقدّمه الشاشات اللاهثة خلف رفع نسبة المشاهدين. ولعلّ أبرز ظواهر هذه الحالة المرضية، الموزّعة بين المضمون والشكل، تتجلى انطلاقاً من الانحياز إلى لعبة الصراع المحلي والاقليمي والدولي، إلى تبديل الاتجاهات مع تبدل التمويل، إلى الانخراط في لعبة الابتزاز للمصالح الخاصة، إلى طرح المشاكل الشخصية لمالكي المحطات وشؤون قريتهم، وصولاً إلى الانتاجات الهجينة البعيدة عن الثقافة والذوق والتي لا تنهل من تقاليدنا اللبنانية وقيمها. إنّ بعض الشاشات يُسهم في تشويه هوية لبنان حتى الالغاء، من خلال نوعية ما تبثّه. ويسهل عليها ارسال إشارات تنمّ عن خجل من الهوية اللبنانية وتكابر عليها، فترى أمامك ألوان هذه الشاشات على شاراتها الرسمية، من ألوان العلم الفرنسي إلى الكلمات المكتوبة باللغة الانكليزية في جينيريك المسلسلات اللبنانية، إلى الحوارات خصوصاً الصباحية المطعمة بالانكليزية، إلى المقابلات مع الرياضيين الذين يدردشون بالانكليزية وكأننا في بريطانيا مع الدوري الانكليزي.
وفيما يتغلّب الشكل على المضمون ويتفاعل الجمهور مع الخبر العاجل الفارغ المضمون والقيمة متقبّلاً الأخطاء وليس اقلّها اللغوية، يتأكد تشليع أو تدمير ما تبقى من مؤسسات اعلامية رسمية. حتى صحّ القول إنّ الاعلام في لبنان بل معظمه هو جزء أساسي من المنظومة الفاسدة، ولن يصلح الأمر لا «قانون» ولا «غيتار».