“صمت الغابة” صرخة الدويهي في برّيّة الإنسان… كتاب جديد للأديبة مريم رعيدي الدويهي

 

 

 

الأديبة مريم رعيدي في كتاب جديد، يصدر في العام 2024، من موسوعة “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي التي تجاوزت 120 كتاباً في أستراليا، “صمت الغابة صرخة الدويهي في برّيّة الإنسان”- مقاربات نقديّة وتحليليّة لقصص قصيرة من مجموعة “صمت الغابة” للأديب د. جميل الدويهي.

الكتاب يضيء على نصوص قصصيّة تتراوح بين الواقعيّة والرمزيّة والسورياليّة اللامعقولة. وتحاول الأديبة مريم الدويهي البحث في هذه النصوص والكشف عن أبعادها، في مساهمة نقديّة مهمّة، لعلّها تسدّ النقص الحادّ في نقد أعمال الدويهي في أستراليا، المتعدّدة شعراً ونثراً وأكاديميّة وتأريخاً وفكراً…

والأديب الدويهي ما زال يقدّم أعماله الرائدة، من غير توقّف، في مشروعه المجّانيّ، من أجل نهضة اغترابيّة ثانية غير مسبوقة من حيث النوع والقيم الإنسانيّة الرفيعة التي يسعى مشروعه إلى الترويج لها، مخالفاً المنطق العامّ والمألوف في المجتمعات. (من مقدّمة كتاب الأديبة مريم)

***

ملاحظة مهمّة: يمكن أن تضاف إلى الكتاب أيّ تعليقات نقديّة، أو إضافات يتفضّل بها الأصدقاء والأساتذة، لإغناء المسيرة الأدبية والفكريّة المهجريّة.

-النصّ 1

الخير فقط – بقلم جميل الدويهي

كان عليّ أن أصل إلى الطابق الثالث عشر في بناية، تقع في الوسط التجاريّ. فقد كان اجتماع مجلس الإدارة في الشركة التي أعمل بها، على وشك الانعقاد، وبصفتي مسؤولاً عن الماليّة، يجب أن أكون هناك في الوقت المحدّد.

ارتفع المصعد بطيئاً، ثمّ تسارع لدرجة لم أعد أشعر فيها بأنّه يتحرّك. لم يتوقّف عند الطابق الثالث عشر، بل تابع صعوده، وتخطّى الطابق العشرين، ثمّ الثلاثين، فالمئة والثلاثين.

ما هذا يا ربّ؟ هل حدث عطل في عدّاد المصعد؟ وهل وصلتُ أم لا؟

ضغطت على زرّ التوقّف، ثمّ على زرّ يفتح الباب، فانفتح، وفوجئت بأنّ المصعد خرج من سطح البناية، ووصل إلى ما فوق الغيوم.

لم تعد المدينة ظاهرة. مشيت على الغيم بخوف ورهبة، وقلبي ينتفض في صدري.

أين أنا؟ صرخ سؤال في داخلي… وهل أنا في حلم أم يقظة؟

كانت فوق الغيم حديقة واسعة، بل غابة مترامية الأطراف، فيها من كلّ أنواع الشجر. وليس من شجرة برّيّة لا تثمر. ولفتت انتباهي شجرة واحدة فيها فاكهة حمراء، سُيّجت بعناية وإتقان، فلا يستطيع أحد أن يقطف منها. جعتُ، فتوجّهت إلى الأشجار التي تمتدّ على يميني، فوجدت أنّ كلّ ثمارها من أحجار كريمة، عقيق، وزبرجد، وألماس، وياقوت… فخفت أن لا أجد شيئاً أقتات به، لكن على يساري كانت الأشجار مثقلة بالخوخ والتفّاح والإجاص والكرز. فواكه ليس أطيب منها… فقطفت وأكلت حتّى شبعت. وما هي إلاّ لحظة، حتّى ظهرت من بين الأشجار امرأة رائعة الخلقة، لم أر أجمل منها في حياتي، لا في الصور ولا في الأحلام. كانت تحمل قنديلاً مشتعلاً. رمقتني بنظرة لطيفة، ومدّت يدها إليّ، وقالت بهمس رقيق:

تعال أيّها الرجل… تعال إليّ!

كنت ذاهلاً عن نفسي، وخائفاً من كلّ شيء، ومنها أيضاً، فتلعثمت وتردّدت، وقلت لها:

إلى أين؟

قالت: إلى هذه الغابة التي هي ملك لنا.

-لا… لا… ربّما تريدين بي شرّاً؟

-الشرّ؟ أيّ شرّ؟ إنّني وحيدة في هذا المكان منذ خلق الله الوجود، ولا أعرف إلاّ الخير، فالشرّ لا وجود له في أيّ مكان هنا… لو أتيت معي، فستعيش بريئاً وطاهراً، ولا تفعل إلاّ الفضيلة.

ارتعد قلبي من هذه الكلمات التي هي غريبة عنّي، ومن النادر أن أعرف معناها في العالم الذي كنت فيه.

قالت: هي فرصتك الوحيدة، لتصبح خلقاً جديداً، كتلك الأشجار التي تحمل على أغصانها المديدة كلّ ما هو طيّب ونبيل.

ثمّ التفتتْ إلى القنديل الذي تحمله، وأردفت:

هل رأيت هذا؟ إنّه لا ينطفئ.

ونفخت فيه مرّة، مرّتين، ثلاث مرّات، فظلّ ملتهباً.

قالت: هل صدّقتَني الآن؟… يمكن لأيّ امرئ أن يكون قنديلاً فيه لهيب صاف، ولا يخبو نوره…

كنت أهزّ برأسي رافضاً… وشاجباً كلّ شيء تقوله. وكانت إنسانيّتي الماضية تناديني لأعود إليها، وأمنع كلّ ما يمكن أن يغيّرني، حتّى ولو كان إلى الأفضل. رضخت لتلك الإنسانيّة المعذّبة، وتذكّرت أهلي، وبيتي، وأرضي، والشركة التي أعمل فيها، وتناقضي ما بين قوّتين هما النهار والليل، فانتابتني موجة من الحنين إلى الشمس المشرقة، وإلى العتمة التي تحجب الأسرار.

ولمّا يئست المرأة من تغييري، أدارت ظهرها لتغادر، فصرخت بها: أين المصعد يا امرأة؟

أجابتني: لا أعرف عمّا تتكلّم… ليس من مصعد هنا… على أيّة حال، ليس عليك أن تقلق… ستعود إلى عالمك الذي في الحضيض، وتخسر فرصة لا تحدث إلاّ مرّة في ملايين السنين.

^ ^ ^

ها أنا الآن مرميّ عند شاطئ البحر، قرب المدينة التي لا أريد مغادرتها، وتدخل في أذنيّ أصوات الآلات والعربات والقطارات، وأبواق السفن المبحرة بين الليل والنهار، فتغتبط نفسي.

نظرت حولي على الرمال، فوجدت القنديل نفسه الذي كانت تحمله المرأة، ولعلّها تركته معي، لكي أعرف طريقي، بيد أنّه كان منطفئاً بعدما عصفت به الريح.

***

2-إضاءة مريم رعيدي الدويهي

لا للخير فقط

في معارضة صريحة لعنوان الدويهي، يمكنني قراءة النصّ، وفكرته المبنيّة على مجموعة من إيمانات الدويهي الفلسفيّة، التي وردت في كتبه الفكريّة السابقة: التوازن الدقيق بين الخير والشرّ، الروح والجسد، النور والظلام. ومن يقرأ كتب الدويهي، يجده لا يخطئ مرّة واحدة في طرح هذا الموضوع. هو لا يدعو إلى الشرّ مطلقاً، بل إلى المحبّة والسلام. ولم يسبق الدويهي في أدب المهاجر أيّ أديب آخر كتب عن السلام بقدر ما كتب هو. ولا يخلو كتاب فكريّ من كتبه الاثني عشر من هذه القيمة الحضاريّة التي يؤمن بها إيماناً ثابتاً، لذلك نراه ينكفئ عندما تنشب الحروب، مندهشاً من قدرة الإنسان على تدمير نفسه طوعاً، ومصدوماً من الترويج الدعائيّ الذي يتبنّاه مثقّفون وقادة رأي من أجل الحرب وسفك الدماء.

الدعوة إلى الشيء لا تعني أنّه موجود، ولو كان موجوداً لما كانت هناك حاجة إلى الدعوة إليه، وفي المقابل، إنّ التبشير بالشيء لا يقتضي أن يصير موجوداً، فالدعوة صرخة في برّيّة الإنسان، لعلّه يعود إلى رشده، وهو كلّما تقدّم خطوة إلى الأمام، تراجع خطوات إلى الوراء – كما يقول الدويهي في أكثر من مكان، وسبب الشرور: حفنة من التراب، ودين يختلف عن دين الآخر، ولو أنصف الناس، وعادوا إلى عقولهم، لآمنوا – كما الدويهي- بأنّ هناك ديناً واحداً هو الله، وهناك ديانات متفرّقة اخترعها الناس (راجع “المتقدّم في النور” لجميل الدويهي).

المصعد رمز أكيد لرغبة الدويهي في الخروج من عالمه، لذلك يتجاوز المصعد عدد الطبقات في المبنى، ويخرج من سطحه، ليستقرّ فقط في الفضاء، وفوق الغيوم، حيث يبتكر الدويهي قصّة أسطوريّة، ربّما، أو فوق المعقول. وهو رائد السورياليّة في قصصه القصيرة، لكنّ سورياليّته ليست عبثيّة، بل تصبّ في إطار واقعيّ- إيمانيّ لا يتغيّر بمتغيّرات الزمن.

الدويهي “المسؤول عن الماليّة” (المادّة)، ينتقل إلى الأثير (الروح)، حيث تظهر له امرأة من غير عالمنا، هي الخير وحده، قنديلها لا ينطفئ، وتدعوه لكي يسير معها في الغابة، إلى الفضيلة والخير والنور والجمال، وهي قيم غريبة عن بيئته… بجرأة يوضح الدويهي أنّ استغرابه نابع من انتمائه إلى العالم الأرضيّ والسفليّ، وليس إلى العالم السماويّ الرفيع. لذلك يتحذّر من المرأة، ويمانع في مرافقتها، خائفاً ممّا يكمن وراء دعوتها. وهذا الحذر طبيعيّ لدى أيّ امرئ تقول له: إنّ وراء تلك التلّة أرضاً هي الجنّة بعينها، حيث لا تعب ولا جوع ولا ألم.

هل كان الأديب الدويهي راغباً في رؤية القنديل منطفئاً؟ هذا لا نعرفه، بيد أنّنا نلاحظ أنّ المرأة نفخت فيه أكثر من مرّة فلم ينطفئ. أمّا الأشجار في الغابة فثلاثة أنواع: شجرة واحدة مسيّجة، هي الشجرة المحرّمة التي يبدو أنّ الله قد سيّجها بعدما سطت عليها يد الخطيئة الأولى، فلا تتكرّر تلك الخطيئة، وإلى اليمين أشجار عليها جواهر. وإلى اليسار أشجار أخرى عليها فاكهة، وقد أكل منها الدويهي، ولم تمتدّ يده إلى الزبرجد والعقيق. وفي هذه المشهديّة المثلّثة الأضلاع دلالة مهمّة على رؤية الدويهي – ربّما الساخرة- من حقائق يعرفها الناس، ويعلنونها، وهو  الغريب كصالح في ثمود، المتمرّد على واقعه، المنعزل عنها بحكم اعتقاداتها الراسخة، واعتباره خارجاً على القوالب الجاهزة، والمتاجرة بالقيم من أجل ضرب القيم وتدميرها. فالقيمة الكبرى عنده هي الإنسان وليس التفصيلات التي قسّمت الأمم وجعلتها متناحرة تتقاتل من أجل الركام والحجارة ومعالم غير أساسيّة، ولا أهمّيّة لها سوى في الوهم والتخدير. يقول:  “وكانت إنسانيّتي الماضية تناديني لأعود إليها، وأمنع كلّ ما يمكن أن يغيّرني، حتّى ولو كان إلى الأفضل. رضخت لتلك الإنسانيّة المعذّبة، وتذكّرت أهلي، وبيتي، وأرضي، والشركة التي أعمل فيها، وتناقضي ما بين قوّتين هما النهار والليل، فانتابتني موجة من الحنين إلى الشمس المشرقة، وإلى العتمة التي تحجب الأسرار.”

يكمن في هذا المقطع التناقض بين رغبة الدويهي في الهروب من واقعه، ورغبة أخرى في العودة إليه. وهذا التناقض موجود في كلّ بشريّ على سطح الأرض، ما عدا السكارى والمخدّرين والمحنّطين وسكّان القبور. فالإنسان كتلة من التناقض بين قوّتين تتجاذبانه صعوداً وهبوطاً. ويكون الانتصار للهبوط – حتّى إشعار آخر، فيجد الأديب نفسه مرميّاً في الرمال الحارقة، التي تصهر الجسد والروح معاً، وخاضعاً مرّة أخرى لشكليّات المجتمع: الأهل، البيت، الأرض والشركة التي يعمل فيها… ويتجدّد الحوار في داخله بين الليل والنهار، بين الشمس المشرقة والعتمة التي تحجب الأسرار… هذا هو الإنسان في صورة الدويهي، وهذا هو قدره  في صمت الغابة، الصرخة المدوّيّة في برّيّة، لعلّ فيها مَن يسمعون ويتعلّمون!

وأبلغ ما يعبّر عن التضارُب في داخل المخلوق البشريّ، ما يكتبه الدويهي قائلاً: “يمكن لأيّ امرئ أن يكون قنديلاً فيه لهيب صاف، ولا يخبو نوره…

كنت أهزّ برأسي رافضاً… وشاجباً كلّ شيء تقوله. وكانت إنسانيّتي الماضية تناديني لأعود إليها، وأمنع كلّ ما يمكن أن يغيّرني، حتّى ولو كان إلى الأفضل. ”

وللحديث بقيّة!

***

*مريم رعيدي الدويهي: مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.

اترك رد