أبعد من الندم

 

 

 سعيد غريّب

 

مضت سنة كاملة، ولبنان الرسالة ينتظر رسالة من رئيس جديد منتظر يقبض على مقاليد الحكم ويقسم، أمام البرلمان، يمين الإخلاص للأمّة والدستور. مضت سنة كاملة، والجمهوريّة تبحث عن شخصيّة تاريخيّة فيما «التاريخيون» يبحثون عن جمهوريّة فارغة إلّا من تاريخهم.

بعد مضي سنة على الشغور الرئاسي، وأربع سنوات على زحف الفراغ الشامل، وليد الأزمات العاتية، في الداخل، بدأت الأروقة الدولية تشهد على مستويات متفاوتة بين دولة وأخرى وبين مسؤولين وباحثين، في طرح حلول جذرية – إنما لا تزال نظرية – للجمهوريّة، التي لم تعد تحتمل، برأي أصحاب الحلول، مزيداً من «الترقيع» أو التسويات. فهل الوضع قابل بل مناسب للانتقال إلى «جمهوريّة ثالثة»؟

ما لا شكّ فيه أنّ المكوّن المسيحي، وتحديداً الماروني، دفع غالياً ثمن الحربين الأخيرتين اللتين خاضهما والمعروفتين بحربي «التحرير» و»الإلغاء»، وكانت نتيجة مقاطعة الزعماء الموارنة الانتخابات الرئاسية في العام 1988 حين خيّروا بين مخايل الضاهر والفوضى، أن اختاروا الثانية. وكان نقل قبل ذلك عن رئيس الهيئة التنفيذيّة في القوّات اللبنانية، الياس حبيقة، قوله لمجلس قيادة القوات، في آخر جلسة ترأسها، قبل انتفاضة الدكتور سمير جعجع مدعوماً من رئيس الجمهوريّة أمين الجميّل «يا شباب اسمعوا مني واقبلوا اليوم بالاتفاق الثلاثي، أحسن ما يجي يوم تضطرّوا تقبلوا باتفاق أسوأ». وبقي السؤال: هل جاء اتفاق الطائف، بعد نيّف وثلاث سنوات على تلك الجلسة القواتيّة وكلام حبيقة، بالأسوأ؟

ما هو مفروغ منه أنّ الجدل حول اتفاق الطائف وإمكانيّة تطبيقه لا يزال مستمرّاً منذ إقراره، قبل ثلاثة عقود، حين رفضه العماد ميشال عون من أساسه قبل أن يطالب بـ»الفاصلة» الشهيرة، فيما وافق عليه سمير جعجع على مضض. وفيما اعتبر هذا الاتفاق دوماً مخرجاً من الحرب المدمّرة التي عاشها اللبنانيون، لا بدّ من الإقرار بأنّ الجمهورية الثانية كانت كلفتها باهظة على اللبنانيين، الذين عانوا من خمس عشرة سنة من التدمير والتهجير والخراب والموت، حيث خسروا أبناءهم وبناهم التحتية وتراجعوا عشرات السنين.

لبنان بعد ثمانية وأربعين عاماً على اندلاع حربه الكبيرة، أصبح منكوباً دستورياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً وبيئياً وإعلامياً. هل يتحمّل نظاماً جديداً لا توافق وطنياً عليه؟ ويحضرنا هنا كلام لرئيس الحكومة الراحل الحاج حسين العويني، قاله العام 1958، وكان أحد الوجوه الأولى التي أطلّت على اللبنانيين بعد محنتهم الأولى. قال: «إنّ مثلنا في لبنان مثل أخوين ورثا عن والديهما داراً تأويهما، فهما إن لم يُصلحا دائماً في شأن هذا الدار، ويرعيا ترميمها رعاية تامة، ويعنيا بمقوّماتها، انهارت فوق رأسيهما».

بعد كلّ ما تقدّم، نرى القيادات، ولا سيما المارونية منها، تتجادل وتتراشق بالكلام التخويني تارة، والحقوقي بل الدستوري تارة أخرى، والشعبوي مراراً مقروناً بمزايدات حول تطبيق الدستور في بلد ينازع ويتحلّل. وهنا يحضرني كلام كبير قاله الجنرال ديغول حين تعرّضت فرنسا لأزمة كبيرة: «لن أضحّي بمستقبل فرنسا من أجل نص ولو اسمه الدستور». إنّه الإيمان ما ينقصنا والأمل أيضاً. ألا فلنفتّش عنهما ولنفتّش عن الرئيس العتيد والشخص المناسب. وليعذرنا المرشحون للمنصب الأوّل في الدولة، إذا لم نجارهم في همومهم المباشرة، فنحن اللبنانيين طلاب حياة جديدة لشعبنا المنكوب في وحدته واستقراره.

ويبقى ألّا يندم المسيحيون على الجمهوريّة الثانية كما ندموا على خسارة الجمهورية الأولى.

***

* نداء الوطن 16 تشرين الثاني 2023

اترك رد