مصالح الدول ودول المصالح

 

   سعيد غريّب

 

حُكي في إحدى النوادر السياسية أنّ رجلاً ضاق صدره من كثرة الأحاديث عن السياسيّين اللبنانيين و»خزعبلاتهم»، فأقسم أن يذهب إلى مكان لا أثر لهؤلاء فيه. فرحل شطر الشرق موغلاً في أعماق أوروبا فآسيا، حيث خيّل له أنّه قد وطأ أرضاً لا يمكن أن يكون فيها أيّ أثر لهم. فألقى عصا التسيار، وقصد في اليوم التالي مقهى ليرتشف فنجان قهوة، وإذا بالمكان يعجّ بنواب وسياسيين لبنانيين من فريقي النزاع يدردشون ويقهقهون بملء أفواههم.

تختصر هذه المشهدية الساخرة واقع السياسة وواقع المصالح وواقع رجال السياسة القادرين أن يحوّلوا أهلهم وناسهم إلى حطب يوقدونه حسب متطلباتهم ومشيئتهم. وبئس ما فيها أنّها تعبّر عن واقع شعب يحكمه ويقرّر مصيره بضعة أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وتأتمر السلطتان التشريعيّة والتنفيذيّة بهم في كل شاردة وواردة، في اختزال مقلق لا يقدّم تجربة ناجحة يُحتكم إليها في الشدائد، وما أكثرها وما أشدّ وطأتها في أيامنا هذه!

لقد فقدت البشرية توازنها وحياتها الطبيعية لأن الدول تفتقد نخبها من الرجال الحكماء، بعدما تعّرى العالم من النخب، إما بالغياب وإما بالتغييب، وبعدما بات الحكم في أيدي الرجال العاديين، حيث يحكم العالم رجال أعمال محنّكون بالمصالح وحدها، أو رجال ضعفاء لا يجرؤون على اتخاذ قرارات، أو رجال يجهلون التاريخ ولا يعرفون كيف تُدار الدول. وبات محيّراً كيف يمكن تطبيق ما نقل عن مفكر استراتيجي صيني من «أنّ القائد العظيم يكون من يقطف ثمار النصر من دون الدخول في المعركة».

وفي حين أنّ منطقتنا اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، على كف عفريت، حيث دماء الأطفال تسقط في لبنان وغزة، يواصل الساسة العالميون طريقهم. هم يلعبون ويختبرون ويتآمرون وينتقمون ويعدّون لصفقات تبدأ في أوكرانيا ولا تنتهي في الشرق الأوسط. وهمّهم الوحيد استدامة إسرائيل وكينونتها، فيما هي الجسم الغريب الذي زرعوه في المنطقة منذ خمسة وسبعين عاماً، فتعطلت معه من يومها كل مظاهر الحياة الطبيعية. وها هو التلويح الضاغط بإتمام صفقة القرن يطلّ علينا مجدّداً، فهل تمّت؟ أم هي على وشك ذلك؟ المعطيات تشير إلى استمرار المسعى في هذا الاتجاه، فيما يبقى الإخراج والتوقيت الحاسم لإنفاذها العملي والنهائي.

وأمام هذا الاستحقاق الهائل، أيّ صورة يقدّمها المسؤولون والسياسيون اللبنانيون لمواجهة الوقائع السلبية المترتبة على التطوّرات الدولية والإقليمية الدراماتيكية؟ وأي دور فاعل يضطلعون به باستثناء أنّهم يتساجلون إمّا بالمباشر وإمّا بواسطة محلّليهم وأبواقهم الاستراتيجيين والخبراء في كل شيء الذين يملأون الشاشات والمواقع الإلكترونية على اختلافها، أين صندوق الفرجة منها؟!

معظم الناس يقرّ ويعترف بأنّ «ساسة» لبنان يجرّون اللبنانيين بخلافاتهم العلنية إلى الانتحار الوطني، ويعيشون ويبنون أمجادهم المزيفة على الخلافات، وهم يختلفون على المنطلق كما يختلفون على الغاية. ويختلفون على السبل والوسائل لبلوغ الغاية، وفي الوقت عينه لا يتردّد هؤلاء الناس في السير وراء هؤلاء الساسة، إمّا بداعي الخوف وإمّا بداعي الحاجة. فيما يواصل أصحاب الذكر دورهم ليحيا الشاحنون ويتألم المشحونون، فيشرذمون المجتمع ويفتّتونه ويبعثرون صفوفه في مواجهة المصير الوطني عند أي مفصل تاريخي من حياة هذا الشعب وهذا الوطن.

أمّا هنا في لبنان، فسيتبلّغون ما يجب أن يفعلوه وسط اضمحلال مكوّنات الدولة وأعمدتها، ودخول انفجار المرفأ عالم النسيان، وانهيار الليرة اللبنانية تاركة الساح لاقتصاد الدولار، وفي شبه غياب لفعالية مكونات لبنانية ثلاثة، سيكون التنفيذ سهلاً ولن تكون أمامه عوائق تذكر ولا خسائر أكثر لتذكر.

أمّا المسألة اللبنانية فلا تزال مسألة من يقرر أن يكون لبنان صاحب دور أو مجرد حجر على رقعة أصحاب الأدوار. من يقرر، ومتى يقرر، وهو قرار صعب يكاد يكون مستحيلاً بعد التطورات الأخيرة إلا أنّ الأصعب من المستحيل هو الاستسلام الصعب كأنه المستحيل. فهل يمكن لانتفاضة الشعب وحدها أن تقرر الدور وترسم صورة واضحة للمستقبل أم هو مجرد حلم؟

***

*نداء الوطن 8-11-2023

اترك رد